مع إعلان نتائج إمتحان “بيزا” الدولي لتقييم الطلاب، أبرزت الصحف الإسرائيلية وعلى صفحاتها الأولى فشل إسرائيل في مجال التعليم مقارنة ببقية دول العالم بما فيها 36 دولة صناعية متطورة تابعة لمنظمة OECD والتي تضم إسرائيل بين اعضائها. هذا الإمتحان الذي شارك فيه طلاب الصف العاشر في 79 دولة في العالم إمتحن التلاميذ في ثلاثة مجالات: فهم المقروء، رياضيات وعلوم. وقد حصلت الدول الأسيوية على الأماكن الأولى وعلى رأسها الصين وبعدها سنغافورة، ماكاو، هونغ كونغ وهي دول صغيرة من اصل صيني أيضا. وقد وجدت إسرائيل نفسها في المكان 41 الامر الذي أصاب وزارة التعليم بالصدمة والتي طلبت من منظمة OECD بإعادة فحص النتائج ولكن الجواب كان بان النتائج صحيحة.
وعلقت الجهات المختصة في اسرائيل على النتائج بالادعاء المعروف وهو ان المعدل المتدني نسبيا ينبع من النتائج المخيبة للآمال للطلاب في الوسط العربي الذين حصلوا على نتائج متدنية جدا حتى ادنى من نتائج دول عربية مثل الأردن ولبنان. وبدأت حملة الاتهامات المتبادلة بين وزارة التعليم وبين ممثلي المجتمع العربي على من يتحمل المسؤولية رغم ان الإحصائيات الرسمية لا تكذب. الإستثمار الحكومي على كل طالب عربي يبرز هذا التمييز ففي الوقت الذي تخصص الحكومة 40.3 الف شيقل على كل طالب في المدارس الحكومية الدينية ففي المقابل تخصص 24.5 الف شيقل على كل طالب عربي. غير ان هذا التمييز الفادح لا يمثل واقع التعليم العام في إسرائيل الذي يعاني من ازمة عميقة وفجوة تتسع سنة بعد سنة بين تحصيل الطالب الإسرائيلي والطلاب في أوروبا واسيا.
فالحقيقة هي انه وفي الوقت الذي يعاني المجتمع العربي من تمييز فادح في مجال الميزانيات الا ان من يستفيد من التعليم بشكل عام في إسرائيل هم 11% من مجمل الطلاب وهم من سينخرط في المستقبل في صناعات الهاي تك التي تقود الاقتصاد الإسرائيلي. وفي الوقت التي تبقى نسبة المتفوقين ثابتة على مدار السنين، فبقية الطلاب وهم الأغلبية الساحقة من يهود وعرب يعانون من تراجع مستمر، وبنسب متفاوتة، في مستوى التحصيل التعليمي. ان السبب لهذا التراجع العام نابع من التقليص في الاستثمار في التعليم بشكل عام. ان الاحصائيات الرسمية تكشف هذه الحقيقة. ففي سنة 2000 كان الانفاق القومي على الطالب في المرحلة الثانوية 26% من الإنتاج الإجمالي المحلي للفرد، لكن في 2014 هبط الانفاق بشكل حاد الى 19%، في الوقت الذي يصل الانفاق في دول الأوروبية على كل طالب ثانوي 25% من الإنتاج الإجمالي المحلي للفرد. هذا التقليص في الإنفاق هو ما يفسر تدني مستوى التعليم في إسرائيل مقارنة ببقية الدول المتطورة التي تشارك في امتحان بيزا.
ويأتي التدني على الانفاق في مجال التعليم في اطار تدني الانفاق العام على الخدمات الاجتماعية في إسرائيل في العديد من المجالات مثل الصحة، المواصلات، الشيخوخة، وهذا ضمن السياسة الاقتصادية التي انتهجتها حكومة نتانياهو خلال العقد الأخير. فالنهج النيو ليبرالي في إسرائيل يدعو الى تقليص الميزانيات الحكومية في كل المجالات، الإعفاء الضريبي على الشركات الكبرى، تشجيع الخصخصة وتفضيل راس المال الكبير على حساب رفاهية المجتمع ككل. فما يهم الحكومة الإسرائيلية هو حروبها ضد ايران، غزة والإستيطان ومراعاة شريحة ضيقة من المجتمع – نسبة 11% من المتفوقين بين الطلاب الذي اصبحوا المبادرين في مجال التكنولوجيا والذين سيتحولون الى أثرياء بعد نجاحهم ببيع اختراعاتهم في مجال العقل الاصطناعي والسيارة الذاتية بالمليارات الى شركات عملاقة متعددة الجنسيات مثل انتيل، ميكروسوفت او امازون.
اما والفجوة بين الطالب العربي والطالب اليهودي تتسع ليس فقط بسبب التمييز في ميزانية التعليم بل بسبب الفرق في المستوى المعيشي للمجتمعين. فاذا كانت معدلات الفقر (وهو اقل من 1500 دولار للعائلة) تشمل 50% من المجتمع العربي مقابل 14% فقط من المجتمع اليهودي، فالنتيجة هي ان العائلة اليهودية تستطيع ان تعوض النقص في الانفاق الحكومي في مجال التعليم من خلال دفعات للمدرسة تصل الى الوف الشواقل سنويا لتمويل دروس خاصة، دورات مختلفة وحتى الرحل السنوية وهذا بالرغم من ان وزارة التعليم تحظر مثل هذه الدفعات التي تميز بين الغنى والفقير. ما يزيد الفجوات هو إقامة مدارس خاصة في الوسطين العربي واليهودي وذلك من خلال جمعيات تدار من قبل أولياء أمور الطلاب ما يخلق فجوة إجتماعية داخل المجتمع العربي نفسه. فسياسة الحكومة الاقتصادية تقود الى كارثة في شتى المجالات، ليس فقط التعليم. والمتضررون هم الفقراء من اليهود والعرب الذي لا يمكنهم تمويل تعليم خاص او شراء تأمينات صحية خاصة وباهظة الثمن.
ومن هنا فالتركيز على التمييز ضد العرب يبقى في اطار نظرة ضيقة جدا وحتى غير مجدية، فمشكلة العرب تأتي ضمن مشاكل اكبر بكثير تشمل اليهود أيضا حتى واذا العرب هم بطبيعة الحال المتضرر الأكبر منها. ان مشكلة التعليم ليست مشكلة “عربية” بل إسرائيلية بامتياز وهي نابعة من أولويات الأحزاب الصهيونية التي تتمسك بالنظرة الأمنية قبل كل شيء الامر الذي يكلف المجتمع الاسرائيل ثمنا باهظا. ان الاصرار على عدم تغيير التوجه تجاه الفلسطينيين، الإصرار على تحديد ايران ك”خطر استراتيجي”، الانشغال اليومي في القضايا الامنية وتخصيص أموال طائلة تصل الى 72 مليار لميزانية وزارة الدفاع لا يبقي مجالا للإنفاق وتطوير القطاعات المدنية. ان تدني الإنفاق في التعليم مقارنة بدول OECD يوازي الفرق في الانفاق في المجال العسكري، فمعدل الانفاق الإسرائيلي على الجيش يصل الى 5% من الانتاج الإجمالي المحلي، اما وفي دول OECD لا يتعدى 2.5% مما يعني نصف الانفاق في إسرائيل وهذا ما يخلق فائض ممكن استثماره في التعليم، الصحة، المواصلات والشيخوخة.
ومع ذلك يبقى السؤال، هل يجدي الاستمرار في كيل الاتهامات للحكومة وتحميلها المسؤولية عن كل مصائب المجتمع العربي من ظاهرة العنف حتى الفشل في التعليم؟ هل يوجد قاسم مشترك بين الظاهرتين؟ هل إضافة مراكز شرطة ستحل مشكلة العنف وزيادة الميزانيات هي الجواب الوحيد لمشكلة التعليم؟ واضح ان القاسم المشترك بين الظاهرتين – تدني نتائج التعليم العربي والعنف المستشري – هو السلطة المحلية العربية العاجزة تماما بسبب تركيبتها، سلوكها، اعتمادها على العائلة وتشجيع العائلية، عن معالجة هذه الظواهر الخطيرة والمؤسفة. ليست “عائلات الاجرام” هي مصدر العنف بل البيئة الاجتماعية هي التي تسمح بل وتؤجج العنف، ان هؤلاء الطلاب الذين تسربوا من التعليم ويحملون وصمة الفشل على جبينهم هم من يعبرون عن احباطهم وغضبهم في الشارع.
وقد تطرق موقع “عرب 48” لهذه الظاهرة واشار الى “وجود عوامل ذاتية متعلقة بجهاز التعليم العربي، وأبرزها ظاهرة التعيينات لمفتشين ومدراء غير أكفاء، وبالتالي تعيين معلمين غير أكفاء، وبسبب قرابتهم مع مدراء ومفتشين”. هذا الكلام هو كلام سليم ودقيق جدا. فإذا استوعبنا هذه الحقيقة فهذا يعني ان مزيد من الميزانيات لا تكفي لمعالجة المشكلة فمن الممكن ان تتحول الى مصدر إضافي لتمويل الفساد، المحسوبيات، التعيينات وحتى الحروب بين العائلات على من سيسيطر على السلطة المحلية وبالتالي على التعيينات نفسها. نعم توجد ازمة تعليمية خانقة ولا يمكن تبرئة الحكومة ولكن اذا ارادنا إحداث التغيير فيتوجب اجراء حساب للذات قبل توجيه الاتهام للجهات الأخرى، والفشل في امتحان “بيزا” من الممكن ان يكون مثابة النفير العام الإضافي ونداء للتغيير المجتمعي الجذري. ان الانغلاق والبحث عن المسؤولين خارج المجتمع، عزل المشكلة العربية عن المشكلة العامة في إسرائيل لربما تساعد القيادة السياسية وممثلي العائلات التي استولت على السلطة المحلية ولكنها تضر المجتمع ولا تقود الى حل.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.