يقوم في هذه الأيام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو بجولة يزور خلالها أهم ثلاث دول أوروبية، هي المانيا ثم فرنسا واخيرا بريطانيا، وعندما سُئل ماذا ستكون أهم المواضيع التي سيطرحها أمام القادة الأوروبيين الثلاث؟ أجاب: “ثلاثة مواضيع، إيران ثم إيران ثم إيران”.
لا شك ان إيران أصبحت كابوسًا يقض مضاجع نتانياهو في العقد الأخير، وكان اهم أهدافه، منع توقيع الإتفاق النووي الأمر الذي وضعه بمواجهة مباشرة مع الرئيس الأمريكي السابق، أوباما والقادة الاوروبيين. الا ان وبعد ان الغى الرئيس ترامب هذا الاتفاق يوجه نتانياهو مشكلة جديدة والتي تشكلت في حينه نتيجة التوقيع على الاتفاق النووي وهو ترسخ الوجود الايراني على ارض سوريا. فإذا كان إمتلاك إيران القدرات النووية، مشكلة تخص المجتمع الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فالوجود الإيراني في سوريا يخص إسرائيل قبل غيرها.
خلال الفترة السابقة، التي تلت احداث الثورة السورية، والحرب التي شنها النظام السوري على شعبه منذ 2011، لم تهتم إسرائيل كثيرا بالوجود الإيراني في سوريا ، وكان جل الاهتمام الاسرائيلي خلال هذه الفترة، منع نقل الأسلحة من طهران الى بيروت، وعبرت اسرائيل عن موقفها هذا، بقصف مواقع ومخازن اسلحة تابعة لإيران في سوريا بين الحين والاخر . الا انها لم تبدي اعتراض على دخول قوات حزب الله الى معركة القصير قبل خمس سنوات في مايو/ايار 2013، بل ابدت سرورها لما رأت فيه كتورّط حزب الله في الحرب الأهلية في سوريا، الأمر الذي سيكلفه ضحايا كثيرة وخسائر كبيرة، ويشغل إهتمامه بعيدا عن الجنوب اللبناني. وذات الامر كان عندما أدخلت إيران الميليشيات الشيعية التي جاءت لمساندة النظام السوري، حين فقد النظام السوري معظم الاراضي السورية وتكبد خسائر باهضة . ولم ترفع إسرائيل حينها صوتها، او اعتراضها عندما تدخل الروس، لإنقاذ النظام السوري، الذي كان على وشك السقوط في أيلول سبتمبر 2015. وبدأ الطيران الحربي الروسي في تدمير ممنهج للمدن والبلدات السورية، الأمر الذي أدى الى تهجير 10 مليون سوري، وقتل حوالي مليون مواطن. فالموقف الرسمي الاسرائيلي المعلن كان ” عدم التدخل في الحرب الأهلية في سوريا”، وكل ما يهم اسرائيل، هو منع تهريب أسلحة إيرانية لحزب الله.
هذا “الموقف الحيادي” تجاه ما يحدث في سوريا، اخفى الموقف الحقيقي، الذي يمثل المصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية، وهو إبقاء نظام الأسد في السلطة ومن هنا فالتدخل الإيراني في سوريا مثله مثل التدخل الروسي، قلب الوضع الاستراتيجي في سوريا لصالح النظام، ولم يتعارض مع المصلحة الاسرائيلية في الحفاظ على الاسد في الحكم.
وظهرت المشكلة بالنسبة الى اسرائيل حين بدأت “المصالحات” بين الروس وبين المعارضة المسلحة، والفراغ الذي نجم نتيجة خروجها الى محافظة ادلب بالباصات الخضراء، ودخول ميليشيات شيعية مكانها، حيث بدأت مرحلة تموضع الحرس الثوري الإيراني، داخل القواعد الجوية والعسكرية السورية. وقد أصبحت إيران شريكة في تحديد مصير سوريا، وكان لها دورًا رئيسيًا في مؤتمرات آستانا الى جانب تركيا وروسيا قبل سنة بالضبط.
إثر إنعقاد مؤتمر استانا الذي قسّم سوريا بين القوى الثلاث – روسيا وإيران وتركيا – بدأت الحملة الإسرائيلية لتغيير نتائج الحرب وإنتقلت السياسة الاسرائيلية من “عدم التدخل في الحرب الأهلية في سوريا” الى تدخل سافر، والمطالبة بالمشاركة في تحديد مصير النظام السوري، وشكل سوريا في فترة ما بعد الحرب.
ان إنتهاء الحرب في سوريا، وهزيمة المعارضة المسلحة، قد فتح المجال أمام حرب جديدة، لا تقل خطورة، بين اسرائيل وإيران على الأرض السورية. وتستخدم إسرائيل الأسلوب الدبلوماسي في التعامل مع روسيا، والعسكري تجاه إيران، فاللقاءات المتكرّرة بين نتانياهو وبين بوتين ترافقها غارات جوية كثيفة على القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا. ان الإسرائيليين لا يثقون في أصدقائهم الروس، إذ إنهم يعرفون جيدًا ان من مصلحة الروس ان تبقى الميليشيات الشيعية والحرس الثوري الإيراني، كحماة النظام السوري الذي يستند كليا على هذه الميليشيات، كون الجيش السوري تحول من جيش نظامي الى مجموعة عصابات مسلحة تهتم “بالتعفيش” اكثر من القتال في المدن المهجورة والمنكوبة .
ولطالما نقلت التصريحات الاسرائيلية تهديدات مبطنة، بانها لن توافق على بقاء الاسد في الحكم في ظل وجود الحرس الثوري الإيراني على الأرض السورية. بمعنى اخر إذا بقيت إيران، سنعمل على إسقاط النظام السوري، وأنتم الروس ستخسرون غنائم الحرب في قاعدة حميميم وميناء طرطوس.
وقد إختلفت ردود فعل كل من الاطراف المعنية التي فضلت إنكار الواقع بدل من مواجهته، فالنظام السوري أنكر بلسان وزير خارجيته وليد المعلم وجود الجيش الإيراني على ارضه، الامر الذي قُوبل بالسخرية من الجانب الإسرائيلي كما انكر من قبل استخدام الاسلحة الكيمائية في الغوطة الشرقية، والميليشيات الإيرانية وقوات حزب الله، التي شاركت وساهمت في سفك دم الشعب السوري تستمران في ترديد شعارات “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” وتتعهدان بتحرير القدس، في الوقت الذي تنخرس فيه افواههم وافعالهم حين تقصف اسرائيل قواعد ومخازن الجيش الايراني، وحزب الله في قاعدة “التيفور” ومحيط دمشق ، وتتكبدان العديد من القتلى والجرحى .
أما الروس، لطالما اكدوا بتصريحات عديدة، التوصل الى إتفاق مع اسرائيل على إنسحاب كل القوات الاجنبية من الجولان في الوقت الذي يصمتون، ويغلقون أجهزة الرادار، كلما قامت إسرائيل بقصف إهداف إيرانية بالعمق السوري. والجميع بما فيهم النظام السوري، وإيران والروس ايضا غير معنيين بدخول معركة مفتوحة مع اسرائيل ولكل طرف مبرراته واسبابه، فالايرانيون اقوياء امام العراقيين العزل واليمنيين والسوريين، ولكن ضعيفون جدا وعاجزون أمام الجبروت العسكري الإسرائيلي، وايران نفسها تدرك افتقادها الدعم الشعبي في اي معركة مع اسرائيل على الاراضي السورية .
ان الموقف الاسرائيلي واضح كل الوضوح. فإسرائيل تريد ان يبقى الاسد، ولكن دون إيران، وتقبل بالهيمنة الروسية على سوريا شريطة أن تتنازل روسيا عن الشراكة الاستراتيجية مع إيران. فبالنسبة لأسرائيل على روسيا ان تختار بين إبقاء النظام السوري، او إبقاء إيران وميليشياتها في سوريا، وان ما تم الإتفاق عليه بين الدول الثلاث في آستانا ليس مقبولًا إسرائيليًا.
ان الرابح الاكبر من هذا الإقتتال بين إسرائيل، إيران وروسيا هو الاسد نفسه، إذ أن قوته بضعفه. فهو قد فقد شرعيته أمام شعبه، وامام العالم ووجوده متعلق بالدعم الإيراني والروسي والموافقة الإسرائيلية، على بقائه في السلطة. ان إيران وروسيا تريدانه سالمًا لأنه يشرعن إحتلالهما لسوريا، اما إسرائيل تريده في الحكم لأنه سيحمي حدودها في الجولان، ويمنع حدوث ثورة ديمقراطية في سوريا. الاسد لا يستطيع ان يعيش دونهم، وهم لا يستطيعون ان يستغنوا عنه.
غير ان هذه الدائرة لا يمكن تربعها: النظام الإيراني لا يمكن له ان ينسحب مهزوما من سوريا، بعد كل ما إستثمر بها، فإنسحابه سيكون بداية النهاية لنظامه المكروه شعبيا في إيران. وروسيا من طرفها لا يمكن لها ان تملي رغبتها على الإيرانيين او على الإسرائيليين وهي تسعى لفرض تسوية سياسية على مقاسها. أما إسرائيل تبقى حريصة على عدم إسقاط نظام خدمها على مدى 40 سنة، وحمى حدودها. ومع ذلك فوجود الاسد، سيبقى النزاع بين إسرائيل وإيران مفتوحًا والإنزلاق الى الحرب بين إيران وإسرائيل، على الأراضي السورية سيبقى إحتمالًا واردًا.
اما ان يستعيد النظام السوري مكانته ووضعه الى ما قبل الثورة، فذلك اشبه بالمستحيل، فقد تغيرت سوريا والى الأبد والنظام قائم بفضل الإحتلال الأجنبي. إن من ساهم في إفشال الثورة السورية: إسرائيل، إيران، روسيا تركيا ودول الخليج، ومن مستعد ان يتعامل مع نظام مجرم فاقد للشرعية، سيدفع ثمنًا باهظًا على قصر رؤيته وعلى إعتقاده بان قوة السلاح هي الوسيلة لحل المشاكل وقمع طموح الشعوب للحرية والدمقراطية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.