بين ليلة وضحاها صارت “داعش” القوة الإقليمية العظمى الجديدة التي أتت لتلغي حدود سايكس بيكو، وتصمم لنا شرق أوسطي جديد، سوقا سلفية مشتركة، وإمارة تعيد مجد المسلمين. فالحركات السلفية منتشرة في معظم أركان الوطن العربي والإسلامي، على رأسها “داعش” في سورية والعراق، وهناك تنظيم القاعدة في اليمن، بوكو حرام في نيجيريا، حركة الشباب الصومالية، وغيرها.
يبدو وكأننا أمام أممية جديدة استبدلت اممية لينين، وهي تحظى بدعم كل المستضعفين في الأرض. فهذه الظاهرة متواجدة في نفس المواقع التي هدّها الفقر، حتى باتت تفصل بين الغرب والشرق، وبين العالم الإسلامي الفقير والعالم المسيحي الغني. تمتد جذور ظاهرة الجهاد السلفي بكل تجلياته وتسمياته، إلى منتصف الثمانينات. في تلك الفترة تم استبدال نهج دولة الرفاه باقتصاد السوق الحرة، وتم إطلاق العنان لرأس المال والشركات المتعددة الجنسيات لتغزو العالم بحثا عن الأرباح.
قادت الولايات المتحدة هذا النهج وانضمت لها كل دول العالم الذي تحول إلى قرية واحدة ذات اقتصاد معولَم. الفجوات الاجتماعية اتسعت وتركزت الثروة في أيدي1% من المجتمع وتم إقصاء ال99% الباقين عن الاستفادة من النمو الاقتصادي. ومع ان الفجوات تجلت في كل دول العالم، إلا ان فقراء المانيا او الولايات المتحدة لا يستوون مع فقراء افغانستان، الصومال، مصر، اليمن، سورية أو العراق. فالفقر في منطقتنا مدقع ومهين ويأتي ممزوجا بالاستبداد والقمع والفساد، مما يفقد الانسان كرامته وأبسط حقوقه الانسانية والمدنية. لقد نما الإسلام الجهادي مع نمو الفجوات الاجتماعية، وترعرع في البيئة الفقيرة حيث مات الأمل بمستقبل أفضل وحيث سلب رأس المال من الإنسان إنسانيته.
غير ان الفقر والشعور بالقهر والإهانة ارتدت وجها قبيحا عندما قرعت اجراس العالم وفجرت اصنام رأس المال في نيويورك في11 أيلول 2001. في ذلك اليوم تغيرت قوانين اللعبة العالمية، حتى لم يعد بالإمكان الفصل بين ما حدث حينها وما يحدث اليوم في بغداد. خط واحد يربط بين هاتين المحطتين، وهو التدخل الامريكي في العراق.
الدواء الذي اختارته أمريكا لمعالجة مرض الإرهاب كان من إنتاج المحافظين الجدد. وهؤلاء اختاروا بدل تجفيف مستنقع الفقر أن يحاربوا البعوض الإرهابي. بحجة الإرهاب احتلوا العراق لإخضاع شعوب العالم للسطوة الأمريكية، وإجبارهم على القبول بالفقر، كما لو كان قضاء وقدرا لا نتيجة للسياسة الاقتصادية الرأسمالية العنيفة.
غير ان هذا المخطط باء بالفشل، فالحرب التي جرت على العراق الكوارث والويلات أدخلت أمريكا إلى أزمة كبيرة. فقد تكبد الأمريكان 4400 قتيل، عشرات آلاف الجرحى، تكاليف تعدت التريليون دولار واقتصادا مدمّرا. دفع الجمهوريون الثمن السياسي وخسروا الحكم لصالح الديمقراطيين برئاسة براك اوباما الذي أدان الحرب والنهج الاقتصادي المغامر الذي هدد بانهيار الجهاز المصرفي العالمي برمته.
الفشل الأمريكي في العراق والأزمة الاقتصادية المزمنة التي لا تنجح امريكا في الشفاء منها حتى بعد ست سنوات من ولاية اوباما، سبّبا تراجعا في الدور الأمريكي في العالم. الشعب الامريكي لا يريد ان يسمع المزيد عن التدخل في شؤون البلدان الأخرى، لما يكلّفه الأمر من خسائر في الأرواح والأموال. ولكن القضية أنه في نفس الوقت لا تزال الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة آخذة في الاتساع، والى هذا الفراغ الذي تركته أمريكا دخلت القوى الجهادية المتطرفة.
الأمر الجديد هو أن نفس الأسباب التي أدت لانتعاش التطرف الاسلامي، قادت لبروز نقيضه. ظاهرة الشباب المثقفين العرب الذين لا ينظرون الى الخلف والى امجاد النظام الاسلامي، بل يتطلعون للمستقبل العصري. لقد ثار هؤلاء ضد انظمة القهر وقد وضعوا نصب أعينهم برنامجا يلبي طموحات الشعوب العربية بالعيش، الحرية والعدالة الاجتماعية. فإذا كان الارهاب قد قرع نواقيس العالم في 11 أيلول وأبرز وجهه المدمر العدمي، فقد قرع الربيع العربي أجراس العالم كله وأظهر الوجه الإنساني للشعوب العربية، التواقة للانسجام مع طموحات الشباب في كل انحاء العالم، من مدريد، الى اثينا، من ميدان التحرير في القاهرة الى ميدان تقسيم في اسطنبول. وفي حين بقي الجهاد المتطرف ظاهرة هامشية معزولة ومرفوضة عربيا وعالميا، استوطنت الثورة العربية الشبابية في كل القلوب وأسقطت الأنظمة الواحد تلو الآخر، على نحو تعجز ألف “داعش” عن إنجازه.
عندما اختفت امريكا استعجلت السعودية وإيران لتقاسم الأدوار في محاربة الربيع العربي. دولتان استبداديتان، متخلفتان، تعتمد إحداهما على مبايعة الوهابيين ولثانية ترتكز على ولاية الفقيه، واحدة أصولية سلفية السنية والثانية أصولية شيعية. استفردت السعودية بمصر وموّلت الانقلاب العسكري، واستغلت في مساعيها خوف الشباب المصري من الإخوان المسلمين وعجزهم عن مواجهتهم سياسيا من خلال المسار الديمقراطي الذين ضحوا بدمائهم الزكية في سبيل إرسائه.
اما ايران فقد استنفرت طاقاتها دفاعا عن نظام الاسد المجرم، وجندت حزب الله اللبناني لمقاتلة الثوار السوريين الذين طالبوا بحقهم الأساسي في الحرية والديمقراطية. ولا يمكن إغفال دور قطر التي دعمت الإخوان المسلمين واستخدمتهم ورقة بيدها بهدف حرف الثورة العصرية الديمقراطية نحو الاسلام المعتدل.
ان الثورة الديمقراطية التي انبثقت عن الربيع العربي هي العدو المشترك لكل الانظمة الاستبدادية. السيسي، الاسد، المالكي، عبد الله السعودي ونظيره الاردني، الشيخ تميم القطري وحتى روحاني وخامنئي، كلهم يتصارعون فيما بينهم على مصالحهم المتناقضة ولكنهم يتوحدون ضد التغيير الديمقراطي.
لعل المستفيد الاكبر من هذا الصراع هو تنظيم “داعش” الذي يلعب في كل الحلبات وعلى كل التناقضات. فهو مع الاسد عندما حارب الامريكان في العراق، ومع المالكي عندما تدخل في شرق سوريا، هو ممول من الخليج ويخدم السعودية ضد المالكي، يبيع النفط للأسد ولكنه يتعرض لقصف الطيران السوري عندما يستولي على معبر القائم ويهدد بغداد. اليوم وبعد ان توقف عن لعب دور المرتزقة لمن هو مستعد لاستئجار خدماته المدمرة وتحول بحد ذاته الى “دولة”، توحدت امريكا وايران والاسد بهدف إعادته إلى القمقم.
لقد رفضت امريكا دعم الخيار الديمقراطي في العالم العربي. فقد دعمت المالكي حتى فوجئت بانهيار نظامه، وتلاعبت مع المعارضة الديمقراطية السورية حتى أفقدتها مصداقيتها وسمحت للأسد و”داعش” بتقسيم سوريا فيما بينهما، امريكا متسامحة مع الانقلاب في مصر، وتحمي النظامين الملكيين في السعودية والاردن، وفوق كل ذلك تدلل اسرائيل، والنتيجة لهذه السياسة الهدامة هي الفوضى.
رغم تعقيد الوضع فالحل بسيط، وقد عرضته بكل وضوح المظاهرات السلمية التي اجتاحت العالم العربي وأسقطت الأنظمة البائدة. الشعوب العربية لا تقبل الفقر، البطالة والاستبداد، لا تريد بديلا عن الاستبداد نظاما سلفيا ولا اخوانيا بل نظاما عصريا يضمن للمواطن حرية الرأي والتعبير، مكان عمل ومأوى.
لقد تبين من خلال الثورات العربية وجود قوى شبابية مثقفة مستعدة لقيادة المجتمع، لها رؤية واضحة وقدرات إبداعية هائلة، لا تملك رأس مال ولا جيش يحميها ولكن بيدها المفتاح للخروج من الوضع الخطير الذي يهدد المنطقة بأسرها.
ولكن اذا استمر العالم الحر بتجاهل هؤلاء الشباب وثورتهم، وتمادى في انتهاج السياسة التقليدية التي تراهن على الانظمة القائمة، فستكون النتيجة المزيد من قوى “داعش” والمزيد من الفوضى. هذه الفوضى لا تعرف حدودا وتهدد باجتيازها الى كل مكان في بقاع الأرض. فقد وحّدت العولمة الانسانية كلها، ولا حصانة لأي طرف ضد هذا المرض الفتاك الذي هو وليد النظام الرأسمالي الاستغلالي الذي يتغذى من الفقر والاستبداد وفقدان الامل بحياة حرة كريمة.