بدأت سنة 2018 بسلسلة من التصريحات، الشهادات، القرارات التسريبات والتغريدات على التويتر تضع الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بشكل خاص أمام خيارات صعبة للغاية. أول الطلقات كان اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ومنذ ذلك الحين تنهال على رأس الفلسطينيين ضربات من كل حدب وصوب. إذ وفقا لما كتبه ترامب فإن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قد حسم الموقف وتمت إزاحة أحد أهم العراقيل على الطريق نحو الحل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 4-12 -2017 قد انفردت بالخبر حول الإقتراح الذي قدمه محمد بن سلمان لمحمود عباس لتحديد بلدة أبو ديس عاصمةً للدولة الفلسطينية. وقد استعرض ولي العهد السعودي أمام عباس ما يعتبره خطة السلام الأمريكية قبل إعلان ترامب عن القدس بأسبوعين، وبعد أسبوعين من زيارة جاريد كوشنير للسعودية. وقد نشرت نفس الصحيفة خبراً في 6-1- 2018 مفاده أن رجل المخابرات المصرية المدعو أشرف الخولي قد أوصى بتعليمات ما وراء الكواليس لبعضٍ من الإعلاميين المصريين بأن يروجوا لفكرة أن تكون رام الله عاصمة لفلسطين. ورغم النفي السعودي والمصري إلا أن جدية المصدر الصحافي تضفي على هذين الخبرين مصداقية شبه مطلقة.
أما كتاب مايكل وولف “نار وغضب” الذي كشف ما يحدث داخل البيت الابيض وصوّر ترامب كغير متوازن عقليا يكشف أيضا موقف ستيف بانون – والذي كان قبل فصله من البيت الابيض مستشار ترامب الرئيسي – من القضية الفلسطينية حيث قال وبكل بساطة: “دع الأردن يأخذ الضفة الغربية. ودع مصر تأخذ غزة. دعهما يتعاملان مع الأمر، أو يغرقان أثناء المحاولة. السعوديون على الحافة. المصريون على الحافة.. ” كما وأضاف بأن رجل الأعمال صاحب المليارات شيلدون إيدلسون – وهو متبرع رئيسي لترامب وصاحب جريدة “إسرائيل اليوم” الإسرائيلية المؤيدة لنتانياهو – قد دعم موقف ستيف بانون بل رأى فيه الشخص الأصدق في كل ما يتعلق بمصلحة إسرائيل. وكان موقف بانون بديلا لموقف جارد كوشنير الذي تم عرضه أمام ولي العهد السعودي قبل إعلان ترامب عن القدس، مفاده أن “حل الدولتين” يعني قبول الفلسطينيين بدولة دون تواصل إقليمي على جزء من الضفة الغربية، سيادة غير كاملة على الأرض مع بقاء الأغلبية الساحقة من المستوطنات لتظل القدس عاصمة لإسرائيل فقط.
إن الصراع بين بانون وكوشنير حُسم لصالح الأخير وخيار الدولة المنقوصة تغلب على الخيار الأردني، الأمر الذي أدى بحزب الليكود الحاكم أن يصوت بالإجماع على قرار ضم منطقة “ج” التي تشمل كل المستوطنات لإسرائيل. وبرغم عدم إلزام هذا القرار الحكومة الإسرائيلية فهو يشير بشكل واضح إلى أين تتجه الأمور، إن هذا القرار لم يأت من فراغ بل له سند حقيقي في البيت الأبيض وتواطؤ عربي من قبل مصر والسعودية اللتان تريان في العلاقة مع ترامب ونتنياهو مسألة إستراتيجية وتتعامل مع القضية الفلسطينية كعقبة أمام التطبيع المطلق مع إسرائيل. وإذا كان موقف الليكود ينافس موقف حزب المستوطنين “البيت اليهودي” – الذي يدعو كذلك إلى ضم منطقة “ج” لإسرائيل – فقد تقدم وزير المالية موشيه كحلون زعيم حزب “كلنا” باقتراح في الجلسة الحكومية الاخيرة – الأحد 7/1 – بضم ما يسمى “الكتل الإستيطانية” لإسرائيل كونه يعتبر أكثر اعتدالا ويريد استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.
إلا أن هذه المواقف لم تبق دون مجهود لتطبيقها على الأرض، ما تجسد بضرب السلطة الفلسطينية من خلال جيبها. فقد تعلمت أمريكا، إسرائيل والعرب بأن المال أصبح المبدأ، الأساس والعقيدة التي تأسست عليها السلطة الفلسطينية. ففي الوقت الذي يقترح محمد بن سلمان مساعدات مالية من أجل تسيير المخطط الأمريكي، يقوم ترامب بتهديد مباشر من خلال نفس التغريدة التي حسم بها مصير القدس، وهو يتساءل لِم الإستمرار في تمويل السلطة الفلسطينية وهي ترفض المفاوضات؟ أما في إسرائيل فإن الحملة ضد تمويل السلطة الفلسطينية عائلات المعتقلين في السجون الاسرائيلية آخذة بالإزدياد، وقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 10-1 2018 جدولا قد سبق أن نشرته وزارة الدفاع الإسرائيلية مع صور للأسرى المحكومين بالسجن المؤبد مثل عبد الله البرغوثي أو مروان البرغوثي الذان سيتقاضيا ملايين الشواكل في حال قضوا في السجن مدى حياتهم. أما المبلغ الكلي حسب وزارة الدفاع الإسرائيلية الذي ينفق على عائلات المعتقلين هو مليار شيكل سنويا وهذا هو المبلغ التي تريد إسرائيل حسب القانون الجديد أن يتم خصمه من المبلغ الذي تنقله إسرائيل إلى السلطة.
أما سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة السيدة نيكي هايلي فقد هددت في مطلع كانون الثاني الجاري بأن ترامب سيقطع المساعدات المالية عن وكالة الغوث لللاجئين الفلسطينيين (UNRWA)، الأمر الذي أقلق حتى الإسرائيليين أنفسهم، والذين يخشون عواقب هذا القرار على الوضع الإنساني في قطاع غزة بالتحديد. وأمام هذه الحملة المنظمة التي تهدف إلى فرض الموقف على عباس والسلطة الفلسطينية كي يقبلا بموقف ترامب الذي يعبّر عن موقف اليمين الإسرائيلي، كل ما قامت السلطة به من رد كان رفضها للتعامل مع الأمريكان كوسيط نزيه. وقد تتقلص الخيارات أمام السلطة الفلسطينية التي لم تعد تؤمن بإمكانية إنشاء دولة فلسطينية لكنها تتمسك بحل الدولتين من أجل الحفاظ على وجودها. إن وجود السلطة أصبح هدفا بحد ذاته وهذا بتعايش مستمرٍ مع الإحتلال.
وفي غياب برنامج تحرري لإنقاذ الشعب الفلسطيني من الإحتلال تعول السلطة الفلسطينية على المصلحة الإسرائيلية في إبقائها. ورغم كل التهديدات بقطع المساعدات المالية عنها فإن إسرائيل حريصة على منع انهيار السلطة. ففي النهار يشتمون عباس ويحملونه المسؤولية عن كل ما يصيب الإسرائيليين والفلسطينيين من ضرر وفي الليل يستمرون بالتعاون الأمني الذي قد وصف من قبل عباس “مقدسا”. وهنا لا بد من اقتباس ما قاله “مسؤول فلسطيني رفيع المستوى” لصحيفة الحياة 4-1- 2018 ردا على التهديدات الأمريكية: “إنهيار السلطة ليس مصلحة إسرائيلية ولا أميركية”، موضحاً أن “السلطة تتولى الخدمات التي كان على إسرائيل القيام بها، كما تتولى حفظ الأمن. وفي حال انهيارها، فإن على إسرائيل أن تتولى الخدمات بصفتها دولة الإحتلال”. وتابع أن “السلطة الفلسطينية تجمع مساعدات من الدول العربية، ومن حول العالم لتمويل الخدمات، وفي حال انهيارها، فإن على إسرائيل أن تواجه هذه المشكلة بمفردها، وهو ما لا يريده أي إسرائيلي. وقال إن انهيار السلطة يعزز مساعي حل الدولة الواحدة، وهذا ما لا تريده الحكومات الإسرائيلية”.
هذا هو التفسير الحقيقي:وجود السلطة الفلسطينية ليس مصلحة فلسطينية بل إسرائيلية بامتياز وانهيارها لن يكون بسبب إسرائيل أو أمريكا بل في حال انتفض الشعب الفلسطيني ضدها. نعم السلطة الفلسطينية هي أكبر عقبة أمام حل الدولة الديمقراطية الواحدة ومثل ما تبين فيما بعد تم إنشاؤها من أجل منع إنشاء دولة مستقلة إلى جانب إسرائيل. فطالما يستمر وجودها لا يمكن التحدث بجدية عن حل الدولة الواحدة وفي نفس الوقت أصبحت الدولة المستقلة مشروعا غير قابل للتنفيذ. ربما صوتت ١٢٨ دولة عضوة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار ترامب حول القدس ولكن هذا التصويت لا يفتح الطريق أمام إقامة دولة بل جاء من أجل الحفاظ على سلامة السلطة الفلسطينية وإحياء وهم حل الدولتين. بعد 50 سنة من الإحتلال، و25 سنة على مرور اتفاق أوسلو، بعد المأساة في سوريا وما يحدث بالعالم العربي تعلم الشعب الفلسطيني الدرس. كل الكلام ضد الإحتلال، والظلم، ومن أجل الحقوق الفلسطينية يبقى مجرد كلام. على أرض الواقع يبقى الإستيطان والإحتلال معنيا بغطاء سلطة فلسطينية واهنة قد أمسى وجودها مصلحة إسرائيلية بامتياز.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.