الصوت العربي- الغائب الحاضر

اصبح المصوّت العربي موضوع البحث في الصحافة العبرية والعربية على حد سواء، اذ اكتشف المحللون الاسرائيليون نصف الكأس الفارغ وهم ال50% من المصوتين العرب الذين غابوا عن صناديق الاقتراع اما الصحف العربية فقد نظرت الى النصف المليء كغير كاف وبمثابة بطاقة صفراء امام الاحزاب العربية التي قررت ان تخوض الانتخابات بقائمتين منفردتين. ان التحليل الشائع حول السبب الذي ادى الى نسبة تصويت منخفضة هو فقدان التأثير السياسي للأحزاب العربية في الكنيست، فهي معزولة عن القرار السياسي، تارة بسبب التحريض ضدها من قبل حزب الليكود الحاكم، وتارة اخرى بسبب خطابها القومي الديني الذي يسعى لرفع الاسوار الفاصلة بين المجتمعين العربي والاسرائيلي ليحول دون حصد الاحزاب الصهيونية اصوات عربية على حساب المقاعد العربية.

نداءات الاستغاثة من قبل الأحزاب والجمعيات المختلفة من اجل دفع الناخبون الى صناديق الاقتراع لم تفلح كثيرا فمثلما اشرنا نصف الطاقة الانتخابية بقيت غير مستغلة اما النصف الذي شارك في الانتخابات ف29 % منه ادلوا بأصواتهم للأحزاب الصهيونية وليس للأحزاب العربية فقط اذ حصل حزب ميرتس على 40 الف صوت مما انقذه من عدم تجاوز نسبة الحسم. وقد استطاعت ميرتس ان تحدث ثغرة في القلعة العربية المحصنة مما دفع برئيسة الحزب تمار زندبرغ الى الدعوة للوحدة بين حزب العمل وميرتس والاحزاب العربية لخوض الانتخابات القادمة في قائمة موحدة. فاذا كانت الأحزاب العربية قد خسرت ثلاثة مقاعد مقابل ما حصلت عليه في الانتخابات السابقة فحزبي العمل وميرتس خسرا معا 19 مقعد لصالح حزب غانتس ولبيد. وبعد ان هربت الاصوات اليسارية نحو اليمين فلا يبقى لليسار الصهيوني قاعدة انتخابية داخل المجتمع الاسرائيلي مما يدفعه نحو الناخب العربي، تماما مثل الغريق الذي يتمسك بالقشة لينقذ نفسه من الفناء.

وقد سارعت الاحزاب العربية الى رفض هذا الاقتراح متهمة حزب ميرتس برفض الاعتراف بإسرائيل كدولة لكل مواطنيها وهذا من اجل اغلاق الثغرة مجددا لكي يبقى المواطن العربي رهينة في ايدي هذه الاحزاب التي تحث المواطن على التصويت لها بحجة “اهمية الوجود العربي في الكنيست” وكصفعة في وجه اليمين الذي يريد كنيست خالية من العرب ولهذا الغرض رفع نسبة الحسم الى 3.25% غير ان هذا الاجراء ضد العرب اضر باليمين نفسه الذي خسر 250.000 صوت بسبب سقوط حزب “اليمين الجديد” لنفتالي بينت وحزب “هوية” لموشيه فيغلين الامر الذي منع من نتانياهو تحقيق انتصارا اكبر بكثير. وفي الوقت ذاته فان الوجود العربي في الكنيست لم يؤثر كثيرا على نتيجة الانتخابات التي تعود وتثبت الكتلة اليمينية برئاسة الليكود ككتلة حاكمة دون منازع.

لا شك ان استمرار الامور على هذا الشكل سيؤدي الى استمرار الانخفاض في نسبة التصويت في الوسط العربي مع انكماش حجم اليسار الصهيوني حتى اضمحلاله تماما. وهذا ما يدفع السياسيون الى طرح بدائل يكون بإمكانها مساعدة المعارضة من اعادة وزنها على الساحة السياسية. ان ما يجمع بين الاحزاب العربية وكتلة ميرتس وحزب العمل هو المناهضة العامة للاحتلال والتمسك ببرنامج “الدولتين للشعبين” اما الاختلاف فهو ايديولوجي ويدور حول الصفة اليهودية للدولة. غير ان برنامج حل “الدولتين” من ناحية والدولة “اليهودية والديمقراطية” التي ينادي بها اليسار الصهيوني قد اصبحا شعارا من عداد الماضي وغير قابل للتنفيذ. ويكفي النظر الى “صفقة القرن” التي لا تعترف بحل الدولتين والى 52 سنة من وجود الاحتلال و24 سنة بعد انشاء السلطة الفلسطينية للوصول الى يقين ان الدولة الفلسطينية اصبحت شعار، ربما خيال رومانسي ولكن لا علاقة له بالواقع.

ولا بد من التذكير لكل من يتستر من وراء شعار الدولتين، من احزاب عربية او صهيونية بان ما يعرقل اقامة دولة فلسطينية ليس موقف ترمب ونتانياهو فقط، بل وجود سلطتين منفردين وثابتين في كل من الضفة الغربية وغزة منذ عام 2007 الامر الذي اصبح حالة ثابتة لا حل لها في المستقبل المنظور. فقد قام ابو مازن في فك حكومة “التوافق” برئاسة رامي الحمد الله وتبديلها بحكومة محمد اشتية مما يعني التخلي عن غزة. من جانبها ابرمت حماس اتفاق هدنة مع اسرائيل بوساطة مصرية مقابل 40 مليون دولار قطري وتسهيلات اخرى هادفة الى تثبيت حماس في الحكم. بالإضافة الى انه قد اصبح جليا بعد كل هذه السنين ان لا فتح ولا حماس تستطيعان انشاء وادارة دولة بالمفهوم العصري. فالسلطتان اصبحتا نموذجا للنظام العربي القديم الذي يهتز بفضل رياح الربيع العربي، فهما تقمعا كل صوت معارض، ينخر مؤسساتها الفساد وجاهزة للتعاون مع الاحتلال من اجل اثبات وجودها.

في المقابل فان ديمقراطية الدولة اليهودية تلاشت منذ زمن بعيد ولا وجود لها في ظل وجود نظامين متوازيين، ابرتهايد في الضفة الغربية وامتيازات وديمقراطية للمواطن الاسرائيلي. وقد جاء قانون القومية ليضع حدا لهذا الازدواجية، ومثلما قال نتانياهو فإسرائيل هي دولة لليهود فقط والبقية مواطنين مع حق الاقامة. ما يميز اذا الاحزاب العربية واليهودية اليسارية عن احزاب اليمين هو عدم الاعتراف بالواقع. فاليمين فرض الموقف ويتحكم بالحكم بطرق مختلفة منذ أربعين عام بالإضافة الى انه خلق واقع سياسي جديد على الارض. والسؤال ماذا يمنع من اليسار الصهيوني من الاعتراف بالواقع والاستمرار بالحنين الى اسرائيل القديمة، الدولة اليهودية الديمقراطية التي كل وجودها استغرق 20 عاما من 70 عام لوجودها بين 1948 الى 1967؟ ما يمنع من اليسار الصهيوني التعامل مع الواقع بموضوعية هو الخوف من الخطر الديمغرافي، ان يصبح الفلسطينيين اغلبية ويضيع الى الابد حلم الدولة اليهودية.

ان موقف اليسار الصهيوني من الاحتلال لا ينبع من السعي الى بناء مستقبل مشترك بل من اجل الانفصال عن الفلسطينيين دون الاكتراث بمصيرهم، فحل الدولتين هو في الواقع مصلحة اليسار الصهيوني الذي يريد انقاذ الدولة اليهودية والحفاظ على ضميره الليبرالي. اما وفي الواقع الحالي وبعد اختفاء امكانية الفصل بين اسرائيل وفلسطين، وامام وجود نظام ابرتهايد في الضفة الغربية وحصار مدمر قد ادى الى كارثة انسانية في غزة، يبقى اليسار الصهيوني مرتبك ودون اجوبة جذرية لبرنامج اليمين العنصري. ان حل الدولتين اصبح شعارا خاويا اذ يهمش اليسار من جهة ومن جهة أخرى فهو يصب في طاحونة اليمين الاسرائيلي الذي يحرض على العرب ويحول اليسار الاسرائيلي الى خائن وعدو للدولة اليهودية.

في  المقابل فتتمايل الاحزاب العربية حسب ايقاع اليمين الحاكم، فانغلاقها القومي ونظرتها القومية الضيقة توفر لها المقاعد الكافية لتدخل الى الكنيست ولكن تحيّدها من كل نفوذ سياسي. فاذا كان العرب عنصر اساسي في مواجهة اليمين فالشريحة الاسرائيلية الليبرالية التي تعارض اليمين وفكره الفاشي هي ايضا عنصر اساسي في امكانية تأثير العرب على الساحة السياسية. ومن هنا لا يمكن بناء معارضة حقيقية لليمين على اساس قومي يهودي فقط، او فلسطيني بحت، لزاما عليه ان يكون عابرا الحدود العرقية والقومية ومؤسس على مبدأ المساواة والديمقراطية. اما والبرنامج السياسي الذي من شأنه توحيد الاسرائيليون والفلسطينيون على اساس هذه المبادئ فهي الدولة الديمقراطية الواحدة، ليست فلسطينية ولا يهودية بل ديمقراطية، مبنية على العدالة الاجتماعية، الاقتصاد الاخضر، تمنح لكل مواطن وكل تجمع ان يعبر بحرية عن طموحاته القومية او الدينية دون المس في الطبيعة الديمقراطية للدولة. واذا استمر الفلسطينيون بموقفهم القومي المنغلق والاسرائيليون بخوفهم الديمغرافي، في نفس الوقت الذي تتعاون سلطتا فتح وحماس مع الاحتلال، فالعرس اليميني الفاشي باقٍ معنا الى ابد غير منظور.   

عن يعقوب بن افرات