تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية حالة من الغليان الداخلي على وقع “انقلاب حكومة نتنياهو على سلطة القضاء”، وسط استمرار الاحتجاجات العارمة التي تشهدها البلاد، يشارك فيها كبار الضباط في الجيش ومنتسبو الوحدات الخاصة الذين يرفضون التطوع للخدمة والانصياع لما يصفونه بالنظام الديكتاتوري الذي تعكف الحكومة على فرضه فقط لأنها تملك أغلبية بسيطة في البرلمان. كذلك علقت المدارس الحكومية الدراسة لتسمح للطلاب بالمشاركة في الاعتصامات، كما وقع 460 من رجال المخابرات السابقين على عريضة موجهة إلى وزير الزراعة الحالي آفي ديختر، رئيس المخابرات الأسبق، يطالبونه بالإدلاء بصوته ضد “الانقلاب القضائي”.
وقد حذرت كل من المستشارة القضائية الحالية للحكومة ومعها كل الحقوقيين بما فيهم قضاة المحكمة العليا الحاليين والسابقين، ورؤساء الجامعات وخبراء الاقتصاد، وأصحاب الشركات العاملة في التكنولوجيا فائقة الدقة “الهاي تك”، وكبرى بنوك العالم مثل “جي بي مرغان” و “غولدمان ساكس”، من النتائج الوخيمة المترتبة على الانقلاب القضائي والدستوري الذي تقوده الحكومة لإضعاف الجهاز القضائي.
هذا وقد أسفرت الصورة القاتمة التي تلف مستقبل إسرائيل في حالة تمرير خطة الحكومة ضد المحكمة العليا عن انخفاض سعر صرف الشيكل أمام الدولار بشكل ملموس، إضافة لتوقعات بعزلة دولية حيث عبرت حكومات في العالم وعلى رأسها الإدارة الأمريكية ذات النفوذ الحاسم على إسرائيل خلال الشهر الأخير بشكل واضح عن معارضتها لهذا الانقلاب الذي حسب رأيها سيضع حد للديمقراطية والقيم المشتركة التي تربط بين البلدين.
قراءة سطحية للأزمة في إسرائيل
في المقابل، فإن الفلسطينيين يتعاملون بسلبية مع هذه التطورات الخطيرة في إسرائيل وكأنها تحدث في الطرف الآخر من المحيط وليس في دولة تسيطر تماماً على حياتهم اليومية والمستقبلية. ويرتكز التجاهل الفلسطيني على تبرير بسيط، مفاده أن هذه الاحتجاجات تمثل صراعاً داخلياً في إسرائيل لذا لا يهمنا، بل على العكس. وحسب هذا المنطق الأعوج لا فرق بين المتظاهرين والمعارضين لحكومة نتنياهو وبين الحكومة ومخططاتها، إذ أن المعارضة الإسرائيلية التي تقود الاحتجاجات هي نفسها غير مهتمة لا من قريب ولا من بعيد في الشراكة أو التعاون مع العرب وكل ما تريده هو العودة إلى الديمقراطية الإسرائيلية بشكلها التقليدي المنقوص الذي يكرس التمييز العنصري تجاه العرب، فضلاً عن أن هناك شبه إجماع في الأوساط الشعبية والسياسية في فلسطين على أن اليهود موحدون بعدائهم للفلسطينيين ومن هنا مهما تكن النتيجة لهذا الصراع الداخلي لا يمكن له أن يحقق أي فائدة للشعب الفلسطيني.
هذه القراءة السطحية لما يحدث من أزمة سياسية حادة في إسرائيل إذ تعتمد على الواقع الظاهر إلا أنها مبسطة ولا تتعامل مع الجذور العميقة التي وضعت الدولة اليهودية بوضع حرج وانقسام داخلي غير مسبوق في تاريخها.
صحيح أن المتظاهرين يرفعون العلم الإسرائيلي وقد حولوه إلى رمز يوحدهم في الاحتجاجات في محاولة منهم لإبراز انتمائهم للوطن وكونهم أكثر إخلاصا لإسرائيل من الجناح الفاشي والمستوطنين. لكن اللافت وعلى الرغم من أن العداوة للفلسطينيين قد شكلت أساس الاجماع القومي الصهيوني منذ تأسيس الدولة إلا أننا كيف نفهم الانشقاق العميق للمجتمع إلى معسكرين متخاصمين حيث تتغلب الكراهية فيما بينهما على كراهيتهما للفلسطينيين. وقد أصبحت المحكمة العليا الإسرائيلية، ومعها كل المؤسسات الحاكمة من جيش ومخابرات والقضاء والصحافة والمحافل العلمية والثقافية بما فيها من يقودون الاقتصاد الإسرائيلي الخصم اللذوذ للائتلاف الحاكم. ويتهم اليمين المتطرف المتظاهرين المعارضين له بالخيانة وبأنها تدعي الى مقاطعة إسرائيل الإقتصادية في حين ترى المعارضة ان الحكومة غير شرعية وبالتالي يجب مقاومتها بكل الوسائل بما فيهم العصيان المدني.
الصراع اليوم داخل إسرائيل يدور على هوية البلاد، فهل ستكون دولة يهودية على حساب طابعها الديمقراطي العلماني؟ وهل سيتم ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل وفرض نظام فصل عنصري (الأبارتهايد) بشكل علني ومكشوف على الفلسطينيين؟ أم أن إسرائيل ستبقى دولة ديمقراطية ليبرالية على أساس الفصل بينها وبين الفلسطينيين إما من خلال دولة فلسطينية منقوصة السيادة أو حكم ذاتي هزيل على غرار ما هو قائم اليوم؟
الانقلاب الفاشي يفرض تغييراً فكرياً وسياسياً
قد يدفع هذا الصراع المحتدم الجناح الليبرالي إلى التساؤل: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ وكيف استطاع الجناح الديني الفاشي أن ينقلب على مؤسسي الدولة وعلى وثيقة الاستقلال نفسها؟
والإجابات المتداولة على هذه التساؤلات اليوم تأتي تبسيطية. في الواقع هناك نقطة ضعف جوهرية للنظام الاسرائيلي تكمن في غياب دستور يحدد الخطوط العامة للنظام ويحافظ على المبادئ الديمقراطية الأساسية وحقوق الأقليات، وهذا عكس ما يحدث في دول ديمقراطية في العالم. السبب لعدم وجود دستور هو بسيط، يتمثل برفض مؤسسي الدولة تحديد العلاقة بين الدين والدولة من ناحية وتحديد حقوق المواطنين العرب في البلاد من الناحية الأخرى. إضافة إلى ذلك أفرزت 56 عاماً من الاحتلال ظاهرة قوية جديدة تعرف بالصهيونية الدينية التبشيرية التي تريد تحقيق مطامع إسرائيل الكبرى، بل وفرض نظام يفرق بين من هو يهودي ويتمتع بكامل الحقوق وبين فلسطيني لا حقوق له على الإطلاق. ان سماح الحكومات المتعاقبة منذ 1967 ببناء كمية هائلة من المستوطنات أدى إلى تشكيل شريحة اجتماعية وسياسية قوية تتبنى أفكاراً فاشية وعنصرية صرفة وكل ذلك بدعم وحماية الدولة.
هذا الوضع الذي تم الغطاء عليه بواسطة جهاز كامل من القوانين والمؤسسات من المقرر أن يتم الكشف عنه اليوم بعد أن تسلم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش المسؤولية عن الإدارة المدنية التي تم سلخها عن قيادة الجيش. هذه الخطوة تعني أن الحكومة الإسرائيلية تسير نحو ضم الضفة الغربية عملياً وقانونياً إلى إسرائيل.
وإذا أضفنا الانقلاب على النظام الذي تقوده الصهيونية الدينية التبشيرية التي تسعى لفرض الشريعة اليهودية على أغلبية الإسرائيليين فلا يمكن من الآن وصاعداً فصل بين القضية الفلسطينية والديمقراطية، فهذه الحكومة جمعت القضيتين معاً رغم كل جهود المعارضة الليبرالية الابتعاد عن استخلاص العبر وإدراك العلاقة العضوية بين سيطرة القوة الدينية المتطرفة على المجتمع وبين نمو قوتها في المناطق المحتلة. إن ما تقوم به حكومة اليمين المتطرفة يكشف كذلك عبثية الموقف الفلسطيني غير المبالي والمتمسك بوهم بناء دولة فلسطينية منفردة في مناطق الـ 67، دولة لا تمتلك إلى اليوم أبسط المقومات السياسية والاقتصادية والإقليمية لقيامها.
السلطة الفلسطينية تريد تكريس الوضع الحالي
تستمر السلطة الفلسطينية في سلوكها وكأنها دولة ذات سيادة، لكن لن ينقذها ما تقوم به من تقديم الشكاوى إلى الأمم المتحدة والمحكمة الدولية في لاهاي، لأنها في الوقت نفسه تستمر بالتنسيق الأمني مع إسرائيل وبالمفاوضات برعاية الأمريكيين لتهدئة الوضع في المناطق المحتلة المشتعلة. هذا في الوقت الذي يواصل فيه الجيش الإسرائيلي عمليات المداهمة اليومية والقتل ويلاحق الشبان الفلسطينيين، وفي المقابل يرد هؤلاء بعمليات مسلحة ضد المستوطنين، الأمر الذي يحظى بتعاطف شعبي كبير طالما ليس هناك أي بديل لحل سياسي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية.
إن هذه العمليات المسلحة إذا تحبط وتربك الجيش الإسرائيلي وتثبت فشل الحل الأمني الذي تعتمده إسرائيل بدل من البحث عن حل للقضية الفلسطينية، إلا أن لا أفق سياسي لها وهي تزيد في نهاية المطاف الفوضى التي تسيطر اليوم على الضفة الغربية بسبب مداهمات الجيش الإسرائيلي الدموية الى قلب المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. ما نشهده حاليا هو حلقة مفرغة تدور ما بين العمليات المسلحة الفردية من قبل الشباب الفلسطيني والاقتحامات العسكرية الإسرائيلية وفقدان السيطرة من قبل السلطة الفلسطينية إضافة إلى إرهاب المستوطنين والعبث الذي ينشروه قطعانهم الذين يحرقون الأخضر واليابس مثل ما شهدنا في بلدة حوارة الأسبوع الماضي.
ضرورة توحيد القوى الديمقراطية من الطرفين
لا يوجد اليوم طرف في الجانب الإسرائيلي يدعي الديمقراطية، في المقابل ليس هناك طرف في الجانب الفلسطيني يقارن معركته ضد الاحتلال بحل ديمقراطي يشمل كلا الشعبين الذين يتصرعان اليوم. ولكن لكل منهما معركته الداخلية من جهة فإن الفلسطينيين يقبعون تحت نظام فلسطيني فاسد ومستبد سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. أما الإسرائيليون فيواجهون اليوم نظاماً فاسداً ومستبداً أيضاً وهم يعبرون بشكل صريح عن رفضهم له وبعضهم بات يفضل الهجرة إلى خارج البلاد بدل الحياة في دولة يحكمها الائتلاف الفاشي الحالي.
أما القوى الديمقراطية من الطرفين فهي معزولة عن بعضها، تحت ذريعة “لا يوجد شريك” وشعارات “دولتين للشعبين والفصل بين الشعوب” أو “المقاطعة ومنع التطبيع” ويساهم في إبقاء هذا الوضع على ما هو عليه اليوم بأيدي المستبدين من كلا الطرفين الإسرائيلي ولفلسطيني الذين تربطهم علاقة تضامن ضمنية ويتعاونون من أجل الحفاظ على مكانتهم وسلطتهم.
إن ما يحدث من أزمة وجودية في إسرائيل من صراع دموي ومحتدم في الضفة الغربية يدل على إننا أمام منعطف تاريخي سيحدد ليس مصير إسرائيل فحسب، وإنما مصير الفلسطينيين أيضاً. وقد يفرض هذا الواقع الجديد طرح فكرة وبرنامج جديد من “خارج الصندوق” مما يعني خارج فرضية “حل الدولتين” وإزالة كل الجدران الفاصلة بين الديمقراطيين الإسرائيليين والفلسطينيين. والمهمة الرئيسية أمام القوى السياسية الديمقراطية الفلسطينية ليست التقوقع والابتعاد عن الصراع الداخلي في إسرائيل بل على العكس، طرح برنامج ديمقراطي على أساس الاعتراف بأن لا عودة إلى الماضي وأن الواقع الحالي يفرض علينا الاعتراف بأن علينا أن نعيش في دولة واحدة ما بين نهر الأردن والبحر.
والمعادلة اليوم أصبحت واضحة إما ديمقراطية تشمل الإسرائيليين والفلسطينيين أو “نظام أبارتهايد” يقمع الفلسطينيين بوحشية ويحول حياة الإسرائيليين إلى جحيم. المطلوب إذاً هو تطوير وصياغة رؤية تضمن الحريات الأساسية للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني سويةً.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.