سحنة سعد الحريري التي ظهرت على الشاشة وهو يحاول أن يقنعنا من الرياض بأنه بخير وقريبا سيعود إلى لبنان لربما تعبّر عمّا يحدث في المملكة العربية السعودية في هذه الأيام، فهي تترنح بين القلق، الإرتباك ومحاولة بائسة لإقناعنا بأن المملكة بخير والأمور تحت سيطرة كاملة. ولكن العالم لا يقتنع بذلك كلّه، إذ أنّ الخطوات التي يتخذها ولي العهد، محمد بن سلمان، تشبه حركات الطفل الذي بالكاد تعلّم أن يخطو خطواته الأولى مقارنةً بالحركات البطيئة التي تعوّدنا عليها من قِبل ملوك المملكة المسنّين.
وقد خاض محمد بن سلمان سباق الماراثون الذي سيستغرق 15 سنة وسينتهي في عام 2030، فإما أن تتغير السعودية تغييرًا جذريًا أو أن تذوب في رمال الصحراء الشاسعة. ويدرك الأمير الشاب بأن الوقت لا يلعب لصالحه بل بالعكس، فسنة 2030 أصبحت عنوانًا عالميًا لكثير من دول العالم وعلى رأسها الصين وألمانيا اللّتين قررتا الإنتقال من الطاقة النفطية إلى الطاقة المتجددة المستندة على الشمس والريح. والمشكلة هي أن السعودية قد دخلت المارثون وهي تتخلف كثيرًا عن بقية الدول -فالصين وألمانيا مثلًا تحظيان باحتياطات مالية، خبرة تقنية، وإقتصاد متنوع وهذا بالضبط ما تنقصه السعودية.
إن الإتجاه العام واضح المعالم: النفط يخسر من مكانته الرئيسية في تحريك الإقتصاد، الثورة الصناعية الثالثة التي تعتمد على شبكة الإنترنت، الطاقة المتجدّدة، الروبوت بدل اليد العاملة، والسيارة الذاتية الكهربائية – كلّها أدخلت جميع الدول المنتجة للنفط، من روسيا إلى فنزويلا وحتى إيران في أزمة اقتصادية خانقة، والسعودية كذلك الأمر لم تنج من عواقبها. وربما كان للسعودية دورًا رئيسيًا في دفع الدول المستهلكة للنفط إلى البحث عن بدائل،إنطلاقاً من أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك. ففي هذا اليوم بالذات تبيّن للأمريكان وللعالم برمته بأن حليفهم الإستراتيجي لا يزوّدهم بالنفط فحسب بل يصدّر أيضا المذهب الوهابي على نطاق عالمي وبالتالي أصبح خطرًا إستراتيجيًا على الأمن القومي الأمريكي.
ولم يبق المذهب الوهابي خطرًا وحيدًا على سلامة المجتمع العالمي، بل وبعد سبع سنين من أحداث أيلول 2001 تبيّن أن مذهباً آخراً يشكّل هو أيضا خطرًا داهمًا على سلامة المجتمع الغربي وهو مذهب الإقتصاد النيوليبرالي أو بما يُعرف كاقتصاد السوق الحرة، والذي أدى في عام 2008 إلى أكبر ركود اقتصادي منذ عام 1929. وقد كانت أحداث ايلول 2001 بمثابة المقدمة للكارثة الإقتصادية التي أدت إلى فقدان 8 مليون مواطن أمريكي لبيوتهم وإلى فقدان الملايين من أماكن العمل في الوقت الذي اتسعت فيه الفجوات بين الغني والفقير نحو معدلات خيالية.
وقد أدى الإنهيار الإقتصادي الكبير في سنة 2008 إلى تحوّلات سياسية كبيرة جدًا، بدءً من انتخاب أول رئيس أسود في الولايات المتحدة إلى حركة الإحتجاج العالمية ضد النظام النيوليبرالي وفي مقدمتها ثورات الربيع العربي. إن ما أدى إلى سقوط الأنظمة العربية الفاسدة الواحدة تلو الأخرى كان تطبيقها للنظام النيوليبرالي، واعتمادها الإقتصاد الحر والخصخصة والمضاربة العقارية، الأمر الذي أدى إلى إفقار الشعب وإلى انفجار اجتماعي ضخم. وإذا كانت السعودية قد نجت من الربيع العربي فإن هذا بفضل احتياطاتها المالية الناتجة عن النفط، وهي استخدمت هذه الأموال ليس لتخدير السعوديين فحسب بل من أجل تمويل الثورة المضادة في مصر ومن ثم القضاء على القوى الثورية الديمقراطية في سورية من أجل تشويه صورتها، إلا أنه وتحديداً بعد أن نجحت في مهمتها بالقضاء على الثورة في اليمن، مصر وسورية، إكتشفت المملكة بأن مصيرها أصبح على كف عفريت. فما يريد تنفيذه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، هو نفس الشيء الذي من أجله ثار الشباب العرب، وهو الدخول إلى القرن الـ 21. ما يريده محمد بن سلمان هو تحديث الإقتصاد والتنويع الإقتصادي وهذا على أساس جلب استثمارات أجنبية.
ولكن رأس المال الأجنبي يشكّك في قدرة الأمير الشاب على تحقيق أهدافه. فكيف من الممكن جذب الأجانب إلى بلد تخضع فيه المرأة لأبشع أنواع القمع ولا تتمتع بالحد الأدنى من الحرية؟ كيف من الممكن إقناع مستثمر على الإستثمار في بلد لا قضاء مستقل لديه ولا قانون سوى قوانين الشريعة؟ كيف من الممكن إحداث تغييرًا في بلد يعتمد على العمالة الأجنبية التي بلغ عددها 10 مليون عامل أجنبي تساوي ثلث عدد سكان البلاد؟ وكيف من الممكن استبدال الجامعات الدينية بمعاهد علمية؟
إن الأمر لا ينتهي بإعتقال عشرات أبناء القبيلة الحاكمة ورجال الدين باسم مكافحة الفساد والتحوّل نحو الإسلام المعتدل، فالمطلوب هو بناء نظام سياسي يستطيع أن يقود مثل هذه الإصلاحات العميقة. إن النظام العصري الجديد الذي يعتمد على الإنترنت والطاقة المتجددة يفترض الديمقراطية وحرية الرأي والفكر، ويمنح حكماً ذاتياً لكل فرد في المجتمع ويفك احتكار السلطة والإقتصاد العمودي الذي يدار من فوق مثل النظام السعودي. وإذا كان لفيسبوك دورًا أساسيًا في الربيع العربي فإنه قد مكّن المواطن أن يتحرّر من الإحتكار الإعلامي وأصبح ساحة حرة لتبادل الآراء والمعلومات، فكل محاولة سعودية لإحتكار العلم والإعلام وفرض سطوة العائلة الحاكمة ستؤدي إلى فشل خطة 2030 وستعزل النظام السعودي أكثر مما هو معزول الآن.
ما يقوم به اليوم الملك السعودي محمد بن سلمان يدلّ على أن الربيع العربي لم يكن مؤامرة أمريكية، إخوانية أو صهيونية، بل كان حدثًا تاريخيًا حتميًا نتج عن عجز الأنظمة العربية عن استيعاب المرحلة التاريخية الجديدة التي تحرّكها الثورة الصناعية الثالثة. وإذا بشرت الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية المبنيتين على الفحم والقطار والتلغراف (الاولى في القرن ال-19) والنفط والسيارة والكهرباء والتلفزيون (الثورة الصناعية الثانية في القرن ال-20) بسيطرة النظام الرأسمالي والديمقراطية البرجوازية على البشرية فما تبشر به الثورة الصناعية الثالثة المعتمدة على الطاقة المتجددة وشبكة الإنترنت -التي سعرها هو صفر- يدفع صوب تحويل البشرية إلى كتلة تعاونية واحدة مبنية على أسس الديمقراطية والعدالة الإجتماعية التي كانت مطلباً أساسيا في الربيع العربي.
ليست هي المرة الأولى في التاريخ تتشكّل فيها جبهة مضادة للتحديث التكنولوجي والتقدم الإجتماعي. إن الزعماء – ترامب وبوتين وعبد الفتاح السيسي وخامنئي والأسد ونتانياهو ومعهم محمد بن سلمان، لم يجتمعوا صدفةً على معارضتهم للديمقراطية وللثورات العربية فهم يمثّلون الطبقات والشرائح المتضررة من الثورة التكنولوجية الجديدة. إن الأوليجاركية الروسية والطبقات الحاكمة في العالم العربي واليمين الأمريكي المتطرف مثلهم كمثل المستوطنين واليمين الإسرائيلي الفاشي، يقفون ضد التغيير وضد التقدم ويحاولون أن يجرّوا العمال البيض في أمريكا والعمال من أصل شرقي في إسرائيل ورائهم إلى مواقف عنصرية وعدائية للأجنبي ولللاجئين وهم يستغلون بذلك تخوف هذه الشرائح من الطبقة المثقفة التي تقود التحديث التكنولوجي ولها نظرة مفتوحة تجاه العالم.
إن ما يحدث في السعودية ينعكس بشكل مباشر على مصير العالم العربي. فإذا كان المال السعودي ومعه الخليجي بشكل عام هو الذي موّل “الصحوة” الإسلامية حيث لا يمكن تصوّر هذا المد الإسلامي دون الوقود المالي الخليجي، فمن المقرر أن يؤدي تجفيف الإمدادات إلى انهيار الإسلام السياسي الذي لا يرفض الإنخراط في العالم العصري الجديد فحسب بل يريد أن يعيدنا 1500 سنة للوراء. لا تشكّل الشعوب في سعيها نحو الحرية والعلم والتقدم عدوًا للملوك والطغاة العرب بل الشمس والريح والماء أيضا. إنها قوة الطبيعة التي استطاع الإنسان ترويضها في سبيل خدمته، وإنتاجها للخيرات ليس لصالح نخبة من الأمراء الفاسدين بل في خدمة الإنسان في كل مكان وبلا تمييز على أية خلفية مسبقة. إن الشمس على خلاف النفط ليست احتكارًا لأحد بل هي ملك للجميع، وإذا بات النفط رمزًا للفساد والإستبداد فالشمس هي رمز للحرية والمساواة.
ليس بيد محمد بن سلمان، بوتين، ترامب أو نتانياهو أن يوقفوا إشعاعات الشمس أو مهب الريح. إن الدمّار الذي نشهده اليوم في العالم العربي لا يمكن أن يعاد بناؤه إلا على أسس اقتصادية جديدة مبنية على التعاون بين الشعوب والإنخراط في الثورة الصناعية الثالثة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.