أودّ في البداية أن أعترف بأنّني لم أصوّت لأوباما، رغم سروري الكبير لفشل رومني. بل وأعترف أيضًا أنّني في الانتخابات السابقة امتنعت عن التصويت لأوباما، ومع ذلك سررت لانتخاب رئيس أسود للولايات المتّحدة. إنّني معجب بلنكولن الجمهوريّ، ويبدو لي أنّه لم يتخيّل ولم يخطر حتّى على باله بأنّه سيأتي الوقت الذي يُنتخَب فيه رئيس أسود من الحزب الديمقراطيّ. المشكلة أنّني لم أعتد على التصويت لشخص معيّن، وإنّما لبرنامجه الانتخابيّ، وأوّل رئيس أسود في الولايات المتّحدة، ترشّح للرئاسة في إطار الحزب الديمقراطيّ، الذي يمثّل المؤسّسة البيضاء ورأس المال.إنّني بخلاف كلّ الآلاف الذين صوّتوا لأوباما، لم يخب أملي. بل بالعكس قام أوباما بأعمال لم أتوقّعها منه، وفي مقدّمتها الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة؛ ذلك الخطاب الذي بشّر بالربيع العربيّ وجعل الحكومة الإسرائيليّة تتّخذ الحيطة وتكون على أهبّة الاستعداد. استجاب أوباما للمشاعر الأمريكيّة المناهضة للحرب وانسحب من العراق، وانتهج سياسة معتدلة تجاه إيران، والأهمّ أنّه خلّصنا مؤقّتًا من فساد جورج بوش ورفاقه التبشيريّين. لكن، وكما تثبت الانتخابات الأخيرة، المحافظون المتطرّفون والتبشيريّون لم يغيبوا عن الساحة، وعلمنا بأنّ ما نراه الآن سيكون في السنوات الأربع التالية يزيد من تخوّفاتي.
بعد تولّيه منصبه قبل أربع سنوات، حرص أوباما على تكبيل يديه جيّدًا، عندما عمل مع طاقم اقتصاديّ يؤمن بوول ستريت والبنوك الكبرى. تيم چيتنر وبن برننكي ولاري سامرس حرصوا على ألاّ يُمسّ بسوء هؤلاء الذين كانوا وراء الكارثة الاقتصاديّة الكبيرة التي امتدّت آثارها إلى أوروبا كلّها. تحوّل البيت الأبيض إلى حامي الرأسماليّين الكبار، الذين جنوا ملايين الدولارات بالمراوغة والتحايل، وخلّفوا وراءهم ملايين البشر بدون عمل وبدون مصدر رزق وبلا بيت. كان ذلك السبب الأساسيّ لخيبة الأمل من أوباما، ولظهور حركة “حفلة الشاي”، التي عبّرت عن غضب المواطن الأبيض الذي كان أكثر المتضرّرين من الأزمة الاقتصاديّة.
رغم خيبة الأمل، السود واللاتينيّون والنساء والشباب عادوا ومنحوا الفوز لأوباما. رغم خيبة أملهم، لم يستطع السود الامتناع عن الردّ على عنصريّة الناخبين البيض للحزب الجمهوريّ؛ اللاتينيّون الأمريكيّون، المتديّنون بطبيعتهم، انتقلوا إلى تأييد أوباما في أعقاب القانون الذي ينظّم الهجرة، ولم تستطع النساء تأييد من يحظر الإجهاضات. إلاّ أنّ أمريكا ليست جمعًا لأقلّيّات، ولا يزال %70 من سكّانها من البيض، الذين يعتبرون أنفسهم جزءًا من الطبقة الوسطى؛ المكوّنة من عمّال شهدوا تسامح الحزب الديمقراطيّ تجاه البنوك الكبرى وكرمه تجاه الأقلّيّات. بكلمات أخرى، الطبقة الوسطى البيضاء تشهد على تعرّضها للظلم مرّتين؛ مرّةً من قبل البنوك وأخرى من قبل الدولة التي تجبي منها الضرائب بغرض تمويل الأقلّيّات “المتقاعسة”. هكذا ظهرت القوميّة البيضاء وكراهيّة الغرباء وسلب الديمقراطيّة والفاشيّة.
المحافظة على النهج الاقتصاديّ القائم
تثبت السنوات الأربع الأولى من حكم أوباما أنّه لا يملك حلاًّ للأزمة. فقد وعد بتغيير النهج الاقتصاديّ، لكنّ ما يفعله هو مجرّد المحافظة عليه. صحيح أنّه وظّف تريليون دولار لدفع النموّ الاقتصاديّ من خلال الامتيازات الضريبيّة ومساعدة الحكم المحلّيّ المنهار وتشجيع العمل عن طريق منح ضرائب مريحة للأشغال، لكنّه في الوقت نفسه منح عشرة تريليونات دولار! أخرى للبنوك عن طريق البنك الفدراليّ، من خلال آليّة تسمّى “التوسيع الكمّيّ”.
وبالفعل، ما يحدث في أمريكا هو من العجائب! من جهة تزداد البطالة وينهار الاقتصاد ،ومن جهة أخرى تزدهر الشركات الكبرى وتزداد أرباحها. بعد أن قامت الإدارة الأمريكيّة بإنقاذ البنوك عن طريق منحها قروضًا سخيّة، ردّت البنوك بالشكر وأخذت الأموال التي منحها إيّاها البنك الفدراليّ واستثمرتها في المراهنات في البورصة. أمل أوباما بأن تعود هذه الأموال إلى الاقتصاد الحقيقيّ وأن توفّر أماكن عمل جديدة، لكنّ الأموال ذهبت بالذات بالاتّجاه المعاكس. ذهبت الأموال إلى الاقتصاد الافتراضيّ وإلى التلاعبات والاتّفاقيّات المستقبليّة والتجارة بالعملة وإلى المزيد من “المشتقات الماليّة” التي تضمن الأرباح الفوريّة، ولم تذهب إلى الاستثمار في الصناعة التي تضمن أرباحًا قليلة نسبيًّا، وتمرّ سنوات كثيرة لاسترجاع الاستثمار.
لا ترغب البنوك الأمريكيّة والشركات الكبرى في تمويل الطبقة الوسطى البيضاء، ولا ترغب بمدًى أكبر في تمويل الأقلّيّات. أماكن العمل المنظّمة في صناعة السيّارات والفولاذ والبلاستيك والنسيج انتقلت منذ زمن طويل إلى خارج حدود الدولة. تحوّلت الصين إلى دولة اقتصاديّة عظمى لأنّها دولة منتِجة، بخلاف أمريكا التي تعتبر مستهلِكة في الأساس. تحوّل وول ستريت إلى مكان ضخم لجني الأرباح الخياليّة، ويتّسع بوتيرة سريعة للغاية معتمدًا على الأموال الرخيصة التي تغذّي صناعة المال. طالما لن تُفرض قيود على وول ستريت ولن تُحوَّل الأموال إلى المسارات الإنتاجيّة- سيستمرّ الكساد الاقتصاديّ والبطالة المزمنة والفجوات الاجتماعيّة المتفاقمة والاستقطاب الاجتماعيّ الذي تستند إليه الأيديولوجيّة اليمينيّة الأصوليّة.
في حين أنّ ألمانيا في أوروبا تقف بالمرصاد وتملي سياسة التقشّف، يعمل أوباما بالاتّجاه المعاكس، والنتائج سلبيّة: نسبة البطالة لا تنخفض عن الثمانية بالمئة الثابتة والاقتصاد لا ينتعش. لذلك لاحظنا أنّ مرشّحًا ليس متميّزًا مثل ميت رومني شكّل خصمًا عنيدًا لأوباما حتّى اللحظة الأخيرة، وهذا السبب لذلك بأنّ فترة رئاسته لن تكون مستقرّة.
هناك حاجة للاعب ثالث في اللعبة السياسيّة
أثناء الكساد الاقتصاديّ الكبير عام 1929 انتُخب الرئيس روزفلت، ووضع خطّة نيو ديل. لم يخف روزفلت من البنوك الكبيرة، التي كانت، كما هي الحال اليوم، مسؤولة عن الكارثة الاقتصاديّة الكبرى التي أدّت إلى ظهور الفاشيّة في أوروبا، وفرض الرقابة عليها. لم ينجح أوباما بتاتًا في تقييد خطى البنوك وتغيير قواعد اللعبة الاقتصاديّة؛ فهو أيضًا يؤمن بنظريّة السوق الحرّ، الذي يرى في الربح غاية الاقتصاد، ويحاول تخفيف حدّة الوضع من خلال فرض ضرائب على الأثرياء، ولكن بدون نجاح يذكر، بسبب المعارضة الشديدة من جانب الكونغرس الجمهوريّ الذي يقف ضدّه. انتُخب روزفلت أربع مرّات متتالية رغم أنّه لم ينجح في إنقاذ أمريكا من الكساد الاقتصاديّ، وأوباما انتُخب للمرّة الثانية بصعوبة شديدة، لكنّ الثقة به تضعضعت.
بالفعل لم أصوّت لأوباما، لأنّ أربع سنوات أخرى كالتي كانت ستؤدّي إلى تدهور أمريكا وستجرّ العالم معها. التغيير الذي وعد به أوباما لم يحدث، لأنّه لم يغيّر شيئًا في المنظومة الاقتصاديّة. لكنّ هذه المنظومة الاقتصاديّة ستنهار في النهاية بسبب أنّ البنوك والشركات الكبرى تجني أرباحها في عالم افتراضيّ وتضيّق الخناق على الاقتصاد الحقيقيّ. إذا كانت تكلفة الانتخابات 6 مليارات دولار، فإنّ ذلك دلالة على أنّ الديمقراطية قد فقدت ماهيّتها. وإذا كان الرئيس يحصل على تمويل من الشركات الكبرى فإنّه يكفّ عن تمثيل الناخب، وإذا كانت الجهود لإنعاش الاقتصاد تتلخّص في مساعدة البنوك بلا حدود بذريعة منع حدوث انهيار اقتصاديّ، فلا احتمال لانتعاش أمريكا. المجتمع الأمريكيّ مريض ومتصدّع، والجهاز السياسيّ لا يقوم بوظيفته كما يجب، وكذلك المنظومة الاقتصاديّة. أثبت أوباما أنّه ليس هو الردّ المناسب لهذا الوضع.
أمريكا، مثل الكثير من الدول الرأسماليّة في العالم، هي رهينة في أيدي حزبين كبيرين تتحكّم بهما الرأسماليّة الكبيرة. يمكن قطع هذا الرباط العويص فقط من خلال ظهور لاعب ثالث من خارج نهج الحزبين. المبالغ الماليّة اللازمة لمشاركة مرشّح مناسب، تردع المواطنين الذين على علم بأنّه لا فائدة من ذلك، ويضطرون لانتخاب المرشّح الأقلّ سوءًا مرّة تلو الأخرى. ربّما لا يكون الوضع في أمريكا سيّئًا بما فيه الكفاية، وما زال الأمريكيّون يؤمنون بأوهام النهج الاقتصاديّ القائم، لكن إذا استمرّ أوباما بنفس الطريقة، فإنّ الأزمة آتية لا محالة.
ملايين الشباب الذين تجنّدوا لصالح أوباما يأملون بمستقبل أفضل. يرى هؤلاء الشباب مستقبلهم يضيع ولا يجدون عملاً ويشعرون بالضياع. كالكثيرين غيرهم، يمثّل هؤلاء الشباب الربيع القادم في الأفق. لا أحد سواهم يستطيع تقويض النهج الاقتصاديّ الذي يظهر وكأنّه غير قابل للتغيير، وما فعله الشباب في ميدان التحرير، لا سبب بأن لا يحدث في ميدان تايمز.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.