إسرائيل ترسم حدودها من جديد

 

من يطّلع على الصحف الإسرائيلية اليومية لا يشعر بالكارثة التي يعيشها جيران إسرائيل العرب من جنوبها وشمالها. الشغل الشاغل في إسرائيل اليوم هي معركة يشنها أطباء الأطفال المصابين بالسرطان في مستشفى هداسا ضد الإدارة، مظاهرات ذوي الاحتياجات الخاصة المطالبين برفع مخصصات التأمين الوطني لتساوي الحد الأدنى للأجور، والنزاع بين الحكومة والجالية اليهودية في أمريكا بعد إلغاء ترتيبات الصلاة في حائط البراق استجابة لمطالب حزب المتدينين الأرثوذوكس الذي يشكل شريكاً استراتيجياً لنتانياهو في الائتلاف الحكومي. إلى جانب هذه الصراعات السياسية تُكشف الفضائح الاقتصادية مثل تحقيق سلطة الأوراق المالية مع صاحب شركة الهواتف العملاقة “بيزك”، أو إعلان أحد أكبر رجال الأعمال الإفلاس وهو مديون للبنوك بأكثر من 500 مليون دولار إضافة إلى النقاش حول مطلب رئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمارت أن يتم تخفيض الثلث من مدة حكمه الأمر الذي ترفضه النيابة لأنه سرب مواد سرية من سجنه إلى دار النشر التابع لصحيفة يديعوت احرونوت التي ستُصدر كتاباً له وهو الأمر الذي أدى بالشرطة إلى تفتيش مكاتب الصحيفة بحثاً عن المواد السرية المهرّبة.

نعم بين الفينة والأخرى يقتحم الأخبار نبأ حول قصف إسرائيلي لمواقع الجيش السوري قرب مطار دمشق أو في منطقة الجولان السوري رداً على عدد من القذائف السورية التي سقطت عن طريق الخطأ في الجانب الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية. أما في الجنوب، فتقوم إسرائيل بنفس الأعمال ضد مواقع لحماس إثر سقوط صاروخ تم إطلاقه من غزة من قبل “أكناف بيت المقدس”، ومن بعده تعود الصحف إلى تغطية القضايا الاعتيادية وكأن شيئاً لم يحدث. الجيش الإسرائيلي ومراكز الأبحاث تعود وتروّج لفكرة أنه ليست لدى نظام الأسد القدرة أو حتى النيّة للدخول في معركة خاسرة مع إسرائيل ونفس التحليل ينطبق على حركة حماس وأخيراً أضيف إلى القائمة حزب الله اللبناني الذي – حسب التقدير الإسرائيلي الأخير- فقد ثلث قواته في الحرب في سوريا، ثلث آخر من جنوده يحارب على الأراضي السورية وبقى في لبنان الثلث الأخير.

ورغم الهدوء الأمني الذي تتمتع به إسرائيل إلّا أنها مدركة تماماً بأن ما يسمح بهذا الهدوء ليس السلام بينها وبين جيرانها بل بالعكس فالدول التي تحيطها هي دول فاشلة مثل سوريا وغزة أو غير مستقرة مثل مصر والأردن. وإسرائيل ليست مسؤولة عن الفوضى العارمة في منطقة فهي تعمل على الاستفادة منها من خلال تحالفاتها المتعددة الأطراف عربية كانت أم دولية. ففي غزة يتم التنسيق الوثيق مع النظام المصري الذي يستعين بإسرائيل في حربه ضد داعش في نصف جزيرة سيناء وهو يضيق الخناق على حماس من خلال الإغلاق المطبق لمعبر رفح. إن الصراع بين نظام السيسي والإخوان المسلمين يلعب لصالح إسرائيل التي تستغل الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وبين حماس بشكل كامل. وقد وصلت الأمور إلى أدنى المستويات بعد أن طلبت السلطة من إسرائيل قطع الكهرباء عن غزة لكي يبقى سكانه في الظلام كورقة ضغط على سلطة حماس.

أما على جبهة الضفة الغربية فالضغط على أبو مازن مستمر وذلك بمساعدة الإدارة الأمريكية التي تبنت الطلب الإسرائيلي بوقف المخصصات المالية من قبل السلطة الفلسطينية إلى أسر الشهداء والمعتقلين ووقف التحريض ضد إسرائيل كشرط للدخول في المفاوضات. إن التنسيق الأمني مع الاحتلال والتحالف الاستراتيجي ضد حماس لا يمنع من إسرائيل أن تستمر في إهانة أبو مازن بل وأن تلوح بخصمه اللدود محمد دحلان كبديل عنه. ولم يدخل دحلان من باب إسرائيل بل من باب حماس التي تحارب أبو مازن أيضا عن طريق التحالف مع دحلان ومن خلاله التواصل مع النظام المصري ودولة الإمارات. نعم، فلسطين قد ضاعت بين كل هذه الأيدي القذرة التي لا ترى في الفلسطينيين مواطنين ذوي حقوق مدنية وإنسانية بل مجرد لعبة بين أيديهم من أجل إدامة سلطتهم وامتيازاتهم المادية.

ولكن المأساة لا تنتهي في فلسطين بل تمتد وبشكل أكبر في سوريا، فعلى الساحة السورية وجدت إسرائيل لنفسها حلفاء عديدين، فهي تنسق مع الأمريكيين من ناحية ومع الروس من ناحية أخرى، وهي تتحالف مع الأردنيين في الجنوب السوري ومع الأتراك في شماله وهذا بعد أن وصلت إلى النتيجة البديهية بأن النظام السوري فقد السيطرة الفعّالة على الأرض لصالح الروس والإيرانيين ومن هنا فعليها أن تضمن مصالحها على أكثر من مستوى. فعلى المدى البعيد على إسرائيل أن تمنع بكل ثمن بقاء أو رجوع سوريا إلى حضن إيران فهي حلقة الوصل بين العراق ولبنان وهنا عليها أن ترتكز على موقف الأمريكيين الذين لم يقرروا بعد ماذا يريدون من سوريا بعد أن ساعدوا إيران في طرد داعش من الموصل والاستيلاء على العراق. أما على المدى القريب، تعمل إسرائيل على ضمان الشريط الأمني الذي يمتد من منطقة القنيطرة وصولاً إلى الحدود الأردنية من خلال دعم بعض المجموعات المعارضة المسلحة على امتداد الجولان والتنسيق والوثيق مع الأردن.

وإذا أسلفنا بأن إسرائيل ليست مسؤولة عن الفوضى بل تستغلها قدر الإمكان لصالحها فلا بد أن نشير إلى الجاني الأكبر وهو المال الخليجي الذي عمل بكل القوة لتدمير الربيع العربي دفاعاً عن مصالحه وأنظمته الفاسدة. إنه من غير الممكن فهم ما يحدث في غزة دون الدخول في الدور القطري المدمر الذي عمل على تشجيع حماس للمقاومة الغير متكافئة مع إسرائيل وعمل على تعميق الانقسام مع الضفة الغربية. في مصر وقفت السعودية إلى جانب الانقلاب العسكري بينما دعمت قطر الإخوان المسلمين واليوم تفضح قطر النظام المصري على أنه قد سلم للسعودية جزر تيران وصنافير في الوقت الذي سلمت هي أراضيها وسيادتها لأمريكا من أجل إقامة قاعدة العديد الجوية. أما الجريمة الكبرى فقد ارتكبوها في سوريا، جبهة النصرة، جيش الإسلام وأحرار الشام ليست سوى ميليشيات وهّابية ممولة من قبل قطر والسعودية ودورها كان ولا يزال تصفية القوى الديمقراطية التي بادرت للثورة ضد بشار الأسد وأصبحت ضحية النظام والجهاديين في آن واحد.

لكن إذا صح المثل “ربّ ضارة نافعة” فما يحدث من مأساة في العالم العربي يضع القضية الفلسطينية في سياقها الصحيح، فلا يوجد حل للقضية الفلسطينية بمعزل عن حل  قضية الشعوب العربية برمتها وعلى رأسها وقف الهولوكوست السوري. إن المشكلة لا تكمن في الخلل بموازين القوى بين إسرائيل والفلسطينيين بل في الخلل بموازين القوة بين القوى الديمقراطية في العالم العربي وبين شتى أعدائها. إن الشعوب العربية لا تواجه “الإمبريالية الأمريكية والتوسع الصهيوني” فحسب بل أضيف لهم التوسع الإيراني والروسي، والتوسع الخليجي إلى جانب القوى التي وجدت لها جذوراً عميقة بين الجماهير وهي الحركة الإسلامية بكل ألوانها وشعارها “الإسلام هو الحل”.

إن الربيع العربي جاء كرد على الاستبداد “القومي” من ناحية والكبت الديني من ناحية أخرى وهو يبشّر بنظام ديمقراطي مدني مبني على العدالة الاجتماعية ووقع بين فكي الكماشة: النظام المستبد والحركة الإسلامية. وقد ضاعت القضية الفلسطينية بسبب الصراع بين هاتين القوتين، بين فتح وحماس، مثل ما ضعت القضية المصرية والسورية. إن الخلاص لا يكمن في “إنهاء الانقسام” الفلسطيني فهذا وهم مثله مثل شعار الدولة الفلسطينية المستقلة، بل بإعادة التواصل مع القوى الشبابية الديمقراطية التي لا تزال تناضل من أجل مستقبل ديمقراطي خال من الاستبداد الديني أو القومي. وقد فشلت الشعارات الدينية والقومية في مواجهة إسرائيل كونها أُسست هي نفسها على أساس برنامج ديني قومي ولا يبقى سوى الشعار المدني الديمقراطي الذي يتواصل مع نضالات الشباب في أوروبا وأمريكا تحت شعار “عالم آخر ممكن”، عالم لا مكان فيه للاستبداد أو للعنصرية أو للاحتلال.

 

عن