انتصار الأسد في القصير يعجّل في تفكّك سورية

حُسمت معركة السيطرة على القصير، ودُمرّت المدينة، وخلت من سكّانها الذين لم يُقتلوا في المعارك. إنّ هذا دون أدنى شكّ أهمّ انتصار للنظام السوريّ على الثوّار منذ بدء الثورة قبل حوالي سنتين. تقع القصير على مفترق طرق هامّ يربط بين دمشق ولواء حمص، وبين الساحل وجبل العلويّين الذي يطلّ على مدينة الميناء اللاذقيّة. قرب القصير من الحدود اللبنانيّة، جعلها ممرًّا للقوّات العسكريّة والسلاح الذي زُوّد للثوّار. هذا الإنجاز المشجّع، جعل النظام يواصل تقدّمه باتّجاه مدينتَي حمص وحلب بهدف احتلالهما من جديد وحسم المعركة بكاملها.

إلاّ أنّ الانتصار الباهر الذي حقّقه الأسد في القصير، خلط جميع الأوراق، ويبدو أنّه بدلاً من ضمان استمراريّة النظام، يمكنه أن يعجّل في تفكّك سورية النهائيّ، التي فقدت صورتها كدولة منذ زمن بعيد. لم يكن الأسد الذي حسم المعركة في القصير، وإنّما كتائب حزب الله المدرَّبة جيّدًا، وكان ذلك بإرشاد مباشر من جانب ضبّاط فيلق القدس التابع للحرس الثوريّ الإيرانيّ. الحقيقة أنّ الأسد اضطرّ للتوجّه إلى نصر الله تدلّ على تفكّك الجيش السوريّ، الذي عمليًّا توقّف عن أداء دوره العسكريّ. يشكّل توجُّه الأسد إلى إيران وحزب الله عمليًّا اعترافًا بأنّ سورية قد تنازلت عن سيادتها لقوّات أجنبيّة من أجل إنقاذ نظام عائلة الأسد. بذلك حوّل الأسد الحرب الأهليّة في سورية إلى حرب طائفيّة بين السنّة والشيعة، بهدف الدفاع عن النظام العلويّ. عمليًّا، الذي يحارب اليوم مكان الجيش السوريّ النظاميّ هي “لجان الدفاع الوطنيّ”، التي أقامها الأسد ككتائب علويّة ليس إلاّ.

من جهة أخرى، زعزع سقوط القصير العالم السنّي. نشهد رجال دين سنّيّين يدعون الشباب للخروج إلى الجهاد لإنقاذ إخوانهم من القوّات البربريّة التابعة لحزب الله، الذي يسمّونه “حزب الشيطان”. يأتي آلاف الشباب من جميع أرجاء العالم العربيّ إلى سورية بدافع الإيمان الدينيّ المتعصب، وهم مستعدّون للتضحية بأنفسهم في الحرب ضدّ “الكفّار الشيعيّين”. المذبحة التي نفّذها هؤلاء وقتلوا فيها ستّين من سكّان بلدة شيعيّة في منطقة دير الزور في الثاني عشر من شهر حزيران، تشهد على مجريات الأمور في سورية. بهذه الطريقة حوّل نظام الأسد الحرب الأهليّة في سورية إلى حرب طائفيّة بين السنّة والشيعة، بهدف حماية الهيمنة العلويّة.

 من حرب داخليّة إلى حرب إقليميّة

جاء الحسم في القصير في الوقت الذي تدأب فيه الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا على عقد مؤتمر جنيف الثاني، على أساس المبادئ التي تمّ الاتّفاق عليها بين أمريكا وروسيا. من المهمّ التنويه إلى أنّ ما قامت به أمريكا حتّى الآن هو أضرار فقط. قدّمت أمريكا تنازلات بعيدة المدى للروس عندما تخلّت عن الشرط الأساسيّ الذي مفاده أنّ كلّ تسوية في سورية ستكون على أساس إبعاد الأسد عن الحكم؛ عملت أمريكا من خلال السعوديّة من أجل تغيير تركيبة “الائتلاف الوطنيّ لقوّات المعارضة السوريّة” الذي كان من المفروض أن يمثّل القوّات الثوريّة في مؤتمر جنيف الثاني. وبالفعل بعد مفاوضات طويلة ومليئة بالاتّهامات المتبادلة، تقرّرت تركيبة الائتلاف، إلاّ أنّه عندئذ وقعت المعركة في القصير وشوّشت جميع الخطط. كما تدّعي المعارضة وبحقّ، حتّى انعقاد المؤتمر لن يكون ما شيء للتفاوض عليه، لأنّ النظام يعمل على حسم المعركة قبل انعقاد المؤتمر.

على ضوء الوضع الميدانيّ، اضطرّت الإدارة الأمريكيّة للاعتراف بما كان معروفًا منذ وقت طويل، الأسد استعمل غاز السارين وهذه هي ذريعة أوباما لتغيير موقفه وتسليح الثوّار. حتّى هذه اللحظة امتنعت أمريكا والدول الغربيّة عن تسليح الثوّار، بادّعاء أنّ السلاح سيسقط بأيدي أفراد تنظيم القاعدة. روسيا بخلاف ذلك، أحبّت مكانتها الجديدة، ولم تكفّ عن تسليح الأسد، دون أيّ خوف من تدخّل إيران وحزب الله. كما أنّ التفجيرات الإسرائيليّة لم تردع الأسد. بسبب التعامل المتهاود من جانب الإدارة الأمريكيّة التي تضع خطوطًا حمراء وتتجاهلها، الأسد مقتنع تمامًا أنّه لا توجد في الوقت الراهن قوّة في العالم تجرؤ على التدخّل عسكريًّا في سورية، وبذلك تستطيع النار الطائفيّة الاستمرار في حرق سورية في حين يتقاتل فيها طائفيّون متطرّفون من شتّى الأنواع.

كما أسلفنا، المعركة في القصير قلبت الموازين. لم نعد نتحدّث عن معركة بين نظام استبداديّ وفاسد وبين معارضة شعبيّة. ما حدث في القصير هو معركة إقليميّة شاملة، شارك فيها مشاركة فعّالة، كلّ من العراق وإيران ولبنان، في حين تحافظ دول مثل تركيّا والأردن وإسرائيل على حياد معيّن، لكنّها تنسّق فيما بينها مواقف بالنسبة للمستقبل. انتصار الأسد هو دون أدنى شكّ هزيمة لسورية. إيران التي تعتبر اليوم القوّة المؤثّرة في العراق، والتي تهيمن على أجزاء من لبنان بواسطة حزب الله، يمكنها أن تستغلّ الحرب الأهليّة من أجل الهيمنة على سورية.

وهن الإمبراطوريّة

تدرك أمريكا أيضًا أنّ عليها تغيير تعاملها في المنطقة، لكن ليس من الواضح إذا كانت لا تزال تملك القوّة للقيام بذلك. فقد سبق لها أن سلّمت العراق للإيرانيّين، وأدّت إلى تدهور سورية بسبب قلّة حيلتها، وبالطبع فشلت في كلّ ما يتعلّق بحلّ الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ. القرار الأخير الذي اتّخذه أوباما هو غير كافٍ وجاء متأخّرًا.

الخطوة الحقيقيّة الوحيدة التي قامت بها أمريكا حتّى الآن تجاه سورية هي الإعلان عن “جبهة النصرة” منظّمة إرهابيّة. منذ سنتين تتدخّل أمريكا في ما يحدث داخل قيادة المعارضة وتخلق توتّرات وخصومات هي في غنى عنها، لكنّها تمتنع عن مدّ يد العون الاستراتيجيّ الذي من شأنه أن يحسم الحرب مع النظام. مرّت سنتان قام النظام خلالهما بذبح مئة ألف مواطن سوريّ وبتدمير مدن كاملة، لكنّ أوباما يواصل تخبّطاته ولا يتّخذ قرارً حاسمًا، في الوقت الذي ضعفت فيه قوّة المعارضة السياسيّة خارج سورية وازدادت قوّة المتطرّفين، الأمر الذي وفّر للنظام حيّزًا هائلاً للمناورة، ووفّر للمتطرّفين أرضًا خصبة لخوض الجهاد على الكفّار. كلّ ذلك يدلّ على وهن الإمبراطوريّة الأمريكيّة، والمنطقة برمّتها في الطريق نحو فوضى عارمة ودامية.

أمريكا، شأنها شأن دول أخرى في العالم، تخشى ممّا سيحدث بعد سقوط النظام السوريّ، وخشيتها هذه تحوّلت إلى ذريعة لسياستها المتردّدة. فبالرغم من كلّ شيء، كان الأسد لصالح إسرائيل، وكانت له علاقات حميمة مع تركيّا، وحافظ على النظام الداخليّ، ولذلك يسامحونه على حلفه مع إيران وحزب الله. الحرب الأهليّة في سورية لا تكشف خطأ الادّعاء الأمريكيّ فحسب، بل تزيل القناع أيضًا عن الوجه الحقيقيّ للنظام السوريّ. تحوّلت سورية إلى سجن كبير لأغلبيّة المواطنين السوريّين، والأسوأ من ذلك، تحوّلت إلى نظام طائفيّ- عائليّ، قمع الأغلبيّة السنّيّة باسم القوميّة السوريّة. إنّنا نشهد اليوم ثوران غضب كان مكبوتًا خلال أربعين عامًا من الذلّ والقمع وتفضيل الطائفة العلويّة على الأغلبيّة السنّيّة.

إنّ إبعاد الأسد عن الحكم هو شرط مسبق لتحوّل سورية إلى دولة ديمقراطيّة طبيعيّة. طالما يحكم الأسد سورية من خلال حلفه مع حزب الله، سيستمرّ الإسلام المتطرّف في توسيع نطاق نفوذه. الحركات السلفيّة لا تسعى إلى الوصول إلى الحكم، وإنّما تسعى فقط إلى الجهاد- هذا ما حدث في الشيشان والبوسنة وأفغانستان واليوم في سورية والعراق. ليس لدى الإسلام المتطرّف خطط لبناء دولة أو مجتمع أو اقتصاد، وبالتالي ليس لديه أيّ مستقبل في سورية. يستمدّ الإسلام المتطرّف قوّته من ضعف المعارضة الديمقراطيّة من جهة، ومن الحلف بين الأسد وحزب الله وإيران التي تساعده في البقاء في الحكم، من جهة أخرى.

يريد الشعب السوريّ الخروج من هذه الحقبة السوداء في تاريخه، حقبة من الدكتاتوريّة والفساد، التي أدّت إلى انهياره. الطريقة الوحيدة لإحداث تغيير في سورية ولضمان الاستقرار في المنطقة هي دعم المعارضة الديمقراطيّة وتسليحها، من أجل التعجيل بسقوط النظام الذي يقود سورية نحو الهاوية. سنرى في المستقبل إذا كان تغيير الموقف الأمريكيّ لا يتعدّى كونه لفتة طيّبة تجاه الثوّار، أم أنّه سيؤدّي إلى تغيير وإلى وضع حدّ للحرب الدامية التي تزعزع أسس الشرق الأوسط بكامله.

תגיות:

عن