على الأسد الرحيل!

 

زاد الترقب حول الضربة العسكرية الامريكية على سورية، بعد أن تراجع اوباما عن قراره شن هجوم صاروخي على النظام السوري في اللحظة الاخيرة. قد يكون لقرار مجلس العموم البريطاني رفض اقتراح رئيس الوزراء ديفيد كامرون في نفس الصدد، تأثير على قرار اوباما إعادة حساباته السياسية.

 كان واضحا لأوباما بان الكونغرس الامريكي الذي يسيطر عليه جمهوريون متطرفون سيقف له بالمرصاد سعيًا لإفشاله. فمن جهة دعا النائب الجمهوري جون مكين منذ مدة طويلة الى تسليح المعارضة السورية خلافا لموقف اوباما، ولكن عندما اتضح ميل اوباما للقيام بخطوة لضرب النظام السوري، سارع مكين لانتقاده والادعاء ان الضربة المحدودة لن تساهم في تقويض النظام. فلجأ اوباما إلى وضع الجمهوريين أمام أحد خيارين: إما العمل بالحساب السياسي الضيق لمجرد إفشاله كما فعل حزب العمل البريطاني، وإما الالتزام بموقف زعيمهم مكين ومنح الدعم الكامل للرئيس لشن الضربة.

ان استمرار المأساة السورية نابع من هذه الحسابات السياسية الضيقة، إضافة إلى أن الرأي العام الأمريكي والأوروبي فقد كل ثقة بالقيادات السياسية بعد حرب العراق التي كانت مبنية على الكذب. وما يزيد من هذا التشكيك في صدقية النخبة الحاكمة في أمريكا وبريطانيا هي الأزمة الاقتصادية التي نتجت هي الأخرى عن الكذب والسرقة من قبل البنوك الكبيرة، مما دفع الناس للبطالة وفقدان ممتلكاتهم المادية. وقد ادت هذه الحسابات السياسية الضيقة إلى تشويه صورة الثورة السورية ووصفها كحرب اهلية بين تنظيم القاعدة والنظام حتى يسهل على السياسيين التهرب من مسؤوليتهم تجاه الكارثة التي يعيشها الشعب السوري.

قبل ان تتعقد الحالة السورية، كانت بدايتها مشابهة الى حد كبير بالثورة المصرية والتونسية: الشعوب قامت لتتمرد على انظمة بن علي، مبارك والاسد الاستبدادية. وقد اضطر اوباما ان يتماشى مع التاريخ ويتخلى عن الطاغية في كل من تونس ومصر، ونادى الى رحيل الأسد. ولكن الاسد ليس كمبارك او بن علي، فهو لم يذعن لإرادة شعبه بل لجأ الى الحل الأمني وأقحم الجيش للقضاء على الثورة. إزاء إصرار الأسد على التمسك بالحكم، أظهرت امريكا تذبذبا وارتباكا حتى تدهور الوضع الى ما هو عليه الآن. النتيجة أن الشعب السوري لا يعرف سوى الموت، الدمار، التشريد وقد وقع بين فكي كماشة: نظام فاشي شرس ومنظمات جهادية متطرفة ترتزق من القتال، بينما تتراجع مكانة المعارضة الديمقراطية بسبب فقدان الدعم الغربي لها رغم الوعود الكثيرة التي تلقّتها.

ما يميز اوباما هو عدم قدرته على القرار. انه رئيس فاشل خيّب آمال شعبه وبالذات اولئك الذين دعموه وتوقعوا منه التغيير الموعود. بسبب سياسته الفاشلة وانحنائه أمام الشركات والبنوك على حساب أغلبية الشعب من طبقة وسطى وعمال وفقراء، فقد الأغلبية في الكونغرس وأصبح رهينة للحزب الجمهوري. وكما فشل في ادارة الاقتصاد فشل أيضا في إدارة الأزمة السورية، فبدل دعم الشعب السوري والمعارضة عمل على التشكيك بها، وشارك مع السعودية في تدبير الانقلاب على قيادتها وفرض قيادة جديدة بهدف الوصول الى مصالحة مع نظام الأسد.

النظام فسر هذا الموقف بأنه ضوء اخضر للاستمرار في القمع الشرس للثورة. ففي اليوم التي اتفق فيه على انعقاد مؤتمر في جنيف يجمع بين النظام والمعارضة، قام النظام بقصف مدينة حمص بصواريخ “سكود”. وكلما سعت أمريكا لإجبار المعارضة على التفاوض مع النظام، قام النظام بتصعيد هجومه لسحق المعارضة. وذهب النظام الى درجة الاستعانة بحزب الله لمهاجمة مدينة القصير حيث ارتكبت ميليشيات حزب الله مجزرة رهيبة احتفل النظام على أثرها بانتصاره. وكلما التزمت امريكا بعدم التدخل في سورية ومنع تسليح المعارضة بأسلحة دفاعية قامت روسيا بزيادة مساعداتها العسكرية للنظام. ان التدخل الخارجي كان احادي الجانب والتكلفة باهظة، اكثر من مئة ألف قتيل، سبعة ملايين مشرد وأكثر من مليونين بيت مهدم.

تسابق النظام المجرم مع الوقت، وكان واضحا أن العالم يمنحه مهلة للقضاء على المعارضة، وقد كثرت التقارير في الصحف الغربية عن الانتصار الوشيك للنظام وعن ضعف المعارضة وسيطرة المنظمات الجهادية على الساحة، وفي نفس الوقت منع الروس أي إجراء ضد النظام في مجلس الامن، وسلّحوا النظام في الوقت الذي دخلت فيه ايران بقوة من خلال حزب الله لحسم المعركة. ولكن رغم التقدم الاولي في شمال سورية تجمدت الجبهات ولم يتمكن النظام من إحداث اختراق استراتيجي يذكر. هذا ما دفعه في خطوة يائسة إلى استعمال الأسلحة الكيماوية لتقريب الحسم. في البداية كان ذلك بكميات صغيرة يصعب الكشف عنها ولا تستفز الغرب “الليبرالي”، الأمر الذي دفع اوباما الى رسم خط احمر ولكنه امتنع بشكل منهجي عن الاقرار بان النظام استخدم الكيماوي في حين كان الروس أنفسهم يقرّون باستخدامه ويتهمون المعارضة بذلك.

ومع الوقت تعّود النظام على ان الكيماوي هو جزء مشروع من لعبة التدمير، وان الرأي العام المشغول بهمومه اليومية سيعتاد عليه كما اعتاد على صور المجازر المروّعة. ولكن انتشار الصور والشهادات عن 1400 جثة، أكثرهم من الأطفال والنساء، الذين لقوا حتفهم بقصف الغوطة الشرقية بالسلاح الكيماوي، أخرجت المعادلة عن توازنها. يحاول النظام وحلفاؤه التغطية على الجريمة على أمل التنصل مرة أخرى من العقاب. وتجند الرئيس الروسي بوتين كشاهد دفاع وادعى مستندا على الادعاء بانه من غير المنطقي ان يهاجم النظام شعبه بالكيماوي في ظل تواجد لجنة التفتيش من الأمم المتحدة، لانه يعرف ان هذا سيعرضه لعقوبات عسكرية ضده. كما لو كان منطقيا ان يقوم الأسد بقتل مئة الف في سبيل حفظ نظامه.

بوتين، الاسد، نصر الله والنظام الايراني يخاطبون العقل ويلجؤون للمنطق ولكنه بالفعل “يستهبلون” الناس ويسعون لتغطية الشمس بغربال. الاسد هو اولا واخيرا زعيم عربي مثله مثل كل الزعامة العربية، هل يشك احد في العالم العربي بقدرة واستعداد الزعامة العربية على قمع الشعوب الطامحة للحرية بكل ما تملك من قوة لحفظ نظامها؟ هل نحن بحاجة لأدلة؟ بماذا يختلف الاسد عن صدام حسين، القذافي، مبارك، علي عبد الله صالح، او الملوك العرب؟ بماذا يختلف تل الزعتر عن ايلول الاسود؟ اذا كان هناك خلاف فليس في الجوهر بل في مدى شراسة النظام. فما نراه في سورية لم نشهد له مثيلا من حيث التدمير المنهجي، المذابح الفظيعة، الاغتصاب الجماعي، التطهير العرقي، التعصب الطائفي والكذب والتضليل.

وأخيرا قرر اوباما القيام بعمل ما مشروط بموافقة الكونغرس للجم النظام السوري، ولكن دون إسقاطه. ما تقوم به امريكا ليس من اجل الشعب السوري بل من اجل أمنها ومصالح حلفائها في المنطقة وعلى رأسها اسرائيل. فسورية تحولت الى ساحة جهادية ممتدة من سيناء إلى اليمن، العراق، مرورا بسورية حتى لبنان. بقاء النظام السوري، دون أن يتمكن من حسم المعركة، يزيد من قوة المنظمات الجهادية ويعمق جذورها. ولكن العالم لا يمكن أن يسمح لنظام استبدادي مدعوم من روسيا وإيران باستخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه. ورغم تصريحات بوتين “المنطقية”، فقد أثبت مجرد اللجوء للكيماوي بأن الاسد ضعيف، جيشه منهار حتى انه لجأ الى حزب الله لينقذ الوضع. ولكن سورية ليست لبنان التي يتمتع فيها حزب الله بقوة ونفوذ واضحين، بل سورية اكبر من قدرة حزب الله على السيطرة عليها.

لا مستقبل لسورية مع الأسد ولا مستقبل للأسد في الحكم ومن يراهن على بقائه يراهن على الحصان الخاسر. ان الحل للمشكلة السورية يكون برحيل هذا النظام حتى يتم سحب المبرر لوجود المنظمات الجهادية على الارض السورية. ليس من مهمة اوباما إسقاط النظام، هذا ما يقوم به الشعب السوري الذي يدفع ثمنا غاليا جدا من أجل حريته. ان النظام السوري المقبل لن يأتي على متن دبابة أمريكية بل على دماء وأرواح الشهداء، المعتقلين والمشردين السوريين الذين ضحوا بالغالي والنفيس من اجل بناء دولتهم الجديدة بعيدا عن الاستبداد والطائفية.

 

 

عن