نُشر المقال في صحيفة “كل العرب” بتاريخ 25 ايار 2012
في الصيف الماضي انفجرت الى الساحة السياسية في اسرائيل ظاهرة غير مسبوقة. الحراك الاحتجاجي الذي أخرج مئات آلاف المواطنين اليهود الى شوارع تل ابيب وغيرها من المدن الرئيسية للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، فاجأ الجميع من جماهير وسياسيين. غير ان الجماهير العربية التزمت اللامبالاة او الاستهتار إزاءها، وفي العموم عزلت نفسها عن هذا الحدث والتطور السياسي الهام وغابت عنه.
الشباب اليهود احتجوا على غلاء المعيشة وارتفاع اسعار السلع الاساسية، على الفجوات الاجتماعية وإثراء النخبة على حساب إفقار الاغلبية، على تعاون السلطة مع رأس المال والفساد الذي يرافقه، واعلنوا عن عدم ثقتهم بالحكومة وكافة مؤسسات الدولة. فهل هذه قضايا نختلف فيها؟ كلا.
لا حاجة لأن نرغي ونزبد حول طبيعة وكثافة المشاكل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها الجماهير العربية، وكل ناشط في المجتمع المدني الذي يحتك بالجماهير، يعرف هذه الهموم تماما. انها من الخطورة لدرجة اصبحت حديث الساعة في كل بيت وكل مكان، بعد ان بدأت نتائجها تطفو وبكل قوة على السطح من خلال استفحال ظاهرة العنف. إنها الفقر، البطالة العالية بين النساء والرجال من أكاديميين وغير أكاديميين بسبب التمييز العنصري او لتفضيل العمالة الأجنبية الأرخص، ظاهرة التشغيل بالمقاولة في أبشع مظاهر الاستغلال والأجور المتدنية والاستهتار بوسائل الوقاية مما يؤدي إلى مقتل العشرات من العمال العرب سنويا. انها ارتفاع أسعار الغذاء والمساكن والوقود والسلع الأساسية الأخرى حتى لم تعد الاجور تكفينا الشهر كله. انها وضع التعليم المتدهور والصحة الذي يشهد تراجعا، ومستوى المعيشة الذي يسير من سيئ الى اسوأ. الى هذا نضيف بالطبع المشاكل السياسية الكبرى، وعلى رأسها الاحتلال وما يتبعه في حق المواطنين العرب من قوانين عنصرية وتمييز في شتى مجالات الحياة.
وبعد أن قمنا بسرد سريع، وبالتأكيد غير شامل، لمظاهر المعاناة اليومية التي نشهدها كعرب في البلاد، اوجه سؤالي للناشطين في المجتمع المدني: ما هي الحلول والبرامج المطروحة لمعالجة الوضع وتغييره من جذوره؟ وهنا تبدو القائمة قصيرة للغاية. فالبرامج تكاد تكون شبه معدومة، مما يزيد عدم الثقة واليأس من إمكانية التغيير أصلا. ولكن الأمور بطبيعتها لا تقف في مكانها، فدوام الحال من المحال، والسؤال التالي هو كيف نصنع التغيير، رغم كل الصعوبات؟
أقترح أولا أن نلقي نظرة إلى إخوتنا في العالم العربي. المعاناة هناك هي ابلغ بكثير من معاناتنا، ولست هناك بصدد المقارنات، ولكنها حقيقة معروفة أن الشعب المصري مثلا يعيش، هذا اذا عمل اصلا، من 200 جنيه في الشهر دون حلول سكن دون جهاز صحة او تعليم ناجع وفي ظل انعدام شبكة امان اجتماعي، محروم من حقه في التنظيم النقابي والتنظيم السياسي لتغيير وضعه. وبالمقابل نشأت وترعرعت على مرأى من عينيه نخبة من الاغنياء الذين نهبوا ثروات الدولة وأمعنوا في استغلاله، بالتعاون مع السياسيين. هكذا استمر حاله 30 عاما واكثر، حتى كسر غلاء المعيشة ظهره، وأجبره على الخروج بصدره العاري مقابل نظام مستبد، للمطالبة بالحرية والتغيير، بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان واضحا انه سيدفع ثمنا عزيزا، ولكن الحياة والموت صارا سيان عنده، لانه كان يعرف انه يموت لأجل الحياة بعزة وكرامة.
وماذا عنا نحن؟ نحن ايضا نرى رؤوس الاموال كيف يزيدون ثراءهم على حسابنا جميعا، نرى الفجوات الاجتماعية بين العرب واليهود من جهة، ولكن ايضا بين الاغنياء والفقراء بغض النظر عن قومياتهم وأديانهم. ولكن لنا الحق مكفول بالقانون بالتنظيم النقابي والسياسي، بالتظاهر والسعي لتغيير واقعنا. فهل نسكت ونضيع الفرصة؟
انتقاد الكثيرين من عرب ويهود ضد حقيقة ان الحراك الاحتجاجي لم يتطرق لقضايا العرب في اسرائيل والعنصرية بحقهم، ولم يخرج بكلمة واحدة ضد الاحتلال، كان صحيحا وفي محله. ولكن لا يجب ان يمنعنا هذا النقد من فهم وتحديد طبيعة هذا الحراك، وتعريفه كنقطة تحوّل خطيرة في العلاقة بين المواطنين اليهود ودولتهم، وتعبير عن عدم ثقة اساسي في قدرة الحكومة وأي من الأحزاب القائمة على إدارة المجتمع بالشكل السليم.
ولكننا بصدد حراك، وليس حزبا ذا برنامج ملزم، ولهذا السبب بالذات تصبح المشاركة فيه وطرح شعارات مختلفة، أمر ممكن. هذا ما فعلناه نحن في كتلة حزب دعم ونقابة معا العمالية عندما شاركنا في المظاهرات تحت شعار “سلام، مساواة، عدالة اجتماعية”، ورددنا شعاراتنا بالعبرية والعربية في قلب تل ابيب.
ازاء مظاهر العنصرية والاستعلاء الموجودة بوضوح لدى اوساط واسعة من الجمهور اليهودي، علينا ايضا ان نلقي نظرة فاحصة الى مسؤوليتنا نحن عن تدهور العلاقات بين الشعبين. لا شك ان رد فعلنا ازاء الاستعلاء الصهيوني تجاهنا والاستهتار بحقوقنا وعقولنا والتمييز بحقنا على اساس قومي، جعل الاغلبية الساحقة منا تنغلق وتعزل نفسها عن الجمهور اليهودي، وتتنازل عن حقنا الاساسي في قلب المعادلة، كما لو اننا قبلنا بأننا أدنى من غيرنا ولا يحق لنا ان نعيش في وضع افضل ومستوى معيشة ارقى. رُحنا نحتمي بالشعارات وبالخطابات الرنانة المجلجلة، اكتفينا بالتزام اللامبالاة من جهة او بالمشاركة في فعاليات كل هدفها هو الاحتجاج ضد السياسات دون طرح برنامج ايجابي لتلبية مطالبنا.
ان الحراك الاحتجاجي هو فرصة ثمينة سنحت لنا لنصوغ من خلاله برامج ايجابية واقعية لكيفية تحقيق المطالب الخاصة بالوسط العربي، والتي تلتقي في الكثير من القواسم المشتركة مع مطالب الحراك العام، ونضيف اليها المطالب بوقف العنصرية والاحتلال لانها تؤثر على واقع حياتنا اليوم لا اقل من سعر البندورة. ان مشاركتنا الفعالة في الحراك الاحتجاجي داخل مدننا وقرانا العربية كجزء من الحراك العام، وطرح المطالب العامة والخاصة، ستؤثر بالضرورة على الرأي العام الاسرائيلي الذي بات جاهزا بل ومترقبا لاندلاع الاحتجاجات مجددا. لا شك ان هذا سيكون امتحانا للرأي العام الاسرائيلي بالنسبة لمدى امكانيته استيعاب الجماهير العربية ومطالبها المشروعة الاقتصادية والسياسية ايضا، وستكون هذه فرصة استراتيجية لنا لتغيير العقلية الاستعلائية والعنصرية المسيطرة على الساحة الاسرائيلية.
من معرفتنا القريبة من قادة الحراك في الصيف الماضي، لمسنا إعجاب هذه القيادات بالشباب المصري في ميدان التحرير، واعترف بعضهم انه استقوا الوحي والالهام من هؤلاء الشباب الذين قادوا الثورة نحن إسقاط أحد أكثر الأنظمة استبدادا وفسادا. نحن ايضا نستطيع ان نكون مصدر إلهام لأنفسنا أولا، ولغيرنا من المجتمع اليهودي ثانيا، لأننا جزء من الشعب العربي، وبقرار منا نستطيع ان نكون جزء من ثورته وربيعه. ولعلها اشارة هامة في هذا الاتجاه هو رد الفعل الايجابي والحماسي الذي قوبل به خطاب القيادية العمالية في نقابة معًا، وفاء طيارة من كفر قرع على منصة مظاهرة الحراك الاحتجاجي في بردس حنا في 12 أيار، وفيه جمعت بين الموقف المعارض للسياسات الاقتصادية والعنصرية والحربية التي تمارسها حكومة نتانياهو، وحظيت بتصفيق ودعم المئات من الجمهور اليهودي الذي شارك في المظاهرة.
في مظاهرة لافتة اخرى في القدس (بتاريخ 14 أيار) ضد مقر رئيس الحكومة تظاهر المئات من عمال المقاولين، وكان حضور مهيب للعمال والعاملات العرب من المثلث ومن القدس الشرقية المنظمين في نقابة معا. وكانت هناك كلمتان رئيسيتان للنقابية وفاء طيارة ولعبد الكريم شريف (ابو ياسين) من القدس الشرقية من عمال المقاولة في سلطة الآثار، حظيتا بتصفيق حار من الجمهور الاسرائيلي.
انطلاقة ربيع الجماهير العربية في اسرائيل يمكن ان تكون نقطة تحول ايجابية جديدة في العلاقات بين الشعب الفلسطيني واليهودي في البلاد على قدم المساواة ومن موقع قوة، في مواجهة سياسة الحكومة الاسرائيلية. ولا شك ان تغييرا كهذا وخلق علاقات شراكة على اساس مبدئي جديد يمكن ان يكون فاتحة خير أيضا بالنسبة لشعبنا الفلسطيني الرازح تحت نير الاحتلال والحصار والقهر، وان نكون بوقا لمطالبه العادلة وتكون لنا قدرة حقيقية على التأثير على مجريات السياسة وليس الاقتصاد فحسب.
يوم السبت 2 حزيران ستنطلق مظاهرة في تل ابيب ومدن رئيسية مختلفة. لنجعل هذا اليوم انطلاقة لربيعنا نحن ايضا، فنحن قادرون على القيادة وعلى التغيير.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.