هذه هي البوصلة التي تقودنا إلى الدولة الواحدة

 

بوضوح واختصار، لا يمكن بناء الدولة الواحدة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي بضربة مُعلم، بقرار فردي، بمرسوم رئاسي. يستحيل إقامتها دون وأد العنصرية، دون نشوء قيادة فلسطينية جديدة، وأخرى إسرائيلية تسعيان لإقامة الجسور بين الشعبين.

لا دولة بينما الجدران الاسمنتية والنفسية بين المواطنين قائمة. لا دولة واحدة تضم الجميع إن لم تُصهر العقول والقلوب بنيران المواطنة. لا دولة بلا تقدم وتكنولوجيا واقتصاد متين. لا عيش آمن للسيد المسيطر والعبد المهان. الدولة الواحدة هي للمواطنين الأحرار.

يصعب الوصول إليها قبل أن يرحل الفاسدون والقامعون للشعب الفلسطيني، وقبل أن توقف إسرائيل التحريض الرسمي ضد الشعب الفلسطيني، والقيام بخطوات في اتجاه رفع الحصار والحواجز العسكرية ووقف الاستيطان، وبناء قواعد قانونية وتشريعية وأخلاقية جديدة للتعامل مع الشعب الفلسطيني.

يستحيل قيامها قبل أن تتوقف الكراهية والتحريض ضد اليهود، قبل أن يتحقق الانسجام والتكامل بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي على كافة الأصعدة. لا دولة واحدة دون وجود مؤسسات فلسطينية فاعلة وقوية، دون سيادة القانون، واستقلال القضاء والصحافة الحرة. لا دولة قبل تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، قبل التخلص من القيادات الفلسطينية الفاشلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومن أجل وضع القواعد والاساسات لها، لا بد من خلق جيل فلسطيني جديد من الكوادر الشبابية المتخصصة في الاقتصاد والبيئة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة والعلوم والفن والادب والرسم والنحت. جيل من الشباب المتنور بثقافات العالم المتنوعة، جيل يتقن فن الحوار والاقناع، وتطبيق الأفكار المبدعة، جيل جريء لا يخضع للمحظورات والممنوعات، جيل يفكر بحرية ويريد أن يكون جزءا من القرن الـ ٢١.

نمتلك الآن كل مصادر المعرفة. لم تعد المعرفة حكرا على مجموعة من البشر، لم تعد مرتبطة بأمريكا وروسيا وألمانيا واليابان والصين، لم تعد محصورة داخل جدران الجامعات وقاعات الدراسة في المعاهد. كسر الانترنيت الاحتكار وعولم المعرفة، أصبحت متاحة للجميع. كل مكتبات العالم متوفرة في الهاتف المحمول في جيب كل واحد منا. ولا عذر لأحد. لا عذر للمثقفين الإسرائيليين وقياداتهم إن بقوا متمسكين بمواقفهم العنصرية. ولا عذر للمثقفين الفلسطينيين وقياداتهم إن استمروا في ترويج أفكارهم الماضوية.

إنني لا أُنظر، يعبر كلامي عن تجربتي. أعتقد أن هناك الكثير من الفلسطينيين الذين خاضوا معترك هذه التجربة، لكن معظمهم لا يمتلكون جرأة التحدث عنها، أو أنهم يفصلون بين السياسة والنجاح. والنجاح في الحياة لا يمكن أن ينتج إلا عن أسلوب حياة ناجحة.

اسمحوا لي أن أتحدث عن ابني أدهم، كمثال ملموس يوضح مقصدي. ما يقتل المجتمع الفلسطيني هو التقليد والقيود المفروضة على التفكير الإبداعي. نحن في مجتمعنا نمنع أبناءنا من أن يمتلكوا خيالا. نريدهم أن يقلدونا في كل شيء حتى العمل واختيار الزوجة، والطعام وطريقة الكلام، نريدهم أن يقدسوا العادات والتقاليد، نريدهم أن نجعل منهم نسخا عنا في كل شيء.

أتيحت لي الفرصة أن أكون مختلفا، لكوني انفقت قبل أربعة عقود ونصف عقد ١٨ شهرا في المعتقل بتهمة الانتماء لحركة فتح، تعاملت مع السجان الإسرائيلي والسجين الفلسطيني وخرجت بتجربة، عملت في الإعلام لـ ٣٦ عاما، أصبحت مختلفا باختلاطي بإعلاميين أجانب من جنسيات عديدة ورأيت وسمعت وتعلمت وفكرت واستنتجت. لم يكن سهلا أن أسبح ضد التيار، لكن التيار لم يجرفني.

لم أرغب أن يكون ابني وبناتي اعلاميون مثلي. لم أحثهم على دراسة الإعلام. قلت لهم: انطلقوا إلى أي مسار يناسب طموحاتكم ومواهبكم. لم أضع قيودا على طرق تفكيرهم. لم أقمعهم بأيدولوجية أو فكر. لم أضعهم في قالب.

تعلمت من تجربتي في المعتقل ومن عملي الإعلامي أن أقبل الآخر، مهما كان مختلفا عني، تعلمت فن الحوار والاقناع. كل ما فعلته هو أنني لم أفرض أي قيد على اسرتي. وكنت أستقبل الصحفيين الأجانب في بيتي، وكنا نتحدث في مواضيع كثيرة.

سافرت وشاركت في مؤتمرات عديدة، كتبت أخبارا وتحقيقات ومقالات وانتقدت المجتمع والسياسيين. كان عالمي غير مغلق. لم أكن متقوقعا داخل المجتمع الفلسطيني، رفضت قيوده، وتمكن ابني وبناتي من رؤية هذا العالم الواسع. أدهم الآن مؤسس مركزي لشركة “إمجري”، ومديرها التنغبذي (CEO).

الشركة الآن متخصصة في مجال وضع برمجيات القيادة الذاتية للسيارة.

عائلتي محافظة، مدارسنا تدرس الطلاب بالتلقين وليس الفهم، تمرد أدهم على مدرسته وأساتذته، لم يصدق كل ما كان يسمع، اختلف مع المحاضرين في الجامعة. وصلتني رسالة من الجامعة تقول بأنه كان يجادل كثيرا فيما يعتقد أساتذته بأنه من المسلمات. وحذرتني الرسالة بخطورة وضعه.

يحب أدهم الحياة، ويريد أن يضع بصمته الخاصة عليها، وهو معجب بالمخترع ستيف جوبز، مؤسس شركة “آبل”. قرأ كثيرا عنه وحياته الخاصة وشركاته، ووضع صورته في موقع بارز في مكتبه في مدينة حيفا.

سيكمل أدهم في ديسمبر القادم الـ ٣٣ عاما وهو متعدد المواهب: يرسم وينحت. ومرة أخرج فيلما قصيرا عن الانتفاضة الأولى. وكتب رسالة تخرجه من جامعة العلوم والتكنولوجيا في اربد بالأردن عن تمكين أصحاب الإعاقة البصرية والحركية من استخدام الحاسوب بالتفكير الدماغي.

عمل هنا وهناك في الضفة الغربية لعامين، ثم حصل على قبول في جامعة تل أبيب، بهدف نيل شهادة الماجستير في الهندسة وتكنولوجيا المعلومات. هناك في جامعة تل أبيب، اكتشف أن المجتمع الإسرائيلي يحترم الأشخاص الذين يتمكنون من تحويل معرفتهم الأكاديمية إلى صناعة وتكنولوجيا.

جاءني مرة وقال: لا أريد الحصول على وظيفة مهما كان الراتب مرتفعا، بل اريد تأسيس شركة “ستارت أب” خاصة بي في مجال التكنولوجيا. طلب مني أن أوفر له غرفة وطعاما ومصروف جيب ونفقات التنقل لمدة عام أو عامين، لأنه سيعكف على بلورة أفكاره والالتقاء بالمستثمرين. كان يتحدث بثقة بأنه سيتمكن من تحقيق هدفه. ترددت ثم سارعت بالقول: لك ما تريد. ولامني من لامني على ما فعلت. قلت لهم: سأعطيه الفرصة.

كان يُعلم نفسه بنفسه بطريقة مكثفة. وكبر طموحه وزادت ثقته بنفسه. ولم تحبطه تعليقات أفراد المجتمع، ولا اتهاماته له بأنه “فاشل” لأن المجتمع الفلسطيني يقدس الوظيفة ويعتبر أن من يكسب ألف دولار في الشهر، هو شخص ناجح. كان أدهم قارئا ممتازا. كان يلتهم الأدب العالمي، ويقرأ الكتب ويحب الرياضيات والفيزياء وكان منذ صغرة يصنع الأشياء، والدمى والسيارات المزودة بدوائر كهربائية.

لم يكن هدف الوصول إلى القيادة الذاتية أمرا سهلا، ولا يزال أدهم في خضم العمل الدؤوب المضن، ويواجه مع مجموعة من المهندسين مسلمين ومسيحيين ويهود صعوبات أكثر ثقلا وارتفاعا من مرتفعات الإفرست.

تمكن أدهم وفريقه المميز من تحقيق نجاح أولي في أول تجربة للقيادة الذاتية برفقة ممثلين لشركة استثمار عالمية في ولاية أريزونا في شهر يناير الحالي، بعد أن تمكن الفريق من حل مئات المشاكل، وسافرت السيارة بثبات، على الطريق دون اهتزاز نحو اليمين أو اليسار، وتوقفت بصورة هادئة وطبيعية أمام الإشارات الضوئية، وعندما يعبر المارة الطريق، وعندما تمر الشاحنات في مفترق طرق بصورة مفاجئة. وفتحت التجربة الناجحة بذلك أمامه آفاق التحدث مع شركات استثمار عالمية.

هذه هي البوصلة، أو إحداها، كم نحن بأمس الحاجة إلى كوادر مؤهلة تبني المؤسسات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والبحثية والتربوية!!

أين كوادر الشباب الذين يؤسسون الصحافة الحرة، ويبنون مجتمع سيادة القانون، والقضاء المستقل، أين النساء والرجال المتساوون في الحقوق؟ لماذا نخضعهم لسيطرة نظام أبوي بطريركي قبلي عشائري وفصائلي.

المشكلة ليست سياسية فقط. حزب دعم لا يتحدث بالسياسة فقط. إنه يتحدث عن إشاعة العلم والتكنولوجيا في المجتمع الفلسطيني وعن جودة البيئة وتمكين المرأة وإشاعة الاقتصاد التشاركي. وتعلم قيادة الحزب أن المشوار طويل وطويل جدا، ولا يمكن الوصول إلى دولة واحدة قبل أن يحسن الفلسطينيون من مستوياتهم الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والفكرية.

لماذا لا نُعلم أبناءنا أن إلقاء الحجارة لا يفيد في القرن ألـ ٢١؟ لماذا لا نعلمهم أن المقاومة هي في جودة التعليم والبيئة وقوة الاقتصاد وابداع التكنولوجيا، وفي صحة الانسان، وتوفير الطاقة المتجددة، وفي الفن والرسم والنحت ونشر قيم الانفتاح على العالم. لماذا لا نشجعهم على دراسة اللغات العالمية، وقبول ثقافة الآخر، بدلا من لوك الادعاء الخاوي بأننا خير أمة أخرجت للناس.

نريد أن نتجاوز الماضي ونفتح بوابة المستقبل على مصراعيها، لندخله معا نحن والإسرائيليون، لنبني مجدا وحضارة. أعلم أن أصواتا كثيرة ستلعنني وتتهمني بالدعوة إلى التطبيع، لكنها هي الحقيقة المرة المؤلمة: نحن لا زلنا نعيش في القرن الثامن عشر.

أي شعب يتحمل هذا الكم الهائل من الشهداء والجرحى؟  نعم الاحتلال ثم الاحتلال ثم الاحتلال هو المسؤول، ولكن سيكون أبناءنا أكثر قوة وصلابة وعزيمة لو أنهم تصدوا للاحتلال بالتعليم والقانون والمؤسسات والاقتصاد والتكنولوجيا. عندها سندق بقوة أجراس الدولة الواحدة ولا مناص للإسرائيليين من القبول بنا كشركاء وأنداد.

نريد أن نقول للإسرائيليين نحن الفلسطينيون نعيش هنا. وأنتم أيها الإسرائيليون تعيشون هنا، أنتم ونحن نعيش في هذه البقعة الصغيرة ما بين البحر والنهر. لا نريد أن نخرجكم من البلاد، ولا نسمح أو نقبل أن تضيقوا الخناق علينا، سنطاردكم في المحاكم، سنشن عليكم حرب الحقوق المدنية والقومية. نريد أن نكون ندا لكم في كل مجالات الحياة.

أعلم أنكم سترمونني بحجارتكم، وتتهمونني بالدعوة إلى التطبيع. أعلن بوضوح أنني ضد الاحتلال، وأحب أن اقاوم الاحتلال، بالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد القوي. سنقاوم الاحتلال لو تمكنا من جعل القضاء مستقلا. سنقاومه لو تمكنا من تأسيس صحافة حرة، لو أنشأنا نظاما تعليميا غير تلقيني، لو أطلقنا العنان للتفكير الحر.

أعتقد أن إقامة دولة واحدة هو الحل الأمثل، بعد اجراء التغييرات التي ذكرتها، هي الحل الأمثل بعد سقوط حل الدولتين، هي الحل الأمثل بعد أن أضعنا البوصلة.  نقف الآن على مفترق طرق: طريق استمرار الحرب والقتل والتدمير وطريق الحياة المشتركة.

أيهما نختار؟

نسأل القادة الفلسطينيين: إلى أين نمضي؟ فيجيبون: لا بد من حل الدولتين؟

نرد عليهم: وهل نجحتم في تأسيس نواة للدولة خلال ربع قرن؟ هل نجحتم في إقناع شعبكم بأنكم قوم مؤهلون لتأسيس دولة وقيادة شعب؟

يجيب آخرون: نستمر بالمقاومة؟ ونرد وماذا بعد؟ وهل الشعب مستعد لتقديم الثمن الباهظ، بلا نتيجة مرجوة؟ هل رفعت المقاومة الحصار عن قطاع غزة؟ هل أزال التنسيق الأمني حواجز إسرائيل العسكرية عن مداخل مدن الضفة الغربية وقراها؟ هل أوقفت الجيش الإسرائيلي والمستوطنين عن اقتحامها؟

نسأل القادة الإسرائيليين: ما هي الحلول التي تقدمونها لهذا الوضع المجنون الذي لا مثيل لجنونه؟

يجيبون: نقدم حكما ذاتيا محدودا، وحصارا مستمرا وقاهرا ضد الإرهابيين في قطاع غزة وملاحقة مستمرة للإرهابيين في الضفة الغربية. بمعنى آخر هم يقدمون حلول البطش والتنكيل والحصار والنكران المبين لحقوق الشعب الفلسطيني الانسانية والقومية والمدنية.

ويستمر عداد الضحايا بسرعة هائلة ولا يتوقف عن الدوران.

ألا يعلم القادة من الشعبين أن شعبا فلسطينيا وشعبا إسرائيليا يعيشان على هذه الأرض؟ ألا يحق لنا أن نتعلم ونفهم ونمارس كيفية العيش المشترك، بعيدا عن الشعارات الزائفة، بعيدا عن القومية الحاقدة، بعيدا عن العنصرية المقيتة. لماذا لا نعيش تحت ظلال مبادئ المساواة والحرية والتوزيع العادل للموارد والثروة؟

كيف سيحدث ذلك، ما لم نمتلك البوصلة؟ ما لم نفكر خارج الصندوق؟ ما لم نبدع البرامج والحلول؟ ما لم نكتشف التكتيك الجلي والاستراتيجية الصائبة؟ ما لم نتحلى بالجرأة لمواجهة واقعنا القاسي؟

كلنا أطباء نبرع في تشخيص واقعنا، لكننا نقدم الحلول المستحيلة والعنصرية والوهمية والسلبية.

يكاد الوقت يضيع. الفرصة الآن الآن الآن، فاغتنموها.

 

 

عن سعيد الغزالي