ما المشترك بين رئيس حكومة إسرائيل ورئيس حكومة حماس؟ المفارقة في الأمر أنّ لديهما عدوًّا مشتركًا- رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس (أبو مازن). كراهيّة هنيّة لأبو مازن لا حدود لها. يمثّل عبّاس كلّ ما يكرهه هنيّة: التسوية مع إسرائيل والعلمانيّة ورفض نظام الحكم الإسلاميّ. نتنياهو من جانبه يكره أبو مازن لأنّ اعتداله السياسيّ يهدّد حكم إسرائيل في الضفّة الغربيّة. يرغب أبو مازن في التوصّل إلى سلام مع إسرائيل على أساس العودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967 وإخلاء المستوطنات. أبو مازن يهدّد مستقبل نتنياهو السياسيّ، لأنّه من أجل تحقيق السلام ينبغي على نتنياهو الانفصال عن حلفائه من اليمين المتطرّف وعن بلاد الآباء.
بل وأكثر من ذلك، المشترك بين هذين القائدين، اللذين يقودان شعبيهما إلى “جولة” أخرى من العنف المدمّر، هو اتّفاقهما بالنسبة لمصير غزّة، وهذا يعني أيضًا مصير الضفّة الغربيّة. نتنياهو راضٍ للغاية من الانقسام الفلسطينيّ الداخليّ، الذي يشكّل ذريعة جيّدة لادّعائه الشهير بأنّه “لا شريك للسلام”. هنيّة، من أجل المحافظة على مكانة غزّة المرموقة، يعمّق الانقسام قدر الإمكان، وفي طريقه يبحث عن طريقة للتخلّص من “الشريك” أبو مازن.
الشريكان الحقيقيّان إذًا، هما نتنياهو وهنية، وكلاهما يعرفان ذلك. كلاهما لا يؤمنان بالسلام: يعاود هنيّة القول إنّه لن يعترف بإسرائيل أبدًا، ونتنياهو مع أنّه مضطرّ للقول بأنّه مع “حلّ الدولتين”، إلاّ أنّه من الواضح من تصرّفاته بأنّه لن يعترف أبدًا بدولة فلسطينيّة. في هذه الحالة، الهدنة أو التهدئة أو الردع المتبادل- لا أهمّية للاسم- هو الحلّ المثاليّ للطرفين.
كتوأمين متلاصقين
انعكست هذه الأمور جليًّا في الخطاب الذي ألقاه هنيّة في اليوم الثاني لعمليّة “عمود السحاب”. أعلنت القنوات التلفزيونيّة بأنّ نترقّب خطابًا هامًّا، وانتظرنا جميعًا هذا الخطاب، الذي لا شكّ أنّه يقرّر مصير عدد كبير من المواطنين في جهتَي الجدار. في تمام الساعة الثامنة مساءً ظهر هنيّة بوجه عابس، وخلال عشرين دقيقة من خطابه، الذي امتدّ لنصف ساعة، قام بتأبين قائد الذراع العسكريّة لحماس، أحمد الجعبريّ، في خطبة دينيّة كلّها ثناء على الشهداء الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل الله. في الدقائق العشر الباقية، أثنى هنيّة على مصر وعلى الخطوات الهامّة التي اتّخذتها، والتي تلخّصت في إعادة السفير وإرسال رئيس الحكومة هشام قنديل إلى غزّة في اليوم التالي. ادّعى هنيّة بأنّه هو والإخوان المسلمون وراء الربيع العربيّ، وكان لديه طلب بسيط من مصر. لم يطلب هنيّة إبطال اتّفاقيّات السلام مع إسرائيل، ولم يطلب أن تشنّ مصر حربًا على إسرائيل، بل اكتفى بطلب واحد وهو فتح معبر رفح.
خطاب هنيّة كشف عن نواياه. لم يتحدّث عن دولة فلسطينيّة، ولم يهدّد بالتوجّه إلى الأمم المتّحدة للحصول على اعتراف دوليّ. وحتّى أنّه لم يتوجّه إلى كلّ الشعب الفلسطينيّ. عندما عدّد شهداء الشعب الفلسطينيّ، ذكر أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، ولم يذكر قادة منظّمة التحرير الذين اغتالتهم إسرائيل، بدءًا بأبو جهاد الذي كان من مؤسّسي فتح، والكاتب غسّان كنفاني وحتّى ابو علي مصطفى، قائد الجبهة الشعبيّة. التاريخ الفلسطينيّ بحسب هنيّة، بدأ مع حماس، التي تحقّق غايتها بإقامة دولة غزّة التي في طريقها أن تحظى بالاعتراف.
من جهة أخرى، استضافت الأستوديوهات الإسرائيليّة وزراء الليكود الذين أُرسلوا لمهمّة شرح وتعليل الموقف الإسرائيليّ. وظيفتهم تمويه الحقائق قدر الإمكان، وتجنيد الجماهير “لجولة” حربية أخرى. بدا يسرائيل كاتس وكأنّه قام بتنسيق أقواله مع هنيّة، وصرّح إنّ هدف العمليّة العسكريّة الحاليّة ليس تقويض حكم حماس، وإنّما محاولة تحقيق الهدوء ووضع حدود واضحة في غزّة كما في لبنان. ادّعى كاتس أنّ إسرائيل يجب أن تنفصل تدريجيًّا عن غزّة وأن تتوقّف عن تزويدها بالكهرباء والوقود واحتياجاتها الضروريّة التي تمرّ عبر المعابر. هذا بالضبط ما يطالب به هنيّة من مصر: افتحوا معبر رفح لمرور البضائع والفلسطينيّين إلى مصر، وستكون الحدود بين إسرائيل وغزّة هادئة للغاية.
من الجدير ذكره أنّه في الأستوديوهات التي استضافت أفراد الليكود، حضر أيضًا ممثّلو المعارضة للمحافظة على الحياد الصحفيّ، لأنّه يجب علينا ألاّ ننسى أنّنا قبيل الانتخابات، ومن المهمّ تقسيم الوقت التلفزيونيّ بين الطرفين بالتساوي. كما كان متوقّعًا، عبّر ممثّلو “المعارضة” عن دعمهم المطلق للخطوات العسكريّة التي تتّخذها الحكومة، لكنّهم مع ذلك حاولوا بحياء ذكر فكرة انهزاميّة. فهم يوافقون أنّه من الصواب في الوقت الراهن فرض وقف لإطلاق النار على حماس للمدى الطويل، لكن إذا أردنا حلّ المشكلة ومنع تجدّد الحرب، يجب التفاوض مع أبو مازن للتوصّل إلى حلّ شامل. وزراء اليمين قاطعوا أقوال ممثّلي “المعارضة” وأسكتوهم بالقوّة بكلمات مثل “ما العلاقة” أو “وظيفتنا ليست إسقاط حماس من أجل أبو مازن”، “أبو مازن ضعيف وليس هو الحاكم، ولذلك لا شريك للتفاوض معه”.
الأمر ليس بهذه البساطة
وهكذا يرتبط كتوأمين متلاصقين، اليمين الإسرائيليّ، الذي يسعى إلى تكريس سيطرته على الضفّة الغربيّة، والأصوليّة الإسلاميّة، التي تسعى إلى تكريس سيطرتها على غزّة. لكنّ هذا مثل الوردة التي فيها شوكة. كي يتحقّق ذلك يجب فتح معبر رفح، وبذلك تتخلّص إسرائيل من أعباء حماس، وحماس من تعلّقها بإسرائيل.
إلاّ أنّه بدون مصر لن يتحقّق شيء من ذلك. لأوّل وهلة، وجود الإخوان المسلمين في الحكم كان من المفروض أن ييسّر ذلك، لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فتح معبر رفح يعني تدمير أبو مازن والسلطة الفلسطينيّة سياسيًّا، وكذلك تدمير إمكانيّة إقامة دولة فلسطينيّة. لذلك الحلم المثاليّ لنتنياهو هو أكبر كابوس لمرسي، الذي يشترط فتح معبر رفح بالمصالحة بين هنيّة وأبو مازن ونقل إدارة المعبر للسلطة الفلسطينيّة.
هكذا نرى أنّ كلّ شيء يعود إلى أبو مازن، “الذي لا يعتبر شريكًا” ولا أهمّية له، والذي أصبح محطّ السخريّة وقلّة الحيلة. يدرك الأمريكان والأوروبيّون ومصر أيضًا جيّدًا أنّ الاعتراف الفعليّ بحماس سيكرّس الصراع في الضفّة الغربيّة. هذا الاعتراف سينقل السيطرة على غزّة لمنظّمة أصوليّة، في حين ستبقى القضيّة الفلسطينيّة بدون حلّ وستهدّد أمن المنطقة بأكملها. عندما شنّت إسرائيل عمليّة “الرصاص المسكوب” على غزّة، كانت هذه المسألة قيد البحث. آنذاك ألقت حماس باللائمة على نظام مبارك الذي رفض فتح معبر رفح واتّهمته بالتعاون مع الاحتلال. واليوم يُطرح نفس السؤال ولا يجد له حلاًّ، رغم تولّي الإخوان المسلمين الحكم في مصر مكان مبارك.
الحلّ في غزّة لا يتعلّق بتوسيع العمليّة العسكريّة. سبعون ألف جنديّ لن يحلّوا المشكلة، وهذه العمليّة كسابقتها، لن تحقّق الهدف. الطريقة الوحيدة لضمان الهدوء في جنوب البلاد وفي تل أبيب والقدس هي السعي إلى إنهاء الصراع مع الفلسطينيّين. قبل أربع سنوات، بعد انتهاء عمليّة “الرصاص المسكوب” كتبتُ في مقال عنوانه “إسرائيل وحماس انتصرا، فمن الخاسر؟”:
“اليوم، والحقيقة واضحة، لأولمرت وبراك ونتنياهو أيضًا، والتي مفادها أنّه لا حلّ بدون العودة إلى حدود 1967، ما زالوا يفعلون كلّ شيء لمنع التوصّل إلى تسوية شاملة ونهائيّة. القيادة الإسرائيليّة هي قيادة جبانة، تنجرّ وراء مزاج الشعب بدلاً من قيادته، وترفض التفاوض على القدس الشرقيّة والانسحاب من هضبة الجولان، وتواصل تمويل المستوطنين. النتيجة الحتميّة لهذه السياسة هي استمرار إراقة الدماء بدون أيّ مبرّر، وبالتأكيد بدون أيّ هدف.”
بعد أربع سنوات منذ ذلك الحين، وفي أوج صفّارات الإنذار والتفجيرات، تحظى هذه الكلمات بأهمّية قصوى. عمليّة الرصاص المسكوب التي أدارها أولمرت وليڤني، أتاحت وصول نتنياهو إلى الحكم. واليوم قبل الانتخابات، من واجب كلّ من يرغب في طرح بديل لليمين الأصوليّ ومنع الحرب القادمة، أن ينادي بأعلى صوته: أوقفوا هذه الحرب اللعينة، وأنهوا الاحتلال والمستوطنات، وحقّقوا السلام.
نشر في الحوار المتمدن
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.