في التاسع والعشرين من نوڤمبر هذه السنة، تعترف هيئة الأمم المتّحدة للمرّة الثانية بدولة فلسطينيّة، ومرّة أخرى سيكون هذا الاعتراف “شكليا”، في محاولة يائسة وأخيرة لوضع حدّ لهذه المأساة. لكن على ضوء نتائج الانتخابات التمهيديّة في الليكود واستطلاعات الرأي التي تتوقّع زيادة قوّة كتلة اليمين، يبدو أنّ هذا الاعتراف هذه المرّة أيضًا سيبقى مجرّد إعلان لا غير. لم يخرج الفلسطينيّون في الضفّة الغربيّة وفي غزّة لرقص الدبكة في الشوارع ابتهاجًا “بهذا الإنجاز” ولا يتوقّعون شيئًا من قائدهم أبو مازن، بعد أن فقد مكانته السياسيّة في المجتمع الفلسطينيّ.
يبدو أنّ هذه الخطوة التي يقوم بها أبو مازن في هيئة الأمم المتّحدة، جاءت أساسًا لاستعادة مكانة أبو مازن وليس لوضع حدّ لمعاناة الشعب الفلسطينيّ. سنوات من المفاوضات العبثيّة، تلتها أربع سنوات طويلة بدون مفاوضات أو أيّ أفق سياسيّ، أقنعت الشعب الفلسطينيّ بأنّ المفاوضات السياسيّة مع إسرائيل ليست سوى ذريعة لتكثيف المستوطنات. ومن أجل ذرّ الملح على الجروح، أثبتت حماس أنّ إطلاق الصواريخ على تل أبيب يمكنه أن يدفع إسرائيل إلى التفاوض، بل وإلى تقديم التنازلات أيضًا. ما لم ينجح أبو مازن في تحقيقه خلال عشرين سنة، نجحت حماس في إنجازه في حرب “الأيّام الستّة” التي خاضتها مع إسرائيل. الإنجاز الذي تدّعيه حماس هو بالطبع ظاهريّ، لأنّ غزّة لم تتحرّر بالفعل من الحصار، وكلّ ما حقّقته حماس ليس على حساب إسرائيل، بل على حساب أبو مازن.
من منطلق لفتة كريمة من “المنتصر”، بارك خالد مشعل خطوة أبو مازن. في المرّات السابقة، هاجم مشعل توجّهات أبو مازن إلى هيئة الأمم المتّحدة واعتبرها خطوات استعراضيّة لا جدوى فيها. لكن هذه المرّة، وأبو مازن في الحضيض، يبارك مشعل خطوته هذه ويعتبرها “ليست ضارّة”- لِمَ لا، إذا حصلنا على اعتراف كدولة فإنّ ذلك خطوة في الطريق الصحيح. السؤال لِمَن؟ ليس واضحًا. كما يبدو لحماس. رغم خلاف حماس مع أبو مازن، إلاّ أنّها تحرص على عدم سقوط السلطة الفلسطينيّة، لأنّها تشكّل ستارًا رسميًّا لوجود حماس كحكومة في غزّة، وربّما في الضفّة الغربيّة في المستقبل. عارضت حماس في الماضي اتّفاقيّات أوسلو، ونتنياهو عارضها أيضًا. وفي الوقت الحاضر، اتّفاقيّات أوسلو تخدم الطرفين: بالنسبة لحماس، توفّر لها ستارًا دون الحاجة للاعتراف بإسرائيل، وبالنسبة للّيكود، تشكّل ذريعة لمواصلة توسيع المستوطنات.
وهكذا، بتشجيع من مشعل ومن مئة وخمسين دولة، يحاول أبو مازن مرّة أخرى الحصول على اعتراف دوليّ. من الجدير ذكره أنّه منذ أربعين عامًا حصلت منظّمة التحرير الفلسطينيّة على مكانة مراقبة في هيئة الأمم المتّحدة. في سنة 1974 رفع عرفات مسدّسه بإحدى يديه وغصن الزيتون بيده الأخرى. أدّى ذلك إلى عزل إسرائيل في المحافل الدوليّة، واتُّخذ قرار في الأمم المتّحدة قضى بأنّ الصهيونيّة هي حركة عنصريّة؛ ذلك القرار الذي قام مندوب إسرائيل في الأمم المتّحدة آنذاك، هرتسوچ بتمزيقه، ورغم كلّ الدماء التي أُريقت والمفاوضات الطويلة والاتّفاقيّات التي وُقِّعت، ما زالت منظّمة التحرير الفلسطينيّة مراقبة، لكن هذه المرّة من “موقع الدولة”. في ذلك الحين، احتفل الفلسطينيّون لحصولهم على اعتراف دوليّ بأنّ المنظّمة هي الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب الفلسطينيّ. وعادوا واحتفلوا عندما أعلنوا عن إقامة الدولة الفلسطينيّة في الجزائر سنة 1988، في أعقاب نشوب الانتفاضة الأولى. كتب محمود درويش النشيد الوطنيّ ولحنّه ميكيس ثيودوركيس. وبعد التوقيع على اتّفاقيّات أوسلو في الثالث عشر من أيلول 1993 خرجت مرّة أخرى الجماهير الفلسطينيّة إلى الشوارع احتفالاً بالإنجاز، وفعلوا ذلك أيضًا عندما دخل عرفات إلى غزّة. ومنذ ذلك الحين توقّفت أفراحهم.
أدرك الفلسطينيّون أنّ احتفالاتهم كانت قبل أوانها. عودة “الرمز” القوميّ لا تؤدّي بالضرورة إلى قيام دولة ذات سيادة. بل بالعكس، في الوقت الذي كان يرسّخ فيه عرفات حكمه في رام الله وفي غزّة، مضت إسرائيل في بناء المستوطنات. وهكذا عندما تجلّى الواقع المرير للجميع، ووصلت المفاوضات بين براك وعرفات في كامپ- ديڤيد إلى طريق مسدود، ظهرت حماس واستولت على كلّ شيء. في أكتوبر 2000 نشبت الانتفاضة الثانية، وكان الردّ السياسيّ عليها ما سُمّي بـ “مسار كلينتون” الذي يثبّت الكتل الاستيطانيّة كجزء من السيادة الإسرائيليّة في المستقبل، وكعدل ظاهريّ، وُعد الفلسطينيّون بتبادل الأراضي. اليوم، بعد 12 سنة منذ مسار كلينتون الذي قضى على إمكانيّة إقامة دولة قابلة للوجود، تحوّلت مستوطنة أريئيل إلى إجماع يقسّم الضفّة الغربيّة إلى قسمين.
بالفعل، أصبحت فلسطين اليوم دولة مراقبة، حدودها قريبة من حدود الرابع من حزيران 1967. إنّها دولة على الورق، كتلك الدولة اليهوديّة التي أُعلنت في التاسع والعشرين من نوڤمبر سنة 1947، والتي اعتبرها العرب، وبحقّ، سالبة لأراضيهم، واعتبرها اليهود أساسًا لتوسيع احتلالهم. منذ ذلك الحين، أخذ الصراع في التفاقم. فلسطين هي في الواقع دولة كنتونات، وهي عبارة عن بانتوستان يخضع كلّيًّا لإرادة المحتلّ. كما حدث في اتّفاقيّات أوسلو، يحاول مؤيّدو إعلان أبو مازن مرّة أخرى تجميل الواقع والادّعاء بتقدّم وهميّ نحو حلّ جذريّ للصراع. عمليًّا، الدول المئة والخمسون التي تقيم الدولة الفلسطينيّة لم تنجح في إزاحة ولو موقع استيطانيّ غير قانونيّ واحد. لم تنجح في دفع إسرائيل إلى الشروع في مفاوضات جدّيّة وبحسن نيّة. تلك الدول هي نفسها التي وقفت إلى جانب إسرائيل وادّعت أنّه من حقّها “الدفاع عن نفسها” ضدّ إطلاق الصواريخ من غزّة.
الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة جاء من أجل التغطية على فشل هذه الدول الذريع في إجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال ومنح الفلسطينيّين دولة ذات سيادة. إسرائيل، التي هدّدت في البداية بأنّها تنوي إسقاط السلطة الفلسطينيّة إذا توجّه أبو مازن إلى الأمم المتّحدة، تراجعت عن ذلك عندما أبلغها الأمريكان أنّ هذا التهديد قد يحدث فعلاً. ونراها اليوم “تقلّل” من قيمة هذه الخطوة. خلال كلّ سنوات قيامها، تعلّمت إسرائيل أنّ المهمّ هو الحقائق على الأرض وليس الإعلانات. في قيادته الحاليّة، لا يملك الشعب الفلسطينيّ أيّة إمكانيّة لتحقيق ما تدّعي الأمم المتّحدة منحه. بل وأكثر من ذلك، لن تفعل الأمم المتّحدة شيئًا من أجل تحقيق قرارها. كلّما كثرت الإعلانات والقرارات وطقوس السلام، ازداد الشعور بأنّ الصراع غير قابل للحلّ. كلّ ما يمكن السعي إليه هو “هدنة” حتّى الحرب التالية وحتّى الهدنة التي تعقبها. الليكود وحماس سينجحان في التدبّر مع ذلك.
وفي الوقت الذي لا تستطيع فيه الأمم المتّحدة تقديم العون، ومماثل التطرف والعنصرية فيچلين في حزب الليكود يسبّب القلق لنتنياهو وشبيبة المستوطنين يفرضون إرهابهم على السكّان الفلسطينيّين، لم يبقَ للشعب الفلسطينيّ سوى فعل ما فعله المصريّون والتونسيّون والسوريّون. القيادة الفلسطينيّة فشلت، وهي منقسمة على نفسها ولا تعير اهتمامًا لمعاناة الشعب وليس لديها حلّ يخلّص الشعب من الاحتلال. الربيع الفلسطينيّ آتٍ لا محالة، والاعتراف في الأمم المتّحدة يمكنه أن يكون حافزًا لنشوب انتفاضة جديدة، مدنيّة وسلمية.
الأفضليّة الوحيدة التي تكمن في الاعتراف بفلسطين كدولة، ليست إمكانيّة التوجّه إلى المحكمة الدوليّة في هاچ، وإنّما في حقيقة أنّ هذا الإعلان يعزّز شرعيّة الشعب الفلسطينيّ في نضاله ضدّ الاحتلال. اعترف العالم بفلسطين، والآن على الفلسطينيّين أن يمنحوا معنًى ودلالة لهذا الاعتراف. لن يفعل أحد ذلك عوضًا عنهم، الحرّيّة لا تُمنَح، بل تُؤخذ في النضال.
هذا الإعلان هو أيضًا إنذار للمجتمع الإسرائيليّ بأنّ الاحتلال لم يختفِ. لذا، كلّ هؤلاء الذين يحاولون الفصل بين النضال الاجتماعيّ والنضال السياسيّ، يخدمون اليمين، بل ويشاركون أيضًا في تعميق الصراع وفي تعاظم قوّة العناصر الفاشيّة التي في طريقها إلى الاستيلاء على الحكم. من يرغب في النضال من أجل تحسين صورة المجتمع الإسرائيليّ، يتوجّب عليه إدراك أنّ الاعتراف بفلسطين في الأمم المتّحدة هو خطوة تدعو إلى حساب النفس. في الوقت الذي حصت فيه فلسطين على مكانة دولة مراقبة في الأمم المتّحدة، يراقب العالم إسرائيل ويرى ما يرفض الكثيرون في إسرائيل رؤيته: لا وجود للدولة اليهوديّة بدون قيام دولة فلسطينيّة إلى جانبها. لذلك الخيارات آخذة في التقلّص: احتلال الأراضي الفلسطينيّة من جديد أو الانسحاب من الأراضي التي احتُلّت عام 1967. لا مكان للديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة في ظلّ الاحتلال.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.