السلطة الفلسطينية تلعب بالنار

المناطق المحتلة تشتعل من جديد، هل هذا هو الربيع الفلسطيني المأمول؟ لا شك ان حالة الاحتقان والغضب التي تسود المناطق الفلسطينية المحتلة قد بلغت درجة الانفجارات المتلاحقة ازاء العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني والتنكيل بأسراه من جانب سلطات الاحتلال حكومةً ومستوطنين، بينما الرأي العام الاسرائيلي والعالمي صامت ويؤمن يوما بعد يوم ان القضية غير قابلة للحل. كل هذا في ظل تدهور الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها اغلبية الشعب جراء الفقر والبطالة.

لم يمض طويل وقت على الزيارة الرئاسية التي قام بها اوباما الى اسرائيل، وها هو وزير خارجيته جون كيري يستعد للهبوط مجددا في “الاراضي المقدسة” حاملا خطة غير مقدسة لإدامة الحال على ما هو عليه، مع بعض تحسينات هنا وهناك لإسكات الفريق الفلسطيني. اوباما لم يغادر المنطقة قبل ان يوضح لرئيس السلطة الفلسطينية ان المطلوب منه هو العودة لطاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، أي التنازل لنتانياهو عن المطالبة بتجميد المستوطنات. كانت هذه هدية المصالحة التي قدمها اوباما لنتانياهو، على حساب الفلسطينيين. ورغم ان الرئيس الامريكي أرغى وأزبد في خطابه امام الاسرائيليين عن الاحتلال، الا انه في نهاية المطاف دعم موقف نتانياهو، رئيس حكومة الدولة الحليفة التي يستطيع ان يرتكن اليها في الشرق الاوسط المضطرب بالثورات.

اذن كيري في الطريق، والسلطة الفلسطينية تستقبله بأجواء ساخنة في المناطق المحتلة، كي تذكّره بأن القضية لا تحتمل التأجيل وان الهدوء ليس مضمونا لاسرائيل مجانا. ويبدو ان السلطة تعلمت من حماس كيف تبتز “المكاسب” من الجانب الاسرائيلي. فكما نجحت حماس في ابتزاز موافقة من اسرائيل على إدارة الحكم الذاتي في الامارة الاسلامية بغزة، حيث تفرض الشريعة مثلا في المدارس وتفرّق بين البنين والبنات، كذلك تبنت فتح او السلطة قضية الأسرى، القضية التي أهملتها منذ عشرين عاما ووقعت اتفاقية سلام دون اشتراط ذلك بتحرير الأسرى، وجعلت منها ورقة بيد ابو مازن يستغلها، يشعلها او يطفئها حسب حاجاته.

 ولكن ما الانجاز الذي يستطيع ابو مازن تحقيقه في أفضل الحالات؟ انتزاع بادرة حسن نية من اسرائيل لتحرير عدد معين من الاسرى، طبعا بضغط من كيري ورئيسه، ولكن ما الثمن السياسي الذي سيدفعه مقابل ذلك؟ سيكون على الرئيس الفلسطيني العودة لطاولة المفاوضات دون التزام اسرائيلي بوقف الاستيطان، وبالطبع دون التزام بعدم مواصلة مسلسل الاعتقالات المستمر على اشده، بمعنى استمرار البوابة المستديرة من اعتقال وتحرير. وفي الطريق تزيد المستوطنات وتضيع القضية وتتبخر الدولة.

 الواقع انه ليس امام السلطة خيارات كثيرة، فهي على كل حال مضطرة لقبول الشروط الامريكية اذا كانت تريد مواصلة الحصول على التبرعات، المصدر شبه الوحيد لاقتصادها. بذلك يبدو ان تحرير بعض الاسرى يمكن ان يكون ورقة التوت التي تداري بها عورتها وتتستر على التنازلات التي تنوي تقديمها لاسرائيل.

ان السلطة الفلسطينية تلعب بالنار، فالوضع محتقن وهناك استياء شعبي عارم من ادائها السياسي والاقتصادي الفاشل والفاسد. من هنا تبدو “بطولاتها” الاخيرة محاولة لاستغلال الغليان الشعبي لتوجيهه باتجاه اسرائيل بدل ان ينفجر في وجهها.

على الصعيد السياسي، وضع السلطة متأزم، فبعد الصفعة التي تلقاها من اوباما وبعد ان ادارت له اوروبا والعرب ظهورهم، لجأ الى الملك الاردني، الذي أعلن قبل ايام صداقته لنتانياهو وانه لا يرى ان حل الدولتين ممكن. لقد بحث ابو مازن عن حليف قوي لاسرائيل، علّه يحصل من خلال هذه “الواسطة” على بعض الفتات من نتانياهو. بالمقابل وعد ابو مازن الملك ببعض الصلاحيات في ادارة الاوقاف في القدس.

اما على الصعيد الاقتصادي فأداؤها ليس بأفضل حالا. فقد أقرّت حكومة فياض الميزانية التي لا تزيد عن 3،9 مليارات دولار فقط (14،4 مليار شيكل). ويدل هذا الحجم الضئيل (للمقارنة، ميزانية اسرائيل المؤقتة لعام 2013 تعادل 371 مليار شيكل أي 25 ضعف الميزانية الفلسطينية) على التدهور الاقتصادي والاجتماعي، ويبشر بالاستمرار في نفس النهج المطبق منذ سنين والذي أغرق الشعب الفلسطيني في البطالة والفقر.

وما يزيد الطين بلة هو ان النسبة الاعظم من الميزانية موجّهة لأجهزة الأمن علما ان 41% من موظفي السلطة (أي 65 الفا من اصل 145 الف موظف) يعملون ضمن هذه الأجهزة، تماشيا مع تعليمات وتوجيهات الدول المانحة. وقد تم اقرار الميزانية بشكل غير قانوني، دون الرجوع للهيئات التي تم تكليفها بفحص ومناقشة الميزانية وإقرارها، (اقرأ ايضا مقال عميرة هس، هآرتس، 31/3). يذكر ان نسبة كبيرة جدا من الواردات للميزانية الفلسطينية تصل عن طريق اسرائيل، وهذه الأخيرة تضنّ بالاموال اذا انحرفت السلطة عن المسار السياسي المعد لها. بمعنى آخر السلطة الفلسطينية تلعب دور المقاول الفرعي للاحتلال الاسرائيلي وحامي امن اسرائيل وليس امن الفلسطينيين من بطش الاحتلال.

ان إقرار الميزانية على نفس الاسس العقيمة التي أثبتت فشلها ورغم انسداد الأفق السياسي، هو رسالة واضحة من السلطة الفلسطينية بأنها ماضية في “لعبة الدولة”، بينما تتضاءل يوما بعد يوم امكانية إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة.

الصورة التي تتشكل امامنا هي غاية في الخطورة، من جهة هناك انقسام فلسطيني حاد جدا ويتعاطى مع الاوضاع الاقليمية بشكل واضح: غزة انضوت تحت رعاية مصر، والآن الضفة الغربية تنضوي تحت رعاية الاردن. أليس هذا الحال بأشبه بما كان قبل احتلال عام 1967. هكذا تكون الدولة الفلسطينية قد تفككت وتبددت، وتكون الحكومة الاسرائيلية قد احتفظت بالسيادة العليا على كل فلسطين الانتدابية وأدامت الاحتلال، بينما بقي العبء الاقتصادي على الغرب والعرب.

هناك امكانية للخروج من هذا المأزق، وهو ان تسلم السلطة اوراق اعتمادها للاحتلال، وترحل. وإن لم تفعل فانها تكون شريكة مع الاحتلال في تحمل مسؤولية الغليان والدماء التي تزهق بلا أمل. لقد انقلبت هذه السلطة منذ اعوام طويلة على المشروع الوطني، وبالتحديد منذ وقّعت على اتفاق اوسلو، وبات جليًّا انها قد حرّرت اسرائيل من اعباء الاحتلال بدل ان تحرر الفلسطينيين منه. حل السلطة الفلسطينية سيجبر الاحتلال على ان يحسم خياره بين العودة للاحتلال المباشر وتحمل اعبائه البشرية والاقتصادية والعزلة الدولية، او الانسحاب الكامل لحدود الرابع من حزيران عام 67.

عن