يتظاهر مئات الآلاف من الإسرائيليين كل يوم سبت في شوارع تل أبيب وحيفا والقدس ضد “الانقلاب على القضاء” من قبل حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو. ويرى المحتجون أن الخطة الحكومية الرامية إلى إحداث تغييرات في عمل المحاكم وصلاحياتها تشكل خطراً يهدد الديمقراطية وتقود البلاد إلى حالة تشبه الحالة المجرية حيث سيطر الديكتاتور المستبد فيكتور أوربان على جهاز القضاء والصحافة وفرض أجندته الرجعية العنصرية على المجر.
وتشهد إسرائيل اليوم أوضاعاً غير مسبوقة من الاستقطاب والجدل الداخلي الدائر بين الحكومة اليمينية المتطرفة وبين المعارضة الليبرالية وقد تحول إلى صراع مفتوح، لدرجة أن ضباط متقاعدين في سلاح الجو الإسرائيلي يدعون إلى قتل نتنياهو وهناك من يدعو إلى العصيان المدني الشامل في حالة تطبيق الاصلاحات المقترحة من قبل حكومة نتنياهو.
استقطاب حاد في الشارع الإسرائيلي وصراع على الهوية
للمقاربة، يمثّل المتظاهرون بما يعرف “إسرائيل العليا” في حين يمثل اليمين الفاشي “إسرائيل السفلى”، ومصطلح “إسرائيل العليا” يشير إلى اليهود من أصول أوروبية الذين يتسم نمط حياتهم بالليبرالية والعلمانية، وهذه الشريحة تتمتع بمستوى تعليمي عال وهي الأقوى اقتصادياً في البلاد، فضلاً عن أن الكثير من أفرادها يسكنون أو يعملون في مناطق تل أبيب الفارهة.
في المقابل، يشير مصطلح “إسرائيل السفلى” إلى اليهود من أصول شرقية وهم على الأغلب يميلون إلى نمط حياة تقليدي وأحيانا متدين، والكثير منهم ينحدرون من الطبقات الفقيرة ويدعمون عادة الأحزاب الدينية والفاشية. الصراع بين هذين المعسكرين يدور حول هوية البلاد، فهل سيتغلب الطابع اليهودي الديني على الطابع الديمقراطي الليبرالي؟ وبصورة أخرى هذا الانقسام يمكن تشبيهه بين دولة “يهودا” الدينية ودولة “إسرائيل” الليبرالية.
ولكن من المفارقة، إن الإعلام العربي والفعاليات الفلسطينية لا تولي أهمية كبيرة لهذه الأزمة السياسية الهوياتية داخل إسرائيل، ويعود ذلك إلى عمليات الاقتحام المتكررة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على المدن والمخيمات الفلسطينية وضريبة الدم التي يدفعها عشرات، بل ومئات من المواطنين الفلسطينيين، والتي لا تفسح مجالًا للاهتمام بما يحدث داخل إسرائيل من صراع داخلي لاسيما وأن عمليات القتل المتعمد والمبرمج ضد الفلسطينيين تحظى بدعم واجماع إسرائيلي يشمل كل التيارات السياسية الصهيونية على اختلاف توجهاتها.
يذكر أن “حكومة التغيير” برئاسة نفتالي بينيت ويائير لابيد وبمشاركة حزبي العمل وميترس وحتى الحركة الإسلامية، هي من بدأت بشن الحملة العسكرية في أراضي الضفة الغربية، وأطلقت عليها اسم “كسر الأمواج” منذ شهر آذار/مارس الماضي، ولا تزال مستمرة إلى الآن تحت ولاية الحكومة الفاشية الجديدة.
من الواضح أن الأعلام الإسرائيلية التي يرفعها المتظاهرون من أجل الديمقراطية تدل على أن الصراع الداخلي المحتدم، هي احتجاجات فئوية مطلبية، لا تناهض الاجماع القومي الذي يناصب العداء للفلسطينيين، أي أنها ليست حركة تحرر شاملة.
ومع ذلك، كل من يراقب عن كثب ويتابع الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل لا يمكنه أن يتغاضى عن حقيقة أن المعارضة ترى الائتلاف الفاشي اليميني الحاكم بأنه الخطر الأكبر على المجتمع الاسرائيلي باعتباره تهديداً تفوق خطورته أي عدو خارجي. كما إن مشاعر الغضب والحقد والاستياء أصبحت أمراً شائعاً لدى شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي. فالمعارضة في إسرائيل تكره نتنياهو المتهم بالفساد وحليفه آريه درعي الذي منعته المحكمة العليا من تولي منصب وزير، وترى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عنصرا غريباً وشاذاً حيث قدمت ضده عشرات التهم بالتحريض والشغب في السابق، كذلك الأمر مع وزير المالية زعيم حزب “الصهيونية الدينية” بتسلئيل سموتريتش الذي يثير هو أيضاً غضب المعارضة واستيائها لأنه يتبنى أفكاراً دينية متطرفة ويحلم بفرض الشريعة اليهودية على المجتمع ككل.
أما إسرائيل “المتنورة” بقضائها ومن فيها من رجال أعمال وعلماء وأساتذة جامعيين وجنرالات في الجيش والكتّاب والفنانين قلقة جداً على المشروع الصهيوني وتخاف على مصير دولة إسرائيل التي أسسها بن غوريون والتي باتت على وشك الانهيار، وتظهر مخاوف هذا الفريق في الشعارات التي يتداولها من قبيل “سرقوا لنا الدولة” و “هذه ليست الدولة التي نريد أن نعيش فيها”. وتتكرر هذه العبارات في كل بيت معارض لنتنياهو ويكرهه كونه يتصرف كآخر المجرمين الذين يريدون التهرب من العدالة.
استهتار عربي وفلسطيني إزاء التناقض داخل إسرائيل
كيف يمكن تفسير التجاهل، بل والاستهتار الفلسطيني والعربي لما يحدث من صراع داخل المجتمع الإسرائيلي؟ هل من الممكن أن ما يعتبرونه الليبراليون الإسرائيليون “نهاية المشروع الصهيوني” لا تأثير له على مستقبل الشعب الفلسطيني وعلى العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ هل ما يعتقده معارضو نتنياهو بأن الانقلاب على النظام القضائي هو نهاية الديمقراطية هو مبالغة وتهويل مثل ما يدعي نتنياهو نفسه؟ وكيف يمكن لشعب يقطن في نفس البقعة الجغرافية ما بين نهر الأردن والبحر ويخضع تحت السيطرة الإسرائيلية أن يبقى لامبالٍ بما يحدث من أزمة “وجودية” في إسرائيل؟ أم أن الديمقراطية كقيمة ومبدأ ليست مطلباً أساسياً لشعب يفتقد لأدنى الحريات وحقوق الإنسان؟
ربما يكمن الجواب في الاعتقاد السلبي السائد والمنطلق من عدم الإيمان بأن الديمقراطية هي مبدأ يمكن أن يتحقق في المجتمعات العربية، لا سيما وأن القوى الديمقراطية في العالم العربي مغيبة في السجون أو مشردة في المنافي، وكون المجتمع العربي رهينة لقوتين أساسيتين تكره الديمقراطية وهي العسكر والإخوان المسلمين. أما بالنسبة للساحة الفلسطينية فالشعب الفلسطيني رهينة لقوتين متخاصمتين “أودتا بالفلسطينيين في ألف داهية”. من جهة حركة فتح تفرض سلطتها الفاسدة على الضفة الغربية بموجب اتفاق أوسلو، ومن جهة أخرى حركة حماس تفرض سيطرتها على غزة من خلال انقلاب عسكري، وبين هذا وذاك وقع الشعب الفلسطيني تحت سطوة من يقمعون أي معارضة ديمقراطية تارة باسم الوطن وتارة أخرى باسم الإسلام تكفر كل من يدعو للعيش بكرامة.
وربما لأن المقاومة المسلحة للاحتلال أصبحت غاية بحد ذاتها وتحولت إلى نمط حياة، لا سيما وأن اللجوء إلى السلاح جاء بعد فقدان أمل بالوضع القائم، وفقدان الثقة بالسلطة الفلسطينية التي تفرض نفسها على الشعب بشكل تعسفي من دون اجراء عملية انتخابية في ظل تصرف الجيش الإسرائيلية بكل عنجهية، كل هذه الأمور تدل على عجز الشعب عن تغيير وضعه الداخلي لإنهاء هذه المهزلة التي تخدم إسرائيل فقط. كما أن “حل الدولتين” أصبح من المستحيلات ليس بسبب الرفض الإسرائيلي فحسب وإنما بسبب فساد وعدم قدرة السلطة الفلسطينية في بناء دولة عصرية وديمقراطية. لكن مجرد التفكير ببديل ثان مثل بناء دولة ديمقراطية واحدة على كل تراب بين النهر والبحر يتم التخلي عنه بحجة الكراهية التاريخية بين الشعبين “وأنهار الدماء” التي تفصل بينهما مثلما قالت زهافة غلعون رئيسة حزب ميرتس اليساري.
الاحتلال هو جوهر المعضلة
إلا أن العلاقة بين مواجهة الاحتلال والنضال من أجل الديمقراطية هي علاقة عضوية لا يمكن الفصل بينهما. فبينما الفلسطينيين لا يتمتعون بالديمقراطية على الإطلاق فالإسرائيليون مهددون اليوم بفقدان ديمقراطيتهم الأمر الذي يدفعهم للمقاومة المدنية. ويسأل اليوم القاصي والداني في المجتمع الإسرائيلي: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ وما هو سبب نمو الفاشية الدينية في المجتمع؟
إن الآراء مختلفة ولا يوجد جواب يجتمع عليه المتسائلين، هناك من يقول إن السبب هو نتنياهو ومحاولته الهروب من العدالة، وآخرون يشيرون إلى أن السبب هو تكاثر المتدنيين السكاني، ومجموعة ثالثة تتهم الفلسطينيين وقيامهم بأعمال عنيفة ضد المدنيين اليهود. لكن لا أحد يقول بصريح العبارة إن السبب الرئيسي لظهور وبروز التيارات الفاشية هو الاحتلال والسيطرة العنيفة لدولة وجيش على شعب كامل آخر الأمر الذي يغذي تلقائياً التوجه العنصري تجاه العرب. إن اليمين الإسرائيلي نمى مع نمو الاستيطان وقد قضى نهائياً على كل من كان يدعو إلى السلام مع الفلسطينيين. وليس من باب الصدفة اليوم وبعد مرور أكثر من 55 عاماً على سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية والقدس وغزة أن كلمة “احتلال” قد تم حذفها من القاموس السياسي الإسرائيلي حتى أصبح نظام الفصل العنصري – الأبارتهايد – المفروض على الفلسطينيين حالة طبيعية.
عدوى الدكتاتورية تنتقل إلى داخل اسرائيل
ما يكتشفه الإسرائيليون اليوم هو الحتمية التاريخية التي تنص على ان نظام دكتاتوري يفرضه شعب على شعب آخر لا بد أن يؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى انتقال المزايا الفاشية إلى داخل المجتمع المهيمن. وإن من يمنع الفلسطينيين من حريتهم خلال عقود هو من يهدد حرية الإسرائيليين أنفسهم اليوم، وإن من فرض سلطة أبو مازن الفاسدة والاستبدادية كأداة للاحتلال وتوهم بأنه نسى الفلسطينيين لا ينبغي أن يتفاجئ ممن يحاول اليوم فرض سلطة دينية يهودية على المجتمع الإسرائيلي نفسه.
في الواقع يعيش الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني في واقع اقتصادي واحد: العملة – الشيكل – هي نفس العملة، رقم الهويات الفلسطينية يتم تسجيله وإقراره من قبل الداخلية الإسرائيلية، مصدر رزق أغلبية الفلسطينيين هو في الورشات الإسرائيلية، نسبة 80% من الاقتصاد الفلسطيني الصغير مربوط بالاقتصاد الإسرائيلي. لذلك فإن الوهم بوجود كيانين منفردين هو مجرد كذبة يتم توظيفها لخدمة السلطة الفلسطينية من ناحية والحكومة الإسرائيلية من ناحية أخرى. ولكن الحقيقة المعادلة التي يقف أمامها الشعب الإسرائيلي هي واحدة: إما أن تكون إسرائيل دولة يهودية عنصرية غير ديمقراطية أو أن تسود الديمقراطية الحقيقية بكل ما يعني ذلك من كلمة أي منح الفلسطينيين نفس الحريات والحقوق التي يتمتع بها الإسرائيليين.
الديمقراطية هي الحل
على الفلسطينيين أن يقرروا مصيرهم بأيديهم من خلال طرح برنامج ديمقراطي شامل بعيداً عن وهم “حل الدولتين” أو التفكير بأن يؤدي النضال المسلح إلى التحرير في الوقت الذي يخدم ذلك فقط قوات الاحتلال ويغذي التيارات اليمينية الفاشية. وما هو مطلوب اليوم هو أن يطرح الفلسطينيون على العالم وعلى الإسرائيليين القلقين على مصير البلاد حل الدولة الديمقراطية الواحدة. وعلى الفلسطينيين بقواهم الديمقراطية والمجتمع المدني أن يتوجهوا إلى هذه الشريحة الواسعة من الإسرائيليين التي تناضل اليوم ضد الفاشية بموقف صادق وصريح وتقول لهم: نحن شركاء معكم في نضالكم ضد الفاشية الإسرائيلية وندعوكم إلى مشاركتنا في النضال ضد الاحتلال من ناحية وضد الاستبداد الفلسطيني من ناحية أخرى لكي نبني معاً الدولة الديمقراطية الواحدة على أساس دستور واحد مبني على قيم العدالة والمساواة والديمقراطية التي تشملنا كلنا.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.