ناتالي بورتمان والإجماع الصهيوني

 

كانت مراسيم الإحتفال بيوبيل السبعين لدولة إسرائيل على أوجها. ووزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريجيف، عمدت على أن تكون الإحتفالات الأكبر في تاريخ اسرائيل. حسب التقاليد المتبعة يمثل الدولة، في هذا الاحتفال رئيس الكنيست، الا ان الوزيرة” كانت على إستعداد لخرق هذا التقليد، في سبيل إبراز شخصية رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، المُلاحق من قبل الشرطة، بتحقيقات جنائية بشبهات الفساد.

وحاز هذا الامر على نقاش واسع، مثله مثل العديد من القرارات الحكومية، التي لا تنال إجماع وطني داخل المجتمع الإسرائيلي، فالإنقسامات بين اليمين واليسار، تحتل صفحات الصحف ومواقع الإعلام والتواصل الإجتماعي. إتهامات متبادلة بين اليمين الذي يتهم اليسار بالخيانة، واليسار الذي يتهم اليمين بالفاشية.

وكان الموقف الذي أعلنته النجمة الأمريكية الإسرائيلية، ناتالي بورتمان، برفضها قبول جائزة جينسيس (جائزة نوبل اليهودية) بقيمة 2 مليون دولار، انعكاسًا لهذه الإنقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، والذي إتسعت لتشمل المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة الإمريكية أيضا.

وقد بررت النجمة الأمريكية الإسرائيلية رفضها للجائزة الثمينة، بأنه يأتي على خلفية مقتل 35 فلسطينيًا بأيدي قناصة إسرائيليين على الشريط الحدودي مع غزة، إلا أنها في توضيح لاحق كتبت: “أخترت عدم الحضور، لأنني لا أريد أن أبدو مؤيدة لبنيامين نتنياهو، الذي كان سيلقي كلمة خلال الحفل”.

إن إقحام إسم نتانياهو في البيان، يدل على أن الموضوع ليس الحصار المفروض على غزة فقط، بل الإستياء من سياسة نتانياهو وحكومته بشكل عام. وقد عًمق الإستقطاب بين اليمين الإسرائيلي وبين معارضيه العلاقة الحميمة القائمة بين نتانياهو والرئيس الامريكي دونالد ترامب والتي بدت واضحة حين أقحم نتنياهو نفسه في الصراع السياسي داخل أمريكا. إن وقوف نتانياهو مع ترامب ضد الحزب الديمقراطي أثار حفيظة قطاع واسع من الجمهور اليهودي في أمريكا، الذي يكره ترامب بما يمثله من فساد، وكراهيته للأجانب، وموقفه ضد النساء، وضد القيم الليبرالية والديمقراطية في آن.

وبنفس الوقت لا يقتصر إستياء الجناح الليبرالي في المجتمع اليهودي في أمريكا من نتنياهو وسياسات اسرائيل تجاه الفلسطينيين، بل شمل أيضا أهم مؤيدي نتانياهو في أمريكا، وعلى رأسهم الملياردير اليهودي، رون لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، وعضو الحزب الجمهوري. حيث جاء في مقال له نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز” 18 اذار/ مارس أن هناك خطر وجودي على إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية بسبب زوال حل الدولتين واضاف: “أنا جمهوري محافظ، وأنا أؤيد الليكود، منذ الثمانينات، لكن هناك حقيقة ثابتة، هي وجود 13 مليون شخص بين نهر الأردن، والبحر الأبيض المتوسط، ونصفهم تقريبا من الفلسطينيين”.

إلا أن الموضوع لم يقتصر على النقاش الأبدي حول مستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل يشمل قضايا لا تقل أهمية بالنسبة لأشخاص مثل رون لاودر وهي قضايا تخص التعصب الديني. في هذا الموضوع لاحظ لاودر في نفس المقال: “عدد متزايد من الشبان اليهود، خاصة في الولايات المتحدة، يبتعدون عن إسرائيل، لأنهم يشعرون إن هذه الدولة لا تمثل عالم قيمهم، فالنتيجة هي الإستيعاب والتغريب … ويشعر العديد من اليهود غير الأرثوذكس، بمن فيهم أنا، بأن الإكراه الديني المدعوم من الحكومة، يحول إسرائيل من دولة حديثة وليبرالية، إلى دولة شبه دينية”.

إن هذا الشعور بالتغريب يشمل أيضا قطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي فالسياسة العنصرية لا تقتصر على الفلسطينيين فقط، بل تشمل ايضا اللاجئين السود من أريتريا والسودان، الذين يتعرضون لملاحقات قانونية، وعملية طرد ممنهج من قبل الحكومة. فقد أثارت السياسة العنصرية تجاه هؤلاء اللاجئين، إستياء عميق في صفوف قطاعات واسعة من الجمهور الليبرالي في إسرائيل وأمريكا على حد سواء.

وقد قدم بعض الناشطين إلتماسًا للمحكمة العليا ضد القرار القاضي بطرد اللاجئين، الأمر الذي جمد عملية الطرد وسبب إحراجا كبيرا للحكومة وإنتهى الأمر بإعلان الحكومة عن فشل محاولة الطرد. غير إن هذا الإنجاز في المعركة ضد السياسة العنصرية لم ينته إذ تعمل الحكومة على سن “قانون التخطي” وهو قانون خاص يهدف الى لجم صلاحيات المحكمة العليا، الأمر الذي يزيد من إستياء الجناح الليبرالي في اسرائيل، الذي  يعتبر المحكمة واحة العقلانية، في غابة من العنصرية والقومية المفرطة.

ولا بد من التذكير هنا بأن المحكمة العليا وقفت مؤخراً ضد قرار وزير الدفاع، افيغدور ليبرمان، القاضي، بمنع عائلات ثكلى فلسطينية، حضور حفل تذكاري مشترك مع عائلات ثكلى اسرائيلية في تل ابيب،ـ علما إن هذا الحفل يتم تنظيمه سنويا عشية عيد الإستقلال الإسرائيلي، كحفل بديل عن الحفل الرسمي لذكرى الجنود الاسرائيليين الذي سقطوا في الحرب.

هذا الإنقسام داخل المجتمع الاسرائيلي الذي توسع الى داخل الأوساط اليهودية في أمريكا، يقابله عجز عربي ملحوظ في التعاطي والتواصل معه، وذلك بفعل حملة المقاطعة ضد إسرائيل، وغالبا بفضل الإنقسامات العميقة داخل المجتمع العربي والفلسطيني نفسه.

إن الإنقسام داخل إسرائيل لا أهمية له مقابل الانقسام في العالم العربي، حيث تبقى الفاشية الإسرائيلية ضمن حدود “حضارية” مقارنة بالفاشية السورية أو السعودية أو المصرية. اما الإنقسام الفلسطيني فترجمته عملية وفعلية وقاسية بالنسبة للمواطن الفلسطيني، حيث يعاني 70 الف موظف في غزة من توقيف رواتبهم من  قبل السلطة في رام الله، وهذا مجرد مثالا للحرب الدائرة على السلطة بين حماس وفتح. في ظل لا مبالاة  كل التيارات المحسوبة على التيار الوطني- ناهيك عن الإسلاميين- تجاه أي تعاون مع قوى إسرائيلية تقدمية. حتى أعضاء الكنيست العرب، وهم جزء من الواقع الاسرائيلي، لم يجدوا لغة تواصل مشتركة مع معارضي سياسة نتنياهو تجاه الفلسطينيين.

فكيف يمكن أن يتواصل من يدعم بشار الأسد في سوريا مع الليبراليين الإسرائيليين وطالبي حقوق الانسان؟ وكيف يمكن لممثلي الحركة الإسلامية أن يتواصلوا مع الشرائح الليبرالية العلمانية الإسرائيلية التي تؤمن بالديمقراطية، وهي بالنسبة الى خطابهم الديني كافرة ؟ كيف يمكن لأنصار حزب التجمع ان يتواصلوا مع هؤلاء وهم يدعمون المقاطعة، ويرون في كل إسرائيلي غاز لفلسطين، ومتهم بالصهيونية، إلا إذا أثبت براءته ألف مرة؟

هنناك تجاهلًا شبه كاملًا في صفوف الفلسطينيين والعرب لما يحدث داخل المجتمع الإسرائيلي من نقاش حول طبيعة الدولة (دينية او ليبرالية)، وعلى طبيعة النظام، (نظام قانون او ديكتاتورية الأغلبية)، على طبيعة الثقافة، (قومية او اممية)، على طبيعة المجتمع (عنصري يكره الأجنبي او ليبرالي ومتسامح) ، وعلى القضية المركزية،(نظام فصل عنصري أم نظام ديمقراطي متسامح ينهي الاحتلال ويعترف بحقوق الفلسطينيين، والعيش في ظل حياة ديمقراطية كريمة). هذا التجاهل بإسم مصطلحات شمولية مثل “اليهود”، “الصهاينة” والخوف من الإحتكاك المباشر بحجة “التطبيع” يخدم كل هؤلاء الذين يريدون للواقع الحالي ان يستمر دون تغيير.

فأول المستفدين من هذه القطيعة هو اليمين الإسرائيلي، الذي يضمن إستمرار سلطته للسنوات القادمة. أما من الجانب الفلسطيني، فهناك فتح والفصائل المنضوية تحت جناحها والتي تريد لسلطة رام الله ان تستمر ما دامت تخدمهم، وكذلك الامر بالنسبة الى حركة حماس التي تعزز خطابها السياسي بأوهام المقاومة على حساب شعب غزة وعموم الشعب الفلسطيني.

من يعتقد إن الإحتلال سينتهي دون التواصل والتحالف والتعاون وإيجاد لغة مشتركة مع قوى ديمقراطية يهودية فهو واهم. ومن يعتقد أنه من الممكن إعادة تجربة جنوب أفريقيا لا يزال يعيش في وهم سنوات الثمانينيات من القرن الماضي.

لا بد من الإدراك بأن واقع اليوم يختلف عن الماضي. عندما نرى الرئيس الروسي بوتين وهو يقصف دون رحمة مخيم اليرموك، ونرى منظمة التحرير وهي خاضعة تماما للسلطة الفلسطينية الفاسدة في رام الله، يمكننا أن نفهم إن شعارات الماضي كانت قد تقادم عليها الزمن. حتى إسرائيل إختلفت عما كانت قبل 50 سنة. كل شيء يتغير والإجماع الوطني الصهيوني قد إنتهى كما الإجماع الفلسطيني.

خطوة ناتالي بورتمان هي إشارة لما يحدث، فالأجواء تتغير باستمرار، وحان الوقت لكل من يريد تغيير جذري في الحالة العربية والفلسطينية أن يفحص ما يجري داخل إسرائيل لربما يؤدي به إلى تصحيح نهجه وسلوكه السياسي ويفتح أمامه افاق جديدة للعمل والتأثير.

 

عن يعقوب بن افرات