أوباما تائه والأسد ضائع

ألقى الرئيس أوباما في العاشر من أيلول خطابًا للأمّة الأمريكيّة، عاد وبرّر فيه قراره بمهاجمة سوريا، وفي نفس الوقت تراجع عنه ليمنح فرصة للاقتراح الروسيّ القاضي بتجريد النظام السوريّ من سلاحه الكيماويّ. في نفس اليوم نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالاً يروي قصّة أمريكا ويسلّط الضوء على عجز الرئيس إقناع شعبه بصدق طريقه.

أوباما تائه

تحت العنوان “الأثرياء ازدادوا ثراءً في فترة الانتعاش الاقتصاديّ”، نشرت الصحيفة بحثًا يبيّن أنّه منذ الأزمة الاقتصاديّة الكبرى عام 2008 وحتّى اليوم، حاز العُشر العلويّ على نصف المدخولات، وَ %1 من مجمل الأمريكيّين حازوا على خُمس المدخولات. وأضاف هذا البحث أنّ %1 من أصحاب الدخل عانوا من انخفاض حادّ تبلغ نسبته %36 أثناء الكساد الاقتصاديّ، وبعد الانتعاش الاقتصاديّ ارتفعت النسبة مرّة أخرى إلى %31. بخلاف ذلك، دخل سائر الـ %99 انخفض بنسبة %12، ولم يستعيدوا دخلهم المفقود، وارتفع دخلهم منذ ذلك الحين بنسبة %0.4 فقط. أي أنّه منذ انتهاء الكساد الاقتصاديّ حاز %1 على حوالي %95 من الأرباح.

بعد انتخاب أوباما في فترة حكمه الأولى، وعد بأمرين: تغيير سلّم الأولويّات الاجتماعيّ، وإخراج أمريكا من الحرب في العراق وأفغانستان. وفى أوباما بوعده الثاني، لكنّه فشل فشلاً ذريعًا في كلّ ما يخصّ الجزء الأساسيّ من وعده. لذلك شكّل أوباما أكبر خيبة أمل عرفتها أمريكا في العقود الأخيرة، وعد بالتغيير ولم يفِ بوعده. يعيش عُشر السكّان في أمريكا حياة مرفّهة، وَ %90 لا يكفيهم دخلهم. الشعب الأمريكيّ لا يصدّق أوباما بعد الآن، ولذلك فإنّه يدفع الثمن السياسيّ بكامله. لو أجرى البيت الأبيض استطلاعًا للرأي حول السياسة الاقتصاديّة التي ينتهجها أوباما، كان سيحصل على نفس النسبة المئويّة المتدنّية التي حصل عليها في مسألة مهاجمة سوريا.

الشعب الأمريكيّ لا يكترث بما يحدث في سوريا، فقد تعب ويئس من الحروب. فقد الشابّ الامريكيّ الأمل في العثور على عمل يلبّي احتياجاته، والعمل المتاح هو عمل بأجر أدنى في شبكات مطاعم مكدونالدس ووولمرت وأمازون. البطالة في ازدياد ومشاركة المواطنين في سوق العمل هي الأدنى منذ 35 سنة. يتساءل الأمريكيّون- لماذا نحارب في سوريا من أجل السوريّين في حين لا أحد يلتفت إلينا ليحسّن وضعنا؟ لماذا ننفق مليارات الدولارات على الحروب في حين تعاني مدارسنا من الانهيار والبنى التحتيّة مهدّمة، ولا تستثمر الإدارة في توفير أماكن عمل حقيقيّة؟ صور الأطفال الذين اختنقوا من غاز السارين في منطقة دمشق بشعة بالفعل، لكنّ الذي يحارب من أجل معيشته لا يملك القدرة على التماثل مع ضحايا بعيدين عنه.

كان بوسع أوباما أن يأمر بمهاجمة سوريا بدون موافقة الكونغرس، لكنّه تردّد وأراد موافقة الحزب الجمهوريّ، وبذلك واصل نهجه الهدّام الذي أضعفه منذ بداية فترة حكمه. أدّت رغبته في إرضاء الجمهوريّين إلى شلّ إدارته  تمامًا. فقد أوباما الأغلبيّة في الكونغرس وكبّل نفسه في سوريا، حيث بان ضعفه. صحيح أنّ نوايا أوباما المعلَنة تبدو صادقة، لكن لا يمكن اعتباره زعيمًا.

الأسد ضائع

الأسد قابع في الجانب الآخر من المعادلة، وهو عكس أوباما تمامًا. لا يدين الأسد شيئًا للرأي العامّ أو لمؤسّسات ديمقراطيّة ويمكنه أن يكذب بوقاحة، في حين يطالب شعبه بالولاء التامّ؛ ورث الأسد الحكم من والده، بخلاف أوباما الذي تخلّى والده عنه، ووصل إلى مكانته بفضل مؤهّلاته. مع ذلك هناك شيء مشترك بينهما. الأسد أيضًا يمثّل %1 من السوريّين، في حين يعاني %99 من الفقر والعدم. لا شكّ أنّ الشعب الأمريكيّ يتمتّع بمستوى معيشة عالٍ وبحرّيّة التعبير عن رأيه، في حين تفتقر سوريا للصحافة الحرّة وسجونها تعجّ كقبورها بالمعارضين السياسيّين. لذلك قام الشعب السوريّ ضدّ النظام ويدفع ثمنًا باهظًا جدًّا في نضاله من أجل الحرّيّة، في حين يكتفي الشعب الأمريكيّ بالتعبير عن معارضته في الانتخابات وفي استطلاعات الرأي. لكن هناك قاسم مشترك واسع بين الشعبين- كلاهما يسعيان إلى مجتمع يخدم %99 على حساب الـ %1.

من جهة ثانية، غياب قيادة أوباما وفشله السياسيّ لن ينقذا الأسد. القضيّة السوريّة مطروحة اليوم على الأجندة العالميّة، حتّى ولو جاء ذلك متأخّرًا بعد 100 ألف قتيل وسبعة ملايين لاجئ. الضحايا الـ 1400 الذين قُتلوا بغاز السارين هزّوا مشاعر العالم، ولا يمكن تجاهل جرائم الأسد بعد اليوم.

اضطرّ الأسد للاعتراف بحيازته مخزونًا هائلاً من السلاح الكيماويّ، رغم رفضه الاعتراف بذلك في المقابلة التي أجراها معه التلفزيون الأمريكيّ قبل يوم من ذلك. مجرّد موافقته على مراقبة وتدمير السلاح الكيماويّ هو اعتراف غير مباشر من جانبه بأنّه هو المسؤول عن المذبحة الفظيعة التي حدثت في 21 آب في ضواحي دمشق. لولا التهديد العسكريّ الأمريكيّ الفوريّ لما تحرّكت روسيا لمساندة الأسد ولما اقترحت الصفقة التي توجّه إصبع الاتّهام إلى دمشق وتناقض ادّعاءاتها. لماذا سارع الروس إلى اقتراح صفقة تضع السلاح الكيماويّ تحت إشراف دوليّ، لو كان المتمردّون هم الذين استخدموا السلاح الكيماويّ على حدّ قولهم؟

مَن يعتقد أنّ الصفقة التي يتداولها الروس والأمريكيّون ستنقذ الأسد مخطئ تمامًا. الاقتراح الروسيّ هو أوّل خطوة في قبول المطلب القاضي بأنّ على الأسد أن يرحل. إذا كان الأمريكيّون على قناعة بأنّ الأسد استخدم السلاح الكيماويّ ضدّ شعبه، فمن الواضح لهم أنّه لا يمكن أن يكون شريكًا في تسوية مستقبليّة في سوريا. بل وأكثر من ذلك، حتّى الآن استغلّ الأسد جميع المبادرات الدبلوماسيّة للمضيّ في حملات القتل التي يمارسها ضدّ شعبه، لكنّ نهايته قريبة. صحيح أنّ أوباما سيخرج من هذه الجولة ضعيفًا، لكنّ الأسد يعمل اليوم تحت رقابة العالم بأسره، ومجال مناوراته آخذ في التقلّص.

تحتاج التسوية الدبلوماسيّة في سوريا إلى مشاركة فعّالة من جانب المعارضة السوريّة، التي كانت ستفقد تأييد الشعب لو دخلت في مفاوضات مع الأسد. يمكن إرجاء الهجوم الأمريكيّ بمناورات دبلوماسيّة وبمحاولات لكسب الوقت، لكن لا يمكن التوصّل إلى تسوية بدون موافقة الطرفين، ولا يستطيع الأسد أن يكون شريكًا في تسوية مستقبليّة، لذا عليه الرحيل. يكشف استخدام الأسد للسلاح الكيماويّ مدى الضغط الذي يعاني منه وبأنّه لا يقدر على حسم التمرّد ضدّة. يبدو أنّ بوتين أيضًا نفد صبره بعد سنتين ونصف من المناورات الدبلوماسيّة التي قام بها وشلّت مجلس الأمن. أدّى الأسد إلى تورّط عالميّ لروسيا يتعدّى القدر الذي تستطيع تحمّله.

عمل أوباما حتّى الآن في التشهير بالثورة السوريّة وإضعاف المعارضة الديمقراطيّة. أبرزت الصحف الأمريكيّة أعمال العناصر الجهاديّة التي لها علاقات مع القاعدة، وبذلك ساوت بين الأسد ومعارضيه، ممّا أدّى إلى عرض صورة غير حقيقيّة وبعيدة عن الواقع. في النهاية، عندما حاول أوباما إقناع الأمريكيّين بأنّ الأسد هو المجرم، حصد الشكوك التي زرعها خلال فترة طويلة في الرأي العامّ الأمريكيّ.

اضطرّ أوباما في خطابه للشعب الأمريكيّ أن يعترف أخيرًا بالواقع عندما أوضح قائلاً: “صحيح أنّ قسمًا من المعارضين للأسد متطرّفون، لكنّ القاعدة ستتعاظم قوّتها طالما سادت الفوضى في سوريا وسيعلم السوريّون أنّ العالم لم يحرّك ساكنًا أمام قتل الأبرياء بالغاز. معظم الشعب السوريّ والمعارضة السوريّة التي نعمل معها، يريدون العيش بسلام وبكرامة وبحرّيّة”. كان يجب أن تُقال هذه الكلمات منذ بداية الثورة، وهي شاهد على أنّ نضال الشعب السوريّ صادق ويستحقّ تأييد كلّ إنسان لديه ضمير.

عن