أثار تقرير مراقب الدولة حول عملية “الجرف صامد”، وهي التسمية الرسمية لأطول حرب شنتها إسرائيل على قطاع غزة عام 2014، ضجة سياسية كبيرة جداً. وكان الاتهام الرئيسي الموجّه ضد رئيس الحكومة، وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش بأنهم تجاهلوا خطر الأنفاق التي تجتاز الحدود بين غزة وإسرائيل واستخدمت من قبل كتائب القسام لمباغتة الجيش الإسرائيلي. كما اتهم تقرير المراقب القياديين الحكوميين والعسكريين بعدم وجود استراتيجية واضحة بما يتعلق بمستقبل قطاع غزة.
إن ما استدعى تحقيق مراقب الدولة كان دون شك سقوط 68 جندي إسرائيلي ومدة الحرب الطويلة التي استغرقت سبعة أسابيع. إلّا أن الفترة الزمنية الطويلة تدل على الاستراتيجية الإسرائيلية الواضحة جداً إزاء قطاع غزة والمبنية على الأسس التالية: الحرص على عدم إسقاط سلطة حماس والحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع نظام السيسي والسعودية. إن الهدف الاستراتيجي الذي تسعى حكومة نتانياهو لتحقيقه هو منع إقامة دولة فلسطينية بكل ثمن في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لم يمر أسبوع منذ اندلاع الحرب، حتى وضعت مصر على الطاولة “مبادرة” لوقف إطلاق النار والتي تماشت تماماً مع الموقف الإسرائيلي وهو “وقف النار مقابل وقف النار”. في المقابل تمسكت حماس بالمبادرة القطرية التركية التي حظيت بتعاطف خجول من قبل وزير الخارجية الأمريكي جون كري والتي دعت إلى وقف النار مقابل فك الحصار وبناء ميناء على شاطئ غزة. وقد انتهت حرب الإرادات بين الجانبين بعد أن دمرت إسرائيل حي الشجاعية ودمرت 20000 بيت، قتلت فوق 2000 فلسطيني منهم مئات الأطفال وزادت من الضغط وقصفت الأبراج السكنية في قلب غزة حتى خضعت حماس للشروط المصرية وبقت محاصرة من كل الجوانب وأصبحت الحياة في غزة مستحيلة بكل المقاييس الإنسانية.
ولم تنجح إسرائيل في فرض إرادتها على حماس وإحكام الحصار على غزة فحسب بل وحققت هدفها الاستراتيجي الرئيسي وهو تعميق الانقسام بين فتح وحماس وكذلك بين قطاع غزة والضفة الغربية. وقد زادت عزلة حماس بعد أن انقلب الرئيس التركي أردوغان على موقفه 180 درجة إثر الانقلاب الفاشل على سلطته في الصيف الماضي الأمر الذي أدى إلى التصالح مع الرئيس الروسي بوتين وإعادة العلاقات مع نتانياهو بعد قطيعة استمرت 6 سنوات على خلفية أحداث سفينة “المرمرة” عام 2010. ورغم العزلة السياسية والعسكرية المفروضة على حماس فالحركة لا تتجه نحو المصالحة مع فتح بل بالعكس تبحث عن كل الطرق الممكنة لترسيخ مكانتها آخذة بعين الاعتبار الموقف الإسرائيلي الحريص على إبقائها في السلطة.
وكما أفادت صحيفة الشرق الاوسط فإن حماس تعدّ وثيقة سياسية شاملة والتي في أساسها الاعتراف بحدود 1967، وفك الارتباط مع حركة الإخوان المسلمين. وإذا ثبتت حقيقة هذا الخبر فإن الحديث يدور بلا شك على إعادة تموضع حماس السياسي على ضوء العلاقة مع نظام السيسي وعلى ضوء اشتراطه عليها الانفصال عن الإخوان المسلمين كشرط مسبق لفتح معبر رفح. كما يفسر تعديل الميثاق الأساسي للحركة على خلفية التغيير في السياسة التركية التي لم تتخل عن التزاماتها تجاه الشعب السوري فحسب بل جددت العلاقة مع إسرائيل وهي تتنازل عن شرطها الأساسي لإعادة العلاقة مع إسرائيل بفك الحصار عن غزة وهو الشرط الذي وضعه أردوغان بعد الهجوم على سفينة المرمرة. ليس هذا فحسب، بل فقد قامت حماس بتنظيم “المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج” برعاية تركية ودعم قطري والذي أثار جدلاً واسعاً على الساحة الفلسطينية، وأعلنت فصائل في منظمة التحرير رفضها له، واعتبرت أنه يمس بصفتها التمثيلية، ويهدف إلى إيجاد هيئة بديلة عنها. وأخيرا تفيد “الشرق الاوسط” بان حماس تتجه الى تحويل حكومة الظل في غزة الى ادارة رسمية.
إن العزلة لا تقتصر على حماس بل تشمل أبو مازن أيضا بعدما تأزمت علاقاته مع نظام السيسي على خلفية صراعه مع محمد دحلان. الشيء الغريب هو أن نظام السيسي الذي يعجز عن إطعام شعبه خبزاً، يريد أن يفرض نفسه على الشعب الفلسطيني ويختار قياداته المستقبلية. إن محمد دحلان ليس ربيب السيسي فقط بل يحظى بالدعم من وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي عبّر علناً عن عدائه لأبي مازن ووجه ضدّه اتهامات مختلفة ويعتبره عقبة أمام تحقيق السلام في المنطقة. وقد عقد أبو مازن المؤتمر السابع لحركة فتح ليس من أجل البت في القضايا المصيرية التي تخص الشعب الفلسطيني مثل إنهاء الانقسام، مواجهة إدارة ترامب، والرفض الإسرائيلي الصريح لفكرة الدولة الفلسطينية بل من أجل إقصاء دحلان عن الحركة وتثبيت عناصر بديلة مثل جبريل رجوب الأمر الذي أثار حفيظة المصريين.
وإذا أرادت إسرائيل أن تستفيد من المحور المصري، الأردني والسعودي، ما يسمى “المحور السني” الذي من أجله قاتلت في الحرب على غزة فأبو مازن يعارض فكرة “المؤتمر الإقليمي” الذي اقترحته مصر بدعم من جون كري والذي حظى بدعم رئيس حزب العمل إسحاق هرتسوغ وباء بالفشل بسبب تردد نتانياهو الذي فضّل الانتظار حتى يتمكن من التنسيق مع إدارة ترامب الجديدة. وقد قامت مصر بمعاقبة أبو مازن ومنعت جبريل رجوب من دخول أراضيها بعد أن وصل إلى مطار القاهرة. وقد وصل الصراع داخل فتح إلى مخيم عين الحلوة في لبنان بعد أن تم فصل أكثر من 100 ضابط فلسطيني بسبب دعمهم لمحمد دحلان. الانشقاق بين فتح وحماس يرافقه انشقاق داخلي في فتح الأمر الذي يسمح للأنظمة المختلفة عربية كانت أو إقليمية أن تلعب مع الورقة الفلسطينية كيفما تشاء.
وقد استقوى أبو مازن بنظام السيسي من أجل تضييق الخناق على حماس إبان الحرب على غزة عام 2014 أما اليوم فإن حماس تبحث عن الطريق المؤدي إلى قلب الجنرال سيسي الذي انقلب بدوره على أبو مازن ويدعم دحلان. والقصة لم تنتهي بعد، فأبو مازن يلتزم بالتنسيق الأمني مع إسرائيل لقمع حماس في الضفة الغربية ولكن حماس التي تستند على المصلحة الإسرائيلية في الحفاظ على سلطتها في غزة قد تبحث عن طرق للتطبيع مع إسرائيل عبر شطب مصطلح “اليهود” من ميثاقها التأسيسي لتستبدله بكلمة “المحتلين” في الوثيقة الجديدة لتتخلص من تهمة اللاسامية. وقد سقطت كل الأقنعة وما بقي هو مأساة الشعب الفلسطيني الذي فقد أبسط مقومات الحياة في غزة ويخضع لنظام فاسد وديكتاتوري في الضفة الغربية.
البيت الفلسطيني قد خرب ليس بسبب إسرائيل بل بسبب الفلسطينيين أنفسهم، هذه الصراعات على السلطة في دولة لا وجود لها وهي خاضعة لحصار وأرضها تتآكل يومياً تحت أقدام الاستيطان تدل على فقدان الوجدان وفقدان البوصلة. لا تكفي الدعوة إلى استقالة أبو مازن التي أطلقها الكاتب هاني المصري في مقال رفضت صحيفة الأيام الفتحاوية نشره، ولا تكفي النداءات العبثية من قبل الفصائل الفلسطينية لإنهاء الانقسام. إن الوضع المتأزم يستدعي بناء حركة جماهيرية واسعة النطاق من أجل إعادة بناء البيب الفلسطيني. لقد أثبتت حماس مثلها مثل فتح أنها فشلت في كل ما قامت به حتى الآن سوى في شيء واحد وهو إحكام سيطرتها على الشعب خدمة للاحتلال. فنتانياهو ومعه اليمين الإسرائيلي هم المستفيدون من الشرذمة الفلسطينية وهم يسعون لإبقاء الوضع على ما هو عليه الآن، دولة يهودية إلى جانب إمارة إسلامية ضعيفة ومحاصرة في غزة وحكم ذاتي هزيل في الضفة الغربية.
إن الأفق أمام الدولة الفلسطينية قد انسد وليس في نية نتانياهو ضم الضفة الغربية لتصبح اسرائيل دولة ابرتهايد. ان موقف ترامب الذي دعا ابو مازن الى واشنطن هو الحفاظ على الواقع الحالي الامر الذي يدعم نتانياهو امام منافسه من اليمين المتطرف دعاء اسرائيل الكبرى. وفي النهاية تقع على عاتق الشعب الفلسطيني أن يختار مصيره، فإذا اختار إسماعيل هنية رئيساً لحماس مقابل موسى أبو مرزوق أو إذا فرض دحلان نفسه بمساعدة مصر وإسرائيل مقابل الرجوب لا شيء سيتغير بل ستؤجل القضية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.