ما الذي تبقّى في الجانب الفلسطينيّ من جدار الفصل؟

في شهر آذار المقبل، بعد أن يشكّل نتنياهو حكومته الجديدة، ينوي الرئيس أوباما الحضور إلى المنطقة في أوّل زيارة تاريخيّة له لإسرائيل والسلطة الفلسطينيّة. يرغب أوباما في التحدّث إلى الشعب الإسرائيليّ، لكنّ زيارته هذه لا تحمل أيّة بشرى. المسألة الأولى الموجودة على أجندة الرئيس الأمريكيّ الحافلة ستكون إيران، تليها سورية. المسألة الفلسطينيّة تحتلّ المكان الأخير في أجندته، وفي هذه القضيّة ليس لديه أيّة مبادرة جديدة.

لا عجب أنّ الرئيس الأمريكيّ يبتعد عن المسألة الفلسطينيّة، فقد سبق له أن ذاق الأمرّين عندما عيّن ميتشيل مبعوثًا خاصًّا من جانبه، ولم يفلح الأخير في تحقيق أيّ تقدّم يُذكر. نتنياهو من جانبه لبّى طلب أوباما وجمّد البناء في المستوطنات لمدّة عشرة أشهر، لكنّه بعد انقضاء هذه المدّة جدّد البناء بهمّة ونشاط. منذئذ مرّت فترة ولاية كاملة في إسرائيل وفي الولايات المتّحدة أيضًا، ولم نشهد حتّى مفاوضات سلميّة ظاهريّة، ونحن بصدد أربع سنوات أخرى من الجمود السياسيّ. التزم نتنياهو بمبدأ الدولتين، لكنّ أعماله مناقضة تمامًا لهذا الالتزام- فالمستوطنات آخذة في التوسّع، والدولة الفلسطينيّة آخذة في التقلّص.

إفلاس اقتصاديّ

في الجانب الفلسطينيّ من جدار الفصل، يتراكض كبار مسؤولي السلطة الفلسطينيّة وكأنّهم في مصيدة، يبحثون عن طريق للتخلّص منها. سواءً في الأراضي التي تحت حكم السلطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة أو في غزّة تحت حكم حماس، نشهد كارثة بكلّ معنى الكلمة. لكنّ هذه المسألة لا تحتلّ مكانًا في الخطاب العامّ الإسرائيليّ. نسمع عمّا يحدث في الضفّة الغربيّة بين الفينة والأخرى، في نبأ في الصفحات الأخيرة في الصحف، عندما يُقتل شابّ فلسطينيّ أو شابّة فلسطينيّة من نيران الجيش الإسرائيليّ في ظروف غامضة، ويُشرَع بالتحقيق في القضيّة. “المساواة في تحمّل الأعباء” (تجنيد المتدينين للجيش) تحوّلت إلى القضيّة الأهمّ في الخطاب الإسرائيليّ على أثر نتائج الانتخابات، بينما “الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ” لا يهمّ أحدًا. الطبقة الوسطى الإسرائيليّة تعبت من تمويل اليهود الحريديم والعرب، وما أجمل التعاون بين نفتالي بنيت ويئير لپيد للتخفيف من مصاعبنا المعيشيّة.

لن يمرّ زمن طويل حتّى ينتقل الغليان في الضفّة الغربيّة إلى الجانب الآخر من جدار الفصل، إلى لبّ الخطاب العامّ الإسرائيليّ. الوضع الاقتصاديّ سيّء للغاية، والسلطة الفلسطينيّة لا تدفع الرواتب لأنّها لا تملك الأموال لذلك، وبما أنّها تشغّل %16 من القوّة العاملة، فإنّ الاقتصاد المحلّيّ مشلول. الراتب الشهريّ الذي يتقاضاه المعلّم الفلسطينيّ هو 3,000 شيقل، والأجر اليوميّ للعامل لا يتعدّى 87 شيقل. (للمقارنة: الأجر الأدنى اليوميّ في إسرائيل هو 182 شيقل). أضف إلى ذلك نسبة البطالة التي تبلغ %20، والتي تصل إلى %34 في صفوف أبناء الشبيبة في سنّ 15-25، والنتيجة هي ثوران بركان اجتماعيّ نشط لا يكفّ عن إطلاق الحمم الغاضبة والملتهبة. في إسرائيل، على ما يبدو، يأملون ألاّ تعبر هذه الحمم الغاضبة جدار الفصل.

ما الذي يؤدّي إلى الأزمة الاقتصاديّة في الضفّة الغربيّة؟ السوق الأوروبيّة والدول العربيّة تحوّل مليارات الدولارات إلى السلطة الفلسطينيّة، آملة بأن يجد الصراع حلاًّ له، وتحصل الدولة الفلسطينيّة على استقلال اقتصاديّ. هذه الاتّفاقيّة الاقتصاديّة سارية المفعول منذ 22 سنة، وبدلاً من أن تخدم الشعب الفلسطينيّ، نلاحظ أنّها تخدم الاحتلال الإسرائيليّ، الذي لا يضيع الوقت ويوسّع المستوطنات. ردًّا على ذلك، يعيق الأوروبيّون تحويل المنح ويعدّون قائمة سوداء للمنتجات التي تُنتَج في المستوطنات. الهدف من ذلك هو محاولة إجبار الحكومة الإسرائيليّة على وقف الاستثمار في المستوطنات واتّخاذ خطوات فعليّة لحلّ الصراع.

إسرائيل من جانبها “تعاقب” السلطة الفلسطينيّة وتؤجّل تحويل أموال الضرائب التي تجبيها في المعابر الجمركيّة على البضائع التي يستوردها تجّار السلطة الفلسطينيّة. بهذه الطريقة تؤدّي إلى زيادة إفلاس السلطة. أحد الأمور المنافية للعقل التي تسبّبها طريقة العقاب هذه، ينعكس في تزويد الكهرباء للسلطة، الذي هو من مسؤوليّة شركة الكهرباء الإسرائيليّة. بسبب عدم توفّر العمل والرواتب، لا يستطيع سكّان الأراضي الفلسطينيّة دفع فواتير الكهرباء للسلطة، ممّا يؤدّي إلى تزايد ديونها لشركة الكهرباء الإسرائيليّة. حكومة إسرائيل تحوّل إلى شركة الكهرباء ديون السلطة الفلسطينيّة من أموال الضرائب التي من المفروض أن تحوّلها إلى السلطة، وبذلك يبقى الاقتصاد الفلسطينيّ عالقًا لا يملك القدرة على الخروج من دوّامة الاحتلال.

 أبو مازن وحماس والإفلاس السياسيّ

في هذا الواقع المرير، لا يدري أبو مازن أيّة أبواب يطرق. أوّلاً، قام بالتوجّه إلى مجلس الأمن في هيئة الأمم المتّحدة وطالب بأن يعترف بفلسطين كدولة مراقب. وقد حقّق ما أراد، إلاّ أنّه اتّضح أنّ وضعه قد تأزّم أكثر. عقابًا على توجّهه إلى الأمم المتّحدة، قرّر الكونغرس الأمريكيّ إعاقة تحويل المنح الماليّة إلى السلطة الفلسطينيّة. واتّضح مرّة أخرى أنّ السلطة الفلسطينيّة متعلّقة تمامًا بإسرائيل. تعلّم أبو مازن من تجاربه أنّه لا يكفي الإعلان عن قيام الدولة، وإنّما يتوجّب عليه تحقيقها، وبدون مساحة إقليميّة وعملة نقديّة واقتصاد- ليس هناك أيّة إمكانيّة لحكم ثابت ونافذ. اتّضح أنّ خطوة أبو مازن هذه ليست سوى مناورة سياسيّة هدفت إلى القول للفلسطينيّين بأنّ السلطة الفلسطينيّة لا تقف مكتوفة الأيدي.

من جهة ثانية، توجّه أبو مازن إلى حماس. هدف هذا التوجّه هو خلق جبهة وهميّة موحّدة ضدّ إسرائيل، ودحض ادّعاء إسرائيل بأنّه بسبب الانقسام الداخليّ بين السلطة وحماس ليس هناك شريك للسلام. في الثامن من شباط التقى أبو مازن وخالد مشعل في القاهرة، وحضر اللقاء قادة جميع الفصائل الفلسطينيّة من أجل صياغة وثيقة تفاهمات تضع حدًّا للانقسام. بعد جولة المفاوضات تفرّق الجميع دون اتّفاق، ونشكّ بأنّهم سيتوصّلون إلى اتّفاق في المستقبل.

حماس تحكم غزّة بيد من حديد، ولا ترغب في إجراء انتخابات جديدة. تتخوّف حماس، وعلى ما يبدو بحقّ، من ألاّ يعترف العالم وفتح بها إذا فازت في الانتخابات. بخلاف ذلك، إذا فازت حركة فتح فستفقد حماس سيطرتها على غزّة. لذلك إجراء الانتخابات في الوقت الحاضر غير وارد بالحسبان، وبدون انتخابات ليست هناك إمكانيّة للتغلّب على الانقسام الداخليّ الفلسطينيّ.

الانقسام هو نتيجة لغياب استراتيجيّة بالنسبة لطريقة إقامة الدولة الفلسطينيّة. من جهة، بعد 22 سنة من المفاوضات التي لا جدوى منها، من الواضح أنّ طريق المفاوضات قد أثبتت فشلها. ومن جهة ثانية، المقاومة المسلّحة التي تنتهجها حماس أثبتت هي أيضًا فشلها، بعد أن توصّلت حكومة حماس بعد حملة “الرصاص المسكوب” إلى اتّفاق مع إسرائيل. تضمّن الاتّفاق ثلاث نقاط التزمت إسرائيل بموجبها، بوقف الاغتيالات الشخصيّة وتخفيف الحصار والامتناع عن اقتحام الجدار الذي يفصل بين إسرائيل وغزّة.

هذا الاتّفاق منح حماس متنفّسًا، لكنّه لم يحلّ المشكلة الحقيقيّة- استمرار الاحتلال. الرئيس المصريّ، محمّد مرسي، التزم أمام أوباما بالحرص على استمرار الهدوء في غزّة، وذلك مقابل تقديم مساعدات ماليّة لمصر. لكن لتطبيق الهدوء، يحتاج مرسي إلى تحقيق مصالحة بين فتح وحماس، وطالما لم يتمّ ذلك سيستمرّ الجرج في غزّة بالنزيف.

لتحقيق الاستقرار الاقتصاديّ، يتوجّب على غزّة التحرّر من تعلّقها بإسرائيل وفتح معبر رفح مع مصر. لكنّ السيطرة على معبر رفح هي محطّ جدل. التزمت مصر أمام المجتمع الدوليّ بأن يكون العبور إلى أراضيها تحت سيطرة السلطة الفلسطينيّة بإشراف إسرائيليّ. حماس بالطبع ترفض أن تكون لأبو مازن أيّة وطأة قدم في غزّة. لهذا السبب، بدون تواجد أبو مازن، لا تستطيع مصر فتح معبر رفح، ممّا يؤدّي إلى استمرار تعلّق غزّة التامّ بإسرائيل.

في خطوة يائسة، قرّرت مصر غمر الأنفاق التي تربط بين سيناء وغزّة بالماء، وذلك للإشارة لقادة حماس أنّ عليهم إبداء مرونة مع فتح. أبو مازن من جانبه، بدأ باعتقال أفراد من حماس في الضفّة الغربيّة، الأمر الذي أدّى بموسى أبو مرزوق، نائب زعيم حماس، إلى الإعلان بأنّ هذه الاعتقالات تمسّ بالمصالحة الفلسطينيّة وتثبت أنّه لا يمكن إجراء الانتخابات (الحياة، 14.2).

ما الذي ينتظر أوباما في زيارته؟

عندما سيصل أوباما إلى أراضي السلطة الفلسطينيّة، سيدرك بالتأكيد أنّ سياسته المتسامحة تجاه اليمين الإسرائيليّ تعجّل من نهاية السلطة الفلسطينيّة. ربّما يدرك أوباما أنّ سياسته المتسامحة تجاه نظام مبارك في مصر وبن عليّ في تونس، أدّت في نهاية الأمر إلى “الربيع العربيّ”. يمكن أن يتكرّر هذا السيناريو في أراضي السلطة الفلسطينيّة أيضًا- عندما سيخرج أبناء الشبيبة، خرّيجو الجامعات الذين لا يجدون عملاً، إلى الشارع للاحتجاج، موجّهين غضبهم، أوّلاً، إلى المسؤول المباشر عن وضعهم- السلطة الفلسطينيّة. في نهاية الأمر، السلطة الفلسطينيّة هي التي تعيق دفع الرواتب، وهي التي لا توفّر أماكن عمل، وهي التي باستطاعتها إجبار إسرائيل على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

من المرجّح افتراضه أنّ أوباما يدرك أيضًا ما يدركه العالم بأسره، بأنّ الإجماع الإسرائيليّ الجديد، الذي يحوى داخله الأحزاب الصهيونيّة، يتّفق مع النهج الذي صاغه أڤيچدور ليبرمان، بأنّ الصراع غير قابل للحلّ. ما تبقّى إذًا، هو إدارة الصراع من خلال المفاوضات التي هدفها المعلَن إقامة دولة فلسطينيّة في حدود مؤقّتة. بما أنّ الفلسطينيّين قد مرّوا بتجربة اتّفاقيّات أوسلو، ورأوا كيف يتحوّل المؤقّت إلى دائم، فلا احتمال بأن يوافقوا على ذلك.

أوباما على وشك تفويت فرصة أخرى لحلّ الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ. ومن يعجب لذلك، عليه أن يتذكّر أنّ أوباما نفسه فوّت في الماضي فرصة تاريخيّة لحلّ الأزمة الاجتماعيّة في الولايات المتّحدة، بعد أن استسلم مرّة تلو الأخرى لليمين الأمريكيّ المتطرّف.

عن