مصر أضاعت طريقها

تظاهرت يوم الأحد السابع من يوليو جماهير غفيرة من المصريّين في ميدان التحرير، ليبيّنوا للعالم أنّ ما حدث ليس انقلابًا عسكريًّا، بل تصحيحًا يعيد ثورة 25 يناير إلى مسارهاالديمقراطيّ. لتعزيز المتظاهرين، حلّقت طائرات سلاح الجوّ المصريّ في سماء القاهرة وهي تطلق دخانًا بألوان العلم المصريّ. غضب الثوّار المصريّون من أوباما الذي لم يبارك عزل الرئيس المنتخَب محمّد مرسي، وحتّى أنّهم توسّلوا لقناة CNN أن تغيّر أقوالها وتتوقّف عن وصف الأحداث في مصر بأنّها انقلاب عسكريّ.

في اليوم التالي، في الثامن من يوليو، تغيّرت الأجواء كلّيًّا. الضحايا الـ 51 الذين قتلتهم نيران الجيش المصريّ أثناء مظاهرتهم أمام قاعدة الحرس الجمهوريّ الذي يتحفّظ على بمرسي، أفسدوا بهجة الاحتفالات بالثورة، ووضعوا الشعب المصريّ والعالم أمام واقع مرير. تصريحات الشرطة والجيش في المؤتمر الصحفيّ لم تكن كافية. لم يقتنع العالم بأنّ الجيش المصريّ أصبح بين ليلة وضحاها جيش الشعب. مباشرة بعد المذبحة أعلن حزب “النور” السلفيّ وحزب “مصر القويّة” الذي انشقّ عن الإخوان المسلمين، أنّهما ينسحبان من الائتلاف الذي يؤيّد الجيش، وهذا ما فعله أيضًا “الأزهر” الذي أيّد الانقلاب العسكريّ. الليبراليّون المصريّون الذين باركوا الانقلاب العسكريّ أيّدوا جميعًا أقوال الجيش، ولم يعبّروا حتّى عن أسفهم واستنكارهم للضحايا الذين قضوا. وفي حين طالبوا بفتور بإقامة لجنة تحقيق، سارع الجيش إلى الحسم وتحديد مرتكب الجريمة وقام باعتقال 650 من أفراد التيّار الإسلاميّ بتهمة قيامهم بأعمال إرهابيّة.

الجيش هو مصدر الصلاحيّة

بعد مرور يوم على المذبحة، يوم الثلاثاء التاسع من يوليو، أصدر الرئيس المؤقّت عدلي منصور إعلانًا دستوريًّا جديدًا، يوضّح في بدايته أنّه يستند إلى الأمر الذي أصدره الجيش المصريّ في انقلاب الثالث من يوليو. وبذلك أوضح منصور أنّ الجيش هو مصدر الصلاحيّة، وبدّد الشكوك بالنسبة لهويّة الحاكم الحقيقيّ في مصر. أحدثالإعلان الرئاسيّ ارتباكًا عامًّا في صفوف الشركاء السياسيّين في الانقلاب، وعلى رأسهم حركة “تمرّد” وَ “جبهة الإنقاذ”، الذين عبّروا عن تحفّظهم وانتقادهم لهذا الإعلان، الذي أعدّه الجيش سرًّا دون التشاور معهم، والذي يمنح الرئيس المؤقّت صلاحيّات استبداديّة.

إلاّ أنّ العبد نفّذ مهمّته لذا يمكن تسريحه. أعلنت الإدارة الأمريكيّة أنّها تتخبّط في تعريف ما حدث في مصر كانقلاب عسكريّ، الأمر الذي كان سيمنعها من تقديم المساعدة الأمريكيّة للجيش المصريّ. مطالبة إسرائيل بعدم وقف المساعدة للجيش المصريّ توضّح تمامًا بأنّه بالنسبة للأمريكيّين والإسرائيليّين، الديمقراطيّة المصريّة لم تكن يومًا شأنًا هامًّا، والمهمّ هو المحافظة على اتّفاقيّات السلام مع إسرائيل، التي يلتزم بها الإخوان المسلمون والحكم العسكريّ على حدّ سواء. السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة قرّرتا ملء الفراغ الذي خلّفته قطر، التي موّلت الإخوان المسلمين. وستمنح هاتان الدولتان 8 مليار دولار لتضمنا القضاء على الربيع العربيّ، الذي يهدّد الأسرة المالكة في السعوديّة.

لتسهيل الأمور على أوباما، أعلن الرئيس المؤقّت عن إجراء انتخابات جديدة بعد ستّة أشهر. لكنّ كلّ من يعقل يعلم أنّه لا يمكن الإيفاء بذلك. كيف يمكن إجراء انتخابات حرّة بمشاركة الإخوان المسلمين، كما يطالب أوباما، في الوقت الذي يقوم الجيش بإغلاق مكاتبهم وقنواتهم التلفزيونيّة، ويشنّ حملة لنزع شرعيّتهم بعد اتّهامهم بممارسة الإرهاب؟ تكشفهذه التهمة نيّة الجيش وشركائه من جبهة الإنقاذ وحركة تمرّد لمنع الإخوان المسلمين من المشاركة في الانتخابات، كما فعل ذلك من قبلهم نظام مبارك. الشعار الذي ردّده كلّ من نادى بإسقاط مرسي كان- “لا عودة إلى الوراء”. لكن كيف لا يعودون إلى الوراء إذا كانوا ينوون إجراء انتخابات ديمقراطيّة بعد ستّة أشهر ويفوز فيها الإخوان المسلمون مرّة أخرى، كما فازوا في جميع الانتخابات التي جرت منذ 25 يناير 2011؟

عودة إلى عهد مبارك
لو تأمّلنا جيّدًا تصرّفات “الثوريّين” يتبيّن لنا أنّ الديمقراطيّة هي غريبة تمامًا عنهم. إنّ تعيين حازم الببلاوي رئيسًا للحكومة يكشف نوايا الحكومة الجديدة. الببلاوي هو رجل اقتصاد نيوليبراليّ، وظيفته إقناع صندوق النقد الدوليّ تقديم المعونة للنظام الجديد والقضاء على نظام الدعم ّللسلعة الاساسية المتّبع في مصر، الأمر الذي يعني زيادة نسبة المجاعة والفقر في صفوف الشعب المصريّ. لا تحمل الحكومة الجديدة أيّة بشرى للحركة العمّاليّة المصريّة، التي تطالب بسلسلة من التغييرات، وفي مقدّمتها رفع الحد الادنى من الأجر. إنّ موقف مرشّح حركة تمرّد، محمّد البرادعي، يثبت مدى التغيير الذي طرأ على موقفهم. البرادعي الذي طالب بإخراج الجيش من اللعبة السياسيّة وتحدّث عن حقوق الإنسان، يترك زمام الأمور اليوم في يد الجيش الذي يهيمن على %25 من الاقتصاد المصريّ، والمسؤول عن المذبحة التي راح ضحيّتها 51 مواطنًا مصريًّا، وعن المسّ الشديد بحرّيّة التنظّم والتعبير.

عادت مصر عمليًّا إلى المعادلة القديمة التي حكمت قبل الثورة. عاد الشعب المصريّ رهينة بيد النظام القديم لمبارك، الذي يمثّله الجيش والليبراليّون وبين الإخوان المسلمين. القنوات التلفزيونيّة المصريّة تأقلمت سريعًا جدًّا للوضع الجديد، جميعها تتحدّث بصوت واحد، وروح مبارك ترفرف مرّة أخرى فوق بناية “ماسبيرو” التي تبثّ منها المحطّات الرسميّة، كما كان في الستّين عامًا الماضية. إنّ توجّه الأحزاب اليساريّة وحزب الوفد من عهد مبارك- الجيش أفضل من الإخوان المسلمين- يفرض نفسه من جديد. أمّاالشعب المصريّ فهو بين المطرقة والسندان، يعاني من الفقر تحت نظام دكتاتوريّ وفاسد ينتهك حقوق المواطن؛ هذا النظام الذي ثار ضدّه قبل سنتين ونصف.

الإخوان المسلمون ليسوا هم مشكلة مصر، وإنّما عَرَض من أعراض للمشكلة. وصولهم إلى السلطة في مصر هو نتيجة حتميّة لستّين عامًا من الدكتاتوريّة والزيادة السكّانيّة المتسارعة والفقر والأمّيّة وانهيار البنى التحتيّة الحيويّة والغربة عن العالم الحديث العصريّ. هذه هي الأرض الخصبة التي نبتت عليها الحركة الإسلاميّة المتمثّلة بالإخوان المسلمين.

ضعف اليسار

أوجدت الثورة المصريّة فرصة نادرة للمضيّ بمصر إلى المستقبل عن طريق ترسيخ نظام ديمقراطيّ يمكّن المواطنين من الممارسة السياسيّة وتنمية وعي سياسيّ. لا يستطيع الإخوان المسلمون جعل مصر دولة حديثة، لأنّ تصوّرهم الدينيّ يناقض تمامًا حرّيّة الإبداع الثقافيّ والعلميّ، وقمع المرأة يمنع الخروج من بوتقة الجهل والتخلّف الاجتماعيّ. إلاّ أنّ هذه الأسباب لا تبرّر تأييد الجنرالات وإسقاط الإخوان المسلمين في انقلاب عسكريّ. الطريقة الوحيدة لمواجهتهم هي الانتخابات الديمقراطيّة.

لم تتّخذ مصر طريق الانقلاب العسكريّ لأنّ مرسي عمل على “أخوانة” النظام، وإنّما بسبب الوهن الكبير الذي يعاني منه اليساريّون والليبراليّون في مصر. لم يؤمن هؤلاء بقدرتهم على الانتصار على الإخوان المسلمين في انتخابات حرّة، ويخافون من الفقراء ويحتقرونهم “لأنّه يمكن شراؤهم بكيس سكّر وقنّينة زيت”، ولذلك فضّلوا العودة إلى النظام القديم وإعادة مصر ستّين عامًا إلى الوراء. بالإضافة إلى ذلك، لا يختلف تصوّرهم الاقتصاديّ عن تصوّر الإسلاميّين، كلاهما يرغبان في الحصول على الدعم الأمريكيّ وصندوق النقد الدوليّ.

لا تحدث الثورة بلمح البصر، إنّها عمليّة طويلة جدًّا من المواجهة بين تصوّرات ووجهات نظر مختلفة، حول برامج وخطط تسير بمصر نحو المستقبل. مثل هذهالبرامج لم تكن لدى شباب “تمرّد” ولا لدى اليسار، وبالطبع ليس لدى الإخوان المسلمين. والجيش لا يملك ردًّا على المشاكل الكبرى في مصر.

من الصعب التنبّؤ بما سيحدث، لكن لا يمكن محو ثورة 25 يناير والتغيير الذي أحدثته في وعي المواطن المصريّ. المظاهرات الهائلة المؤيّدة للانقلاب العسكريّ في ميدان التحرير، والمظاهرات المضادّة المؤيّدة للإخوان المسلمين ستعلّم كلا الطرفين أنّه لا يمكن محو نصف الشعب، وأنّ الخصام بينهما لا يخدم سوى أتباع مبارك والجيش. الخيارات واضحة: إمّا أن يتعاون الطرفان من أجل إرساء نظام ديمقراطيّ لإنقاذ مصر وإمّا أن تستمرّ مصر في الغوص في وحل الدكتاتوريّة لسنوات طويلة. إذا لم تستدرك القوى السياسيّة المختلفة مواقفها، لن تحظَ بتأييد الشعب المصريّ. الشعب المصريّ هو الذي أحدث ثورة 25 يناير، والأحزاب أفسدتها. يتوجّب على الشباب الذين قاموا بالثورة أن يضعوا أمام المصريّين “خارطة طريق” ثوريّة من صنعهم، يمكنها إنقاذ الديمقراطيّة ومستقبلهم ومستقبل مصر.

 

عن حزب دعم

يرى حزب دعم أن برنامج "نيو ديل إسرائيلي – فلسطيني أخضر" هو الحل الأنسب لمعالجة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها إسرائيل، وهو مرتكز أساسي لبناء شراكة إسرائيلية فلسطينية حقيقية لإنهاء نظام الفصل العنصري "الأبرتهايد" الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في المناطق المحتلة. هذا الحل مبني على أساس "العدالة المدنية"، ما يعني منح الفلسطينيين كامل الحقوق المدنية ووقف كل أنواع التمييز والتفرقة بين اليهودي والعربي ضمن دولة واحدة من النهر إلى البحر. إن تغيير الأولويات الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الاحتباس الحراري لإنقاذ البشرية من الانقراض ليس مهمة "صهيونية" فحسب أو "فلسطينية"، بل هي مهمة كونية وأممية في جوهرها. ومثلما لا يمكن تطبيق الأجندة الخضراء في أمريكا من دون معالجة العنصرية ضد السود، كذلك لا يمكن تحقيق برنامج أخضر في إسرائيل بمعزل عن إنهاء نظام الأبرتهايد والقضاء على التمييز العنصري تجاه المواطنين العرب في إسرائيل.