قانون القومية يفجر الاجماع الصهيوني

يكشف التصريح الذي ادلى به نتانياهو في افتتاح جلسة الحكومة العادية  يوم الاحد 29-7-2018  الشرخ الكبير الذي سببه سن قانون القومية داخل المجتمع الاسرائيلي، إذ انقسم الإسرائيليون الى معسكرين الأول يشمل داعمي قانون القومية الجديد، والثاني يضم في صفوفه داعمي وثيقة الاستقلال.

وقد اتهم نتانياهو اليسار الاسرائيلي، او المعسكر الثاني، بالخيانة بقوله: ” الهجمات التي شنتها جهات يسارية تعرف نفسها بأنها صهيونية، هي هجمات سخيفة، تكشف عن القاع الذي انحدر إليه اليسار.” واضاف “يجب على اليسار أن يحاسب نفسه. يجب عليه أن يسأل نفسه كيف اصبح المصطلح الصهيوني، “دولة قومية للشعب اليهودي على أرضه” بنظرهم أساسا يجب الخجل به. نحن لا نخجل بالصهيونية. نفتخر بدولتنا وبكونها وطنا قوميا للشعب اليهودي يصون الحريات الفردية لجميع مواطنيها بحذافيرها بشكل لا أكبر منه.”

ان قانون القومية لم يكون وحيدا، بل جاء تتويجا لسلسلة من التشريعات السابقة، التي بمجملها تهدف الى تغيير ملامح المجتمع الاسرائيلي، من مجتمع ليبرالي منفتح، الى مجتمع محافظ ومغلق. وليس من باب الصدفة، بانه وفي اليوم الذي تم سن قانون القومية صادق الكنيست بالأغلبية على قانون يحظر على منظمة ” كسر الصمت” -التي تكشف شهادات لجنود شاركوا في نشاطات قمع ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة- من دخول المدارس الحكومية. كما تم بنفس اليوم سن قانون “الحمل البديل” الذي ميّز ضد “الازواج المثليين الذكور” الامر الذي ادى الى حملة احتجاج عارمة من قبل المنظمات التي تمثل المثليين، وحظت بدعم كثير من الشركات مثل “اينتيل” و”غوغل”.

وكان المطلب الاساسي للمظاهرة الكبرى التي نظمت من قبل المثليين في تل ابيب السبت 21/7 المساواة المدنية. وعبرت هذه  المظاهرة عن استياء كبير للجمهور الليبرالي في اسرائيل من سياسات العدائية من قبل الحكومة تجاه القوى الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، وسياستها العنصرية تجاه الفلسطينيين.

ان الاستياء الكبير في صفوف اليسار الإسرائيلي، جراء قانون القومية الجديد يعود الى الانقلاب على مبادئ وثيقة الاستقلال، التي اعتمدت في حينه بإجماع كافة القوى السياسية الإسرائيلية، وذلك على عكس ما حدث اليوم عند سن قانون القومية، الذي تم اقراره بأغلبية 62 عضو كنيست مقابل 55 صوت معارض. وقد وقع على وثيقة الاستقلال انذاك، كل مكونات المجتمع الإسرائيلي، التي وافقت على اقامة الدولة اليهودية، من ماير فلنر ممثل الحزب الشيوعي، وحتى ممثلي الاحزاب الدينية الأرثودوكسية.

هذا الاجماع الذي ميز المجتمع الاسرائيلي في عام 1948 لم يمنع الدولة اليهودية عن ممارسة سياسة التمييز المنهجية ضد الاقلية الفلسطينية التي بقيت في فلسطين بعد النكبة، وفرض الحكم العسكري على العرب من مواطني الدولة بين 1948 وحتى عام 1966. وكانت وثيقة الاستقلال الغطاء المثالي للنظام الذي سن قوانين عنصرية بحق العرب في شتى مجالات الحياة، وابرزها  قوانين التخطيط والبناء التي سمحت بمصادرة الاراضي الفلسطينية، قانون املاك الغائبين، والقانون الاكثر شهرة وعنصرية، القانون الخاص ب”حق العودة” لليهود فقط.

ما الضرورة اذن من سن قانون يميز بشكل علني وواضح ضد المواطنين العرب؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه معارضي القانون، من ممثلي الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، وعلماء القانون الاسرائيليين، واحزاب المعارضة في اسرائيل. والجواب له شقين: الشق الاول يتعلق بالحرب المفتوحة بين اليمين الاسرائيلي، والمحكمة العليا الإسرائيلية. والشق الثاني يتعلق بما تشهده الولايات المتحدة وروسيا واوروبا وحنى الهند من  انقلابات سياسية وتوجهات لتعزيز التوجه القومي الشوفيني .

ان المحكمة العليا الإسرائيلية بدأت منذ التسعينات بالتدخل في التشريعات وبإلغاء قوانين تم اقرارها بالأغلبية في الكنيست تتعارض مع قانون الاساس “كرامة الانسان وحريته”. كان ذلك الأساس القانوني لإلغاء قرار الحكومة بسجن اللاجيئين من السودان واريتريا لفترة غير محددة، كما كان هذا القانون المرجعية لقرار المحكمة العليا،  بهدم بيوت المستوطنين التي بنيت على ارض فلسطينية خاصة. والقرار الاهم كان في قضية قدمها الزوج “عادل وايمان قعدان” عندما تم رفض طلبهما للسكن في بلدة كاتسير اليهودية، حيث قررت المحكمة العليا في قرار شهير، بانه لا يجوز منع العرب من السكن في هذه البلدة او في أي مكان اخر الامر الذي دفع  الحكومة اليمينية اليوم لتكبح جماح المحكمة العليا من خلال تعيينات قضاة يمنيين، ومن خلال سن قانون القومية الذي يغلّب صفة اليهودية على الصفة الديمقراطية للدولة.

ومع ذلك ورغم كل المحاولات لإحداث الانقلاب الدستوري، لم يتمكن نتنياهو خلال فترة حكمه (منذ 2009) سن قانون من هذا النوع  بسبب الظروف الدولية. الا ان  فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، كان مثابة النقلة النوعية للمضي قدماً في تعزيز الروح القومية الشوفينية، إذ كان ترامب ومنذ البداية الحصان الرابح التي راهن عليه نتانياهو. وقد اصبح نتانياهو ربيب ترامب وصديق حميم لبوتين، ولزمرة من الساسة الأوروبيين في كل من بولندا، والنمسا، والمجر واخيرا ايطاليا، حيث يحمل قادتها نهج سياسي لتعزيز الروح القومية والعنصرية، ويعيدون كتابة تاريخ بلادهم من جديد، وتحديدا  طي صفحة التعاون مع النازيين ابان الحرب العالمية الثانية وبراءتهم منه.

ان ما يميز هذه التوجه وهذا النوع من القياديين هو الكراهية لكل من هو مختلف باللون او القومية او الدين، وعدائهم للديمقراطية، ولحكم القانون والمحاكم، واختراعهم لمصطلح الاخبار المزورة “fake news” الذي حول الصحافة الى عدو الشعب. ان البيئة السياسية الجديدة هي التي تسمح لليمين الاسرائيلي وتشجعه بتبني سياسه قومية مفرطة وعنصرية تجاه الاجانب والعرب دون ان يأخذ بالحسبان المعارضة الشديدة من قبل الفلسطينيين او الاحزاب اليسارية الصهيونية الليبرالية.

ان هم ترامب كما نتنياهو ضمان الحكم وحشر المعارضة الليبرالية في الزاوية. فترامب يعزف على وتر الخوف من الهجرة ويتهم الحزب الدمقراطي بكونه “متراخيا” في موضوع الحدود الفاصلة بين امريكا والمكسيك، فهذا الموقف جند ما يسمى “الاساس” الانتخابي المكون من المواطنين البيض الذين تأثروا كثيرا من الازمة الاقتصادية في سنة 2008 والتي بسببها فقدوا اماكن عملهم، بيوتهم ومدخراتهم. اما نتانياهو قد استغل الخوف من العرب الى اقصى درجة عندما كان على حافة فقدان السلطة في الانتخابات الاخيرة، حين وجه نداؤه  لجمهوره بالخروج للتصويت بحجة ان العرب يتوجهون بالباصات الى مراكز الاقتراع. وقد وجد اليمين في الصراع والتحريض ضد العرب افضل وسيلة لتجنيد الرأي العام لصالحه، ووصف كل من يعارضه بانه محب للعرب وخائن.

ومن هنا فالقانون الجديد لن يغير كثيرا في حياة المواطن الفلسطيني داخل اسرائيل، بل ولن يتمكن من تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي داخل اسرائيل. ان المجتمع الفلسطيني داخل اسرائيل تكاثر عدده، ونسبة المثقفين واصحاب المهن الحرة ارتفعت مع دخول اعداد كبيرة الى معاهد التعليم العليا، والمستشفيات الاسرائيلية، والعديد من اقسامها يُديرها اطباء فلسطينيين وجزء من المدن التي اقيمت من اجل “تهويد” الارض مثل الناصرة العليا وكرمئيل يسكنها عرب فلسطينيين. 40% من طلاب جامعة حيفا هم من العرب، واكثر من 20% يدرسون في معهد التخنيون للعلوم التطبيقية. ان قانون القومية لا يمكن ان يوقف هذا التطور الكبير والارتفاع المستمر في مستوى معيشة المواطن الفلسطيني داخل اسرائيل، مما يوسع امكانياته لممارسة حقه في المواطنة.

اما بكل ما يتعلق المجتمع الاسرائيلي،  فقانون القومية الجديد هو قبل كل شيء ضربة قوية لهؤلاء الاسرائيليين الذين يسعون للحياة في مجتمع مفتوح الى العالم، خال من القومية الفارغة، خال من التدين المستمر وتهميش المرأة، مجتمع يحترم الخبر الصحيح والصحافة الحرة، مجتمع خال من الفساد الذي يحيط بنتانياهو ومقاربيه، مجتمع ينبذ العنصرية تجاه العرب وتجاه الاجانب، مجتمع سئم من الاحتلال والحرب المستمرة ضد الفلسطينيين، مجتمع يطالب بفك الحصار عن غزة والوصول الى حل عادل مع الفلسطينيين. ان مصير نتانياهو مرتبط بمصير ترامب، بوتين، اردوغان وامثالهم في اوروبا. فمن يفكر ان اليمين الاسرائيلي برئاسة نتانياهو كرس سيطرته على السلطة الى الابد يجب ان يمتلك افاق واسعة ويتطلع الى العالم  ليدرك ان مصير نتانياهو وقوانينه العنصرية مرتبطة بالعديد من القوانين والسياسات الى تحكم العالم اليوم والمعارضة لها تتزايد وتتعاظم  باستمرار. اننا في عالم واحد،  تجمعنا كرة ارضية واحدة، ومصيرنا مرتبط بمصير الانسانية ككل.

 

 

 

عن يعقوب بن افرات