في مقال له بصحيفة “يديعوت أحرونوت”، في 6 كانون الأول/ديسمبر الجاري، يصف الصحفي المخضرم ناحوم برنيع ما يحدث في إسرائيل بعد أن اتضحت الخطوط العامة لبرنامج حكومة الائتلاف القادم، بأنها “ثورة شاملة”، هذه “الثورة” تمس بالقيم الأساسية التي أنشئت على أساسها إسرائيل.
ويلخص الصحفي البارز ملامح هذه الثورة بقوله، “في هذه الانتخابات قرر الناخب الإسرائيلي ترك، بوعي أو غير وعي، مجموعة القيم التي خدمت الدولة على مدار 75 عاماً، أي منذ بداية الفكر الصهيوني. اليوم هناك بن غفير* الذي يعبر عن مجموعة قيم جديدة في كل ما يتعلق بالقانون والأمن العام، بينما يعبر آفي معوز* عن مجموعة قيم جديدة تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة والتربية ومكانة المرأة وحقوق مجتمع الميم، وغولدكنوف* يعبر عن مجموعة قيم جديدة في كل ما يتعلق بالخدمة في الجيش والإسكان وسوق العمل، ولفين* الذي يعبر عن مجموعة قيم جديدة في كل ما يتعلق بسلطة القضاء، وسموتريتش* يعبر عن مجموعة قيم جديدة تتعلق بالاستيطان والأولويات الوطنية.
ثورة يمينية على التوازنات القديمة في إسرائيل
يبقى السؤال لماذا يتحدث صحفي مهم وذو تأثير كبير في إسرائيل مثل ناحوم برنيع عن “ثورة” على القيم التي على أساسها أنشئت دولة إسرائيل، طالما أن النظام في دولة إسرائيل تأسس على التمييز المنهجي بحق المواطنين العرب ويفرض حكم عسكري على 5 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وغزة؟ في الواقع يقصد الصحفي برنيع في حديثه عن “مجموعة القيم الجديدة” منظومة التوازنات التي أقامتها إسرائيل لردم الهوى بين القيم المتناقضة وعلى رأسها بين يهودية الدولة وبين النظام الديمقراطي.
وقد توصلت إسرائيل إلى هذا التوازن من خلال بناء دولة على أساس الفصل بين السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى جانب احترام حرية الصحافة المعروفة بأنها “السلطة الرابعة”. إن خضوع الجيش إلى سلطة مدنية، واستقلالية القضاء، وحرية التنظيم والتعبير – كل هذه الصفات للنظام الإسرائيلي سمحت بخلق أساس متين لبناء مجتمع واقتصاد متقدم ينافس الدول الصناعية الحديثة.
في المقابل، هذا الأمر لم ينف خضوع النظام الإسرائيلي لطموحات الحركة الصهيونية التي وضعت الطبيعة الاستيطانية واليهودية للدولة فوق كل الاعتبارات. ومع أن المحكمة العليا، صدقت على القوانين التي فيها تمييز ضد العرب وعلى أوامر الحكم العسكري في الضفة الغربية وغزة إلا أنها وضعت حدوداً، ضيقة، لما هو متاح للدولة وما هو ممنوع عليها. فمثلا فصلت المحكمة العليا بين الاستيطان الذي يقوم على أراض يملكها الفلسطينيون ملكية خاصة في الضفة، والذي تعتبره غير شرعي وبين الاستيطان الذي يقوم على أراضي الدولة وهذا النوع من الاستيطان شرعي وقانوني وفق مفهوم المحكمة.
كما تدخلت المحكمة لمنع حالة من التمييز الفادح بحق المواطن العربي اعتماداً على قانون الأساس “كرامة الإنسان وحريته”.
إحدى الأسس للموقف المتناقض الذي تعتمده إسرائيل إزاء القضية الفلسطينية يتبين من جراء امتناعها عن ضم المناطق المحتلة إلى إسرائيل وبالتالي عدم فرض القانون الإسرائيلي على الضفة الغربية. يشار إلى أنه بموجب اتفاق أوسلو تم إنشاء سلطة فلسطينية في المدن الفلسطينية وتم تقسيم الضفة بتنسيق وتفاهم بين اسرائيل والسلطة الجديدة إلى مناطق (أ – ب – ج)، الأمر الذي خلق اعتقاد زائف يوحي بصورة وضع زائفة مفادها بأن الفلسطينيين يحكمون أنفسهم بأنفسهم وأنه ليس هناك نظام فصل عنصري تمارسه إسرائيل بحقهم. في حين تدير نظاماً من التعايش بين الشرائح اليهودية المختلفة، من متدينين وعلمانيين، وشرقيين ومن أصل أوروبي (سفارديم وإشنكازيم)، والعرب واليهود، تشكل نوعاً من التسامح وعدم التدخل في حياة الفرد.
واليوم، تأتي ثورة “اليمين الفاشي” لكي تضع حداً لهذه التوازنات. سموتريتس سيستلم منصب وزير المالية كما ستمنحه كل الصلاحيات المتعلقة بالإدارة المدنية في المناطق المحتلة التي خضعت منذ إنشائها للجيش الإسرائيلي. ويعني ذلك فعلياً ضم المنطقة “ج” التي تشمل كل المستوطنات إلى إسرائيل. أما آفي معوز فقد تسلم جهاز التعليم غير المنهجي بهدف إلغاء كل المضامين التي تدعي التعايش بين اليهود والعرب والاختلاط بين الذكور والإناث والتسامح مع حقوق مجتمع الميم وحقوق الإنسان وحقوق المواطن واستبدالهم بمنهاج ديني سلفي يتعارض مع القيم الليبرالية التي تشكل مبادئ أساسية في تربية الأطفال في إسرائيل.
وبخصوص موضوع استقلالية القضاء، يسعى الائتلاف الجديد إلى سن “قانون التغلب” على المحكمة العليا من خلال تعديل المادة رقم 8 من “قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته”. وعلاوة على ذلك تريد الحكومة القادمة أن يتم تعيين القضاء من قبل السياسيين وليس من قبل لجنة مستقلة مثلما كان يجري سابقاً وإلى غاية الآن.
استنساخ التجربة الترامبية
يطمح اليمين في إسرائيل من خلال “انقلابه على القيم السائدة” إلى إلغاء كل التوازنات وفرض نظام “أبرتهايد” لا تخطئه العين على الفلسطينيين وتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية من دون الغطاء الديمقراطي، وتحويل التمييز العنصري بحق المواطن العربي إلى سياسة رسمية معتمدة من دون أي رقابة قانونية، ومنع المجتمع الليبرالي في البلاد من تبني قيم تعتبر “كفراً” وخطراً على الهوية اليهودية للدولة وفقاً لما يتصوره اليمين المُقبل إلى الحكم في إسرائيل.
هذا الانقلاب تشبه انقلاب اليمين الفاشي في الولايات المتحدة الأمريكية وما صرحه الرئيس السابق والمرشح للانتخابات القادمة دونالد ترامب بضرورة إلغاء الدستور الأمريكي، وهذا مؤشر خطير وهو بلا شك هجوم على النظام الديمقراطي الذي يقود لا محالة إلى حرب أهلية. ومن هنا ممكن أن نفهم قلق المعارضة الليبرالية في إسرائيل من جراء هجوم الحكومة الجديدة على التوازنات التاريخية ودعوة قوى المعارضة لنتنياهو أنصارها إلى القيام بمظاهرة “مليونية” من أجل مواجهة الفاشية في الوقت الذي ينتقد به نتنياهو هؤلاء بعدم قبول نتائج الانتخابات ويتهمهم بالتحريض على العصيان المدني.
الانشقاق العميق في المجتمع الاسرائيلي
وصل الانشقاق داخل المجتمع الإسرائيلي إلى ذروته، كما أن الكراهية بين المعسكرين الفاشي والليبرالي أدت إلى كسر ما كان يعرف بـ “الإجماع الصهيوني”. ولم يبقَ كثيراً من هذا الإجماع الذي كان نتنياهو نفسه يحافظ على قيامه طوال السنين الماضية، ولكنه اضطر بسبب لوائح الاتهام الموجهة ضده بالفساد للخضوع لمطالب الهوامش المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي لاستعادة كرسي الحكم.
ممكن مقارنة مقال ناحوم برنيع (المذكور في بداية المقال) بمقال آخر للكاتب اليميني المتطرف أمنون لورد في صحيفة “إسرائيل اليوم”، المنشور في 2 كانون الأول/ديسمبر الجاري، والذي يتطرق من خلاله إلى النقاش المحتدم حول تصرف الجندي في الخليل الذي صرح أمام مجموعة من المتظاهرين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال “أنا القانون هنا.. وبن غفير سيغير كل شيء”. تصرف الجندي هذا والذي استنكره رئيس أركان الجيش الإسرائيلي باعتباره خرقاً للقانون لأنه يعبر عن موقفه السياسي وقد تمت إحالة الجندي من قبل الجيش للقضاء العسكري والحكم عليه لمدة عدة أيام بالحبس.
في المقابل، ورداً على موقف الجيش ورئيس الأركان أعلن وزير الداخلية القادم إيتمار بن غفير وقوفه إلى جانب الجندي وضد رئيس الأركان. وفي هذا الموضوع كتب الصحفي اليميني لورد: “من الصعب عدم دعم وحتى التعاطف مع الجندي”، إذ أننا حسب قوله في وسط “صراع الطبقات داخل الجيش” لأن الانقسام الطبقي في المجتمع الإسرائيلي قد تسرب إلى صفوف الجيش. ويفسر لورد أن هناك انقسام داخل الجيش بين “أولاد السوشي (الأكل الياباني المشهور) الذين يخدمون في “فرقة 8200″ وباقي الفرق التكنولوجية وسلاح الجو، وفي المقابل جنود من الطبقات المتدنية الذين يخدمون في الوحدات القتالية”. ويمثل المعسكر الليبرالي ما يسمى “إسرائيل الأولى” فاليمين الفاشي يمثل ما يسمى “إسرائيل الثانية”، بحسب ما يعتقده الصحفي لورد.
اليمين المغامر سيواجه معارضة محلية وعالمية قوية
ومن باب المقاربات، إذا كانت ثورة ترامب الفاشية أدت إلى استنهاض القوى الديمقراطية في أمريكا والتي تشمل الطبقة العاملة والنساء والسود ومجتمع الميم مما أسفر عن هزيمة ترامت وفي الوقت نفسه بادرت إدارة بايدن إلى ثورة ديمقراطية وصناعية ذات تأثير عالمي، فإن انقلاب اليمين الفاشي الإسرائيلي سيواجه معارضة داخل إسرائيل من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى.
أما ضم المناطق المحتلة فإنه سيؤدي إلى إسقاط السلطة الفلسطينية مما ستضطر إسرائيل للعودة 30 عاماً إلى الوراء إلى أيام السيطرة المباشرة على الشعب الفلسطيني. وهذا الأمر يعدّ كابوساً لا أحد في إسرائيل يريده أن يتكرر. ولكن ما تقوم به إسرائيل في ظل الحكومة الجديدة اليوم يمهد الطريق أمام عصيان مدني فلسطيني شامل، لاسيما وأن المطروح اليوم ليس إنشاء دولة فلسطينية بعد أن اتضح فشل هذه المشروع وإنما المطالبة بكامل الحقوق المدنية ضمن دولة ديمقراطية واحدة ما بين نهر الأردن والبحر تشمل كل السكان من إسرائيليين وفلسطينيين على مبدأ المساواة بين كل المواطنين.
ربما يُقصد بانقلاب الفاشية الحالية الوصول إلى دولة يهودية صافية، ولكنها ستنتهي لا محالة بدولة ديمقراطية تجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس التسامح والتعايش والاحترام المتبادل.
- بن غفير – زعيم حزب قوة يهودية (عوتسما يهوديت) المتحالف مع الصهيونية الدينية.
- آفي معوز – زعيم حزب نوعام المتحالف مع الصهيونية الدينية.
- غولدكنوف – زعيم حزب يهودية التوراة (يهدوت هاتوراه)، وهو حزب “حريدي” (الأرثوذكسية اليهودية)
- لفين – أحد قيادات حزب الليكود والمسؤول عن المفاوضات الائتلافية والمرشح لمنصب وزير العدل.
- سموتريتش – زعيم حزب الصهيونية الدينية
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.