سوريا وأوكرانيا وأوميكرن.. اختبار للديمقراطية وتوجب استخلاص الدروس والعبر

حشدت روسيا 100 ألف من جنودها على الحدود مع أوكرانيا مهددة باجتياح أراض الأخيرة في حالة لم تتجاوب الولايات المتحدة مع مطالبها. لم يكن التهديد الروسي شكلياً لأن طموحات بوتين السياسية لا ينبغي الاستهتار بها علماً بأنه لا يزال يخشى على مصيره وعلى استقرار نظامه. كما أن الأزمة الأوكرانية توشك على الانفجار وهناك توقعات باندلاع صراع بين روسيا والغرب قد يتدهور إلى حرب مدمرة بسبب النهج المغامر لسيد الكرملين.

روسيا فقدت هيبتها وموقعها العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وأصبحت اليوم شبيهة بدول العالم الثالث، حيث يبلغ نصيب الفرد فيها من إجمالي الناتج المحلي نحو 10 آلاف دولار سنوياً، مقارنا بـ 60 ألف دولار في أمريكا و40 ألف دولار في إسرائيل.

هذا الفرق الهائل بين الدولتين العظمتين يعني أن مستوى معيشة المواطن الروسي متدنٍ جداً والخدامات التي يحظى بها من الحكومة بسيطة وتكاد تكون شبه معدومة. وفي حالة نظام ديكتاتوري فاسد وأوليغارشي سيطر الطبقة المتنفذة على أغلب موارد الدولة، ليس هناك أفق للنمو وتبقى الطريقة الوحيدة لإعادة هيبة النظام السياسي هي استخدام الجبروت العسكري وإثارة النعرات القومية الروسية والطموح للعودة إلى أيام الإمبراطورية.

الصمت الغربي في سوريا فتح شهية الروس

وإذا نريد أن نفهم كيف وصلنا إلى هذه الحالة التي تهدد أمن القارة الأوروبية برمتها، لا بد أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إلى صيف عام 2013، في شهر أب/أغسطس وبالتحديد في بقعة صغيرة في الكرة الأرضية هي الغوطة الشرقية بريف العاصمة السورية دمشق التي تعرضت لقصف كيمياوي على يد نظام بشار الأسد. إن القصف الكيماوي الإجرامي الذي أسفر عن مقتل نحو 1500 من المدنيين الأبرياء لم يحدث من فراغ، بل كان اختباراً وتحدياً سافراً لسياسة الرئيس الأمريكي، آنذاك، أوباما الذي طالما هدد بالتدخل العسكري في حالة استخدم النظام السوري الأسلحة الكيمائية ضد مواطنيه، الأمر الذي عُرف بـ “خطوط أوباما الحمراء”.

القصة معروفة للجميع، ولكن بدل من التدخل العسكري لصالح المعارضة السورية فضّل أوباما اللجوء إلى ما سمي الوساطة الروسية التي انتهت بصفقة مع بوتين تقوم على مصادرة أداة الجريمة وترك الجاني من دون عقاب، على شكل اتفاق دولي ينص على نقل وتدمير الترسانة الكيمياوية السورية.

وبعد سنتين بالضبط من تلك المجزرة المروعة والصفقة المشينة، بدأ التدخل الروسي العسكري في أيلول/سبتمبر 2015، وبدأ القصف الجوي الروسي من أجل إنقاذ نظام الأسد واحتلال سوريا بهدف إقامة قواعد عسكرية، جوية وبرية وبحرية، على الأراضي السورية، مما يعني أن دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة استسلمت للطموحات التوسعية الروسية.

ويبقى السؤال المطروح لماذا استسلمت الولايات المتحدة في عهد أوباما للجبروت الروسي؟ الجواب الطبيعي هو عدم رغبة الأمريكيين بالتدخل العسكري بعد تجربتي العراق وأفغانستان المكلفتين والفاشلتين. أما السبب الثاني وهو المؤلم أكثر هو الاعتقاد بأن حياة السوريين لا قيمة لها. ونرى أن هذا الاستسلام لطموحات بوتين، والتغاضي عن أبشع الجرائم ضد الإنسانية، واللامبالاة تجاه حياة ملايين السوريين الذين أصبحوا لاجئين داخل بلادهم وخارجها، وقبول تدمير حضارة عتيقة وتاريخ فاخر، قد أطلق يدي بوتين وزادت من شهيته الإمبريالية.

اليوم، مشهد المدرعات الروسية التي تحاصر أوكرانيا وتبث الرعب بين دول البلطيق المجاورة تشير إلى أن الغرب يجني الثمار المتعفنة التي زرعها في الغوطة الشرقية لدمشق عندما أغمض عينيه عن المجزرة بحق المدنيين وعدم منع احتلال الأراضي السورية وفقاً لكل الأعراف والقوانين الدولية، أي أن الصمت الغربي في سوريا سمح للروس بنقل المواجهة العسكرية إلى الحدود الشرقية للقارة العجوز.

الاستهتار الغربي بحياة فقراء العالم

لم ينحصر استهتار الغرب بحياة الناس في سوريا فحسب، وإنما يشمل الشعوب العربية برمتها والشعوب والدول الفقيرة بشكل عام في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لا سيما وأن الأزمة الراهنة في أوكرانيا تتزامن مع أزمة لا تقل خطورة يواجها العالم وهي أزمة وباء كورونا المستمرة منذ سنتين من دون أن يجد لها حل. والسؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف ممكن للدول الأكثر تقدماً علمياً وتكنولوجياً أن تفشل في معالجة مثل هذه الكارثة الصحية؟ وكيف لنا أن نتصور أن الولايات المتحدة الغنية والتي تمتلك أحدث وأهم المعاهد العلمية أصبحت الأكثر تضرراً من الوباء الذي أودى بحياة 850 ألف من سكانها ووقوع خسائر مادية ونفسية ضخمة؟ الجواب مرتبط أيضا بسياسة الاستهتار بفقراء العالم الذين استثنوا من اللقاح، وبالتالي أصبحوا أرضية خصبة لتوليد متحورات الفيروس الوبائي وطفراته المتسلسلة كان آخرها أوميكرن المتفشي على نطاق واسع عالمياً حالياً. ومن هذا المنطلق لم يكن من الصدفة أن المتحور دلتا ظهر في الهند وأسفر عن ملايين الوفيات، بينما أُكتشف أوميكرن في جنوب أفريقيا.

إن إحدى المسلمات الأساسية في علم الصحة العمومية هو أن “لا أحد يبقى محصناً إذا لم يحصن الجميع” مما يعني أن لا وجود لحل “قومي” لوباء ذي طابع عالمي، فكلنا في نفس الوحدة الصحية كون الفيروس لا يعترف بالحدود القومية وينتشر بين البشر من دون التفريق بين اللون أو العرق وبسرعة فائقة. والسؤال يبقى لماذا لم يتم تطبيق هذه السياسة الصحية البسيطة والاهتمام بتطعيم العالم بأسره وبالتالي حماية البشرية من الوباء القاتل؟ الجواب على هذا السؤال الصعب هو بأنه الدول الغنية التي بقيت غير مبالية بحياة السوريين لن تبالي أيضاً بحياة الفقراء وتوهمت بأن اللقاح سيحميها من العدوى وأن المرض سيبقى في حدود الدول الفقيرة حيث احتكرت الدول الغنية 80% من مجمل اللقاحات التي تم انتاجها، بينما نسبة 8% فقط من اللقاحات المنتجة خلال عام 2021 وصلت إلى الدول الفقيرة.

ومع غياب التطعيم على نطاق واسع حدث ما كان قد حذروا منه العلماء وهو ظهور متحورات جديدة في دول العالم الثالث الفقير. والمفارقة هنا كانت أن المتحورات الجديدة (ألفا وبعدها أوميكرن) عادت وضربت الدول الغنية التي توهم سكانها بأنهم محميون ورأينا في النصف السنة الأخيرة مرة تلو الأخرى، كيف وقفت السلطات في دول الغرب عاجزة عن وقف انتشار الوباء بعد أن وعدت مواطنيها بأنه مع التطعيم “وصلنا بر الأمان”، إلا أن هذه التطورات ضربت بقوة مصداقية المؤسسات الصحية والحكومات وعلى رأسها حكومة البيت الأبيض بقيادة بايدن التي وعدت الأمريكيين بأنهم سيحتفلون بيوم الاستقلال الأمريكي في 4 يوليو/تموز 2021 بالنصر على كورونا.

المعركة من أجل الديمقراطية تتطلب تغليب مصلحة الشعوب

أما ما هو السبب الذي كان يمنع تلقيح العالم والانتهاء من هذا الوباء القاتل؟ أنه الطمع بالتأكيد، وبحسب المثل العربي “طمع ضر ما نفع”. فالطريق الوحيد للوصول إلى تلقيح العالم هو تنازل شركات الأدوية عن الملكية الفكرية مما يسمح لمصانع الأدوية في شتى أنحاء العالم أنتاج اللقاح وتوزيعه على نطاق واسع وبأسعار رخيصة. ويشار إلى أن رفض شركات الأدوية المصنعة للقاحات التطعيم ضد فيروس كورونا، مثل “فايزر” و”موديرنا” التنازل عن ملكيتها الفكرية مدعوم من قبل الحكومات الغربية وعلى رأسها ألمانيا وبريطانيا بينما تبقى إدارة بايدن مترددة في الموضوع.

إن شركات الأدوية تحتكر السوق وتجني أرباحاً طائلة على حساب الإنسانية ككل، ولها تأثير قوي[KK1]  جداً في المؤسسة الطبية والحكومات التي تخشى أن تتخذ موقف يضرب بمصالحها وارباحها. إلا أن أوميكرن وضع حداً للوهم القومي، والاعتقاد بأن من الممكن القضاء على الوباء بشكل منفرد في دولة واحدة من دون تلقيح العالم برمته أثبت بأنه غير واقعي. وأثبت التلقيح أنه ليس الحل لا سيما وأن فعاليته تنتهي بعد ست شهور ولا يمنع العدوى، ووفقاً لذلك يبقى تلقيح العالم الطريقة الوحيدة للقضاء على كورونا.

وفي سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أن الرئيس بايدن قسّم المجتمع العالمي إلى قسمين، الأنظمة الاستبدادية والأنظمة الديمقراطية، وحدد بشكل واضح بأن هذا هو صراع العصر وبلا شك المواجهة الراهنة مع روسيا حول أوكرانيا تقع ضمن هذا الصراع. وإن الموقف المتعاطف مع الطغاة الذي تبناه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والموقف الضعيف تجاه الدول الديكتاتورية من قبل إدارة الرئيس أوباما قد قرب العالم إلى الهاوية.

وإذا أراد بايدن أن ينقذ الديمقراطية الأمريكية من براثن الفاشية والعنصرية التي تفشت على نطاق واسع في الولايات المتحدة عليه أن يتبنى موقفاً حاسماً من الأنظمة الاستبدادية، من ضمنها الأنظمة العربية الفاسدة التي تقمع القوى الديمقراطية في بلادها. وفي هذا السياق لم يكن صدفة غياب الدول العربية في المؤتمر الدولي من أجل الديمقراطية الذي نظمته إدارة بايدن في شهر كانون أول/ ديسمبر الماضي، باستثناء العراق، وإنما بسبب رفض البيت الأبيض تقديم الدعوة لهذه الدول.

وعلى الرغم من هذا الموقف إلا أنه لا يكفي، فإذا أراد بايدن أن ينقذ بلاده من الكارثة الصحية، عليه أن يظهر التضامن مع كل شعوب العالم، وأن يقوم بدور ريادي من أجل القضاء على الوباء. ويتوجب عليه وعلى الحزب الديمقراطي وضع مصير الإنسانية فوق أرباح شركات الأدوية الرأسمالية من أجل أن تصبح الولايات المتحدة قائدة الدول الديمقراطية وقدوة لبقية العالم. ما قام به بايدن حتى الآن في هذا المجال هو بلا شك مخيب للأمل وهو نفسه يدفع الفاتورة السياسية الآن بعد أن هبطت شعبيته إلى أدنى درجة بسبب فشله في إدارة أزمة كورونا وعدم وفائه بوعوده أمام الشعب الأمريكي. كما أن أزمة أوميكرن تدل على أن النداء من أجل التنازل عن الملكية الفكرية وتطعيم العالم هو شرط لا بد منه لإنقاذ الإنسانية والنظام الديمقراطي.

عن يعقوب بن افرات