أصبحت إسرائيل “مكّة” بالنسبة لرابطة اليمين القومي العالمي. فمن رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، زعيم الحزب القومي الهندوسي، الى فيكتور اوربن المجري والرئيس التشيكي. يبدو إن الزيارة الى إسرائيل هي شهادة حسن السلوك، التي يبحثون عنها جميعاً. واليوم سيتم إستقبال ماتيو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي، وزعيم حزب “رابطة الشمال”، الذي يتمتع بشعبية كبيرة جدا في بلاده، وهو لا يخفي إعجابه “بالدوتشي” موسوليني وماضي إيطاليا الفاشي.
إن ما يجمع بين كل هؤلاء، هو العداوة للإسلام، ورفضهم المطلق لهجرة اللاجئين الأفارقة والعرب الهاربون من المجاعة والمجازر في بلدانهم الأصلية. وتحظى هذه الحركة اليمينية المتطرفة، بالدعم التام من الرئيسين الأمريكي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين.
وما كان يعتبر ظاهرة هامشية قبل سنوات قليلة، أصبح اليوم تيارًا جارفًا يجتاح أوروبا برمتها ويهدد وحدة الإتحاد الأوروبي ككتلة سياسية إقتصادية نافذة. ويتحدى هذا التيار النظام الديمقراطي الليبرالي الذي تكوّن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والقضاء على النازية والفاشية.
إن ظاهرة السترات الصفراء في فرنسا، تدل على ان نظام العولمة وإقتصاد السوق النيوليبرالي قد وصل الى طريق مسدود، إذ أنه قد ادى الى صعود اليمين الفاشي المتمثل بدونالد ترمب والحركة اليمينية في بريطانية التي فرضت الإستفتاء حول البريكسيت، واليوم مظاهرات السترات الصفراء التي هزت أركان الحكم في باريس وتهدده.
إنها حركة الطبقات العمالية وسكان الريف في كل من الولايات المتحدة، بريطانية وفرنسا، التي تضررت من العولمة وفقدت مصدر رزقها والتي تشعر اليوم بأن مستقبلها غير آمن وترى في المؤسسة الليبرالية الحاكمة، مصدر كل مصائبها. إن الشعار الذي ترفعه هذه الحركة اليمينية الفاشية وتبني قوتها عليه بسيطًا جدًا: “لا للهجرة”.
لقد تحولت الطبقة العاملة في الدول الصناعية، من قاعدة القوى اليسارية والثورية الى قاعدة لحركة ثورية معاكسة – ثورة القومية اليمينية وأصبحت القاعدة الإنتخابية لدونالد ترمب الذي يثور دون رحمة ضد مؤسسات الدولة من السلطة التشريعية حتى السلطة القضائية، ويستهتر حتى بالمؤسسات الأمنية المقدسة في أمريكا مثل سي أي أيه (CIA) ، وإف بي أي (FBI) واللتان تلاحقانه بشبهات التواطؤ مع الروس ضد الحزب الديمقراطي إبان حملة الإنتخابات للرئاسة عام 2016.
إنها حركة ثورية رجعية قلبا وقالبا، ففي سعيها للإنسحاب عن العولمة رفعت الشعار “امريكا اولا” مثلا أو “بريطانيا اولا”، او إيطاليا والمجر لمواطنيها وليس للمهاجرين. ويدعو أنصار الحركة الى التقوقع والعودة الى ماض مشرف وهمي. ومثلما تبجح الزعيم النازي أدولف هتلر بالطبيعة النبيلة الموهومة للعرق الآري، وتبجح الزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني بالعودة لأيام الامبراطورية الرومانية، يدعو اليوم ترمب الى إحياء أمريكا في ستينيات القرن الماضي ما قبل ظهور الصين والإتحاد الأوروبي واليابان كمنافسين لها. فالعولمة أفادت الصين بعد ان إنتقلت اليها الصناعة العالمية، وساهمت في إفراغ المصانع الأمريكية وحولت عمالها الى جيش العاطلين عن العمل الذي فقد الثقة بالدولة والنظام الإقتصادي والسياسي.
ورغم الحرب التجارية التي بادر إليها ترمب ضد الصين والعودة الى أيام أسوار الجمارك لحماية الصناعة القومية المحلية، فقد تبين ان هذه الحرب خاسرة لا محالة. فالعولمة تحولت الى واقع إقتصادي ثابت بفضل ثورة الإنترنيت، والإختراعات التكنولوجية الحديثة، والتداخل العضوي لإقتصادات العالم كله.
إن السياسة التي ترتكز على إتهام الأجانب بكل مصائب العمال والمجتمع والدعوة لبناء الأسوار بين الدول كما يطرح ترمب في العلاقة بين أمريكا والمكسيك، وعلى رفض سالفيني الايطالي إنقاذ اللاجئين الأفارقة من الغرق في مياه المتوسط، هي سياسة التي ليست بها أجوبة حقيقية للمشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي تعاني هذه الطبقات العمالية. هؤلاء ينظرون الى تردي مستوى معيشتها بسبب الخلل في توزيع الثروة الوطنية، والتي تكدست بأيدي القلة القليلة من النخب المسيطرة، في حين حولت الأغلبية الساحقة من السكان الى فئات فقيرة جدا، الأمر الذي يدفعها الى التذمر وأحيانا الى الثورة ضد النظام.
وأمام هذه الظاهرة القومية الفاشية يبقى اليسار التقليدي عاجزاً عن تقديم أجوبة واضحة، فهو يتفاهم مع “العمال الغاضبين”، ويعارض العولمة كونها قد أفادت رأس المال على حساب العمال وينافس اليمين المتطرف بمحاولة يائسة لإبراز قوميته حيث أنه يعلن عن تعاطفه مع العمال المتخوفين من الأجانب ومن حرية الحركة التي يسمح بها الإتحاد الاوروبي، ومن النظام الليبرالي برمته.
فرئيس حزب العمل البريطاني المعارض جيرمي كوربين يتماشى مع الدعوة الى فك العلاقة بالإتحاد الأوروبي (البريكسيت) ويميل الى مواقف روسيا على النطاق العالمي ويدعم بشار الاسد كونه “معاد للإمبريالية” ويتعاطف مع حزب الله وحماس كونهما حركتين تقاومان إسرائيل. هذه المواقف يتشاركها أغلبية اليسارين والشيوعيين في أوروبا وأمريكا.
هذا النوع من اليسار التقليدي الجامد في تفكيره يتمسك بالطبقة العاملة لأنها كانت في الماضي قاعدة القوة اليسارية بموجب دورها المركزي في الثورة الصناعية الاولى في القرن التاسع عشر والثانية في القرن العشرين. لكنهم ينكرون ويتجاهلون ما حدث لنفس العمال اليوم بفعل الثورة الصناعية الحديثة التي تشمل ثورة الانترنيت، والطاقة المتجددة والعقل الإصطناعي وتكنولوجيا البلوكشين وإنترنيت الأشياء والسيارة الذاتية والطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتيك.
إن هذه الثورة المضادة القومية اليمينية بطبيعتها لا مستقبل لها وستفشل كما فشلت النازية والفاشية من قبل، حيث إضطرت البشرية أن تدفع ثمنًا باهظًا جدًا بالأرواح والدمار المادي. إن القومية مثلها مثل الشيوعية قد نشأت بشكل موازي في القرن التاسع عشر وتحولت اليوم الى ظاهرة رجعية بطبيعتها.
إن الفكر القومي العربي، والصهيونية كحركة قومية إستعمارية، والقومية الحديثة المتمثلة في ترمب، نتانياهو وحلفائهم في أوروبا يقف عاجزاً أمام الثورة التكنولوجيىة التي قلبت وبدلت كل المفاهيم. إن كبرى الشركات العالمية اليوم ليست شركات الإنتاج الصناعي، بل تشكل منصات إفتراضية تسهل التبدل التجاري والمعلوماتي. هذه الشركات لا تشغل الملايين من العمال رغم أرباحها العملاقة ولا تعيش من إستغلال اليد العاملة والقيمة الفائضة. إن الشركات مثل فيسبوك وأمازون وعلي بابا وغوغل وميكروسوفت وآبل تقود اليوم الإقتصاد العالمي وهي جميعها شركات ليست “قومية” بل عابرة الحدود، تستند الى خبراء الخوارزمية، وتشرح عنها موسوعة ويكبيديا “سميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي إبتكرها في القرن التاسع الميلادي. الكلمة المنتشرة في اللغات اللاتينية والأوروبية هي algorithm”.
وإذا تقادم زمن المذهب الشيوعي، الذي اسسه ماركس في القرن التاسع عشر كرد على الثورة الصناعية والتكنولوجية فعلينا ان ندرك ان الرأسمالية التقليدية التي اخترعها العالم البريطاني آدم سميث في القرن الثامن عشر وصلت هي أيضا الى طريق مسدود.
فالحقبة التأريخية التي بدأت مع حكم دونالد ريغن ومارغريت تاتشر في مطلع الثمانيات من القرن الماضي والتي تميزت بتطبيق مذهب آدم سميث بحذافيره وإطلاق العنان لقوانين السوق الحرة وصلت الى نهايتها التراجيدية في سنة 2008 مع إنهيار أسواق المال في كل من نيو يورك ولندن. وكان أكبر إثبات على فشل النظام الرأسمالي النيوليبرالي هو صعود دونالد ترمب، والبريكسيت والمظاهرات للسترات الصفراء في فرنسا.
البديل للقومية الإنعزالية المعادية للأجانب، ولحقوق النساء، وللقيم الديمقراطية، وكذلك للشيوعية المتحجرة التي بقيت مخلصة لديكتاتوريا البروليتارية والنظام الإستبدادي باسم النضال ضد الامبريالية، يبقى نوع جديد من الأممية التقدمية والتضامن بين الشعوب من أجل إنقاذ الانسانية من كوارث بيئية كانت او حروب مدمرة مثل ما نشهد اليوم في منطقة الشرق الاوسط. إن الصهيونية وضعت كل آمانها في الحركة القومية وتحالفاتها تمتد من واشنطن الى موسكو ومن إيطاليا الى السعودية مما يدفع نتانياهو للتباهي بأن علاقات إسرائيل الخارجية أقوى من أي زمن اخر.
ان الانتخابات الامريكية الاخيرة للكونغرس، وفوز الحزب الديمقراطي بفارق أربعين مقعد على أنصار ترمب، وكذلك الفوضى السياسية في بريطانية بسبب المخاوف من نتائج الإنفصال عن الإتحاد الأوروبي – تثبت وتؤكد على ان الصهيونية وصلت هي أيضا الى طريق مسدود. وأن حزب الليكود الحاكم يغازل الأحزاب التي تدعم اللاسامية المعادية لليهود في اوروبا لكي يتهرب من حل مشكلة اسرائيل الأساسية وهي القضية الفلسطينية.
ان نتانياهو مثله مثل كل حلفائه يعرف كيف يجند الجماهير ويحرّضها على الكراهية للأجانب والعداء للفلسطينيين لكنه لا يمتلك الأجوبة أو الحلول لمشاكله وسيصطدم بالواقع آجلا ام عاجلا. ان زمن الحدود والأسوار الفاصلة، والكراهية العرقية والقومية قد ولى والحل الوحيد للإنسانية هو التضامن والتوزيع العادل للموارد. أما في إسرائيل فلا مفر من إزالة الأسوار الفاصلة، وتشكيل دولة واحدة على أساس إقتصاد واحد يجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ضمن نظام ديمقراطي يضمن لكل المواطنين حقوقهم، كمواطنين متساوين في المجال الإقتصادي والإجتماعي والثقافي كجزء لا يتجزأ من عالم عربي وعالمي ديمقراطي جديد.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.