في أواخر عام 1998 زار الرئيس الامريكي آنذاك، بيل كلينتون، غزة حيث استقبل بحفاوة من قبل الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، في مطار غزة الدولي. جاءت تلك الزيارة التاريخية بهدف إنقاذ عملية السلام وتمرير اتفاق واي بلانتيشن بين الرئيس عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي حينها، بنيامين نتانياهو، في أكتوبر من ذلك العام. نصت مسودة الاتفاق على انسحاب إسرائيل من 13% من أراضي الضفة الغربية والافراج عن 700 أسير فلسطيني على أن يلتزم عرفات بإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني الذي ينفي وجود اسرائيل. كان هذا الشرط مهينا وغريبا علما أن المجلس الوطني الفلسطيني كان قد أعلن إلغاء ميثاقه الوطني عام 1996 اثر اتفاق طابا بين عرفات ورابين، وكانت تلك مقدمة لتأسيس المجلس التشريعي الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية ليحلّا محل المجلس الوطني. إلا أن رغبة كلينتون في إحداث تقدم في عملية السلام أدت إلى انعقاد اجتماع خاص للمجلس الوطني وتكرار التصويت على ما تم إعلانه وكان ذلك مثابة استصدار شهادة وفاة ثانية وأخيرة لمنظمة التحرير الفلسطينية تثبت موتها بلا رجعة.
واليوم، بعد 15 عاما، على هذا الحدث السريالي يكرر نتانياهو نفس اللعبة وهو في مطلع ولايته الثالثة. ولكن هذه المرة نجده يعنّد على طلب غريب كل هدفه إهانة الطرف الفلسطيني ووضع اللوم عليه لفشل المجهود الدبلوماسي الذي يقوم به وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري. الادعاء الاسرائيلي بسيط: سبب النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين لا يكمن في الاستيطان والاحتلال بل في رفض الطرف الفلسطيني القبول بوجود دولة إسرائيل. كل ما كان حتى الآن من تنازلات فلسطينية وتوقيع على اتفاقات ظالمة من الناحية الامنية والسياسية والاقتصادية منحت للاحتلال اليد الطولى لتصول وتجول في المناطق المحتلة، غير كافية في نظر رئيس الوزراء الاسرائيلي. السعي للتملص من اتخاذ قرار واضح ونهائي بالاعتراف بدولة فلسطينية بحدود 67، يؤدي كل مرة من جديد بالطرف الإسرائيلي لاختراع ذرائع جديدة، آخرها مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل.
ولكن دروس التاريخ تشير أنه رغم انصياع الجانب الفلسطيني للمطالب الإسرائيلية العجيبة، ورغم توقيع الاتفاقات المرحلية، فلا يقود هذا فعليا إلى تحقيق مطالب الفلسطينيين بإنهاء الاحتلال. كذلك كان مع توقيع اتفاق واي بلانتيشن وقبله الاتفاق على تقسيم الخليل. الدرس الوحيد الذي تعلمه نتانياهو حينها، هو ان مجرد توقيع اتفاق مع الطرف الثاني يمكن ان يكلفه ثمنا سياسيا باهظا وترك حلفائه من اليمين الحكومة، وكان عليه الانتظار عشر سنين حتى عاد لترؤس الحكومة عام 2009.
واليوم، وبعد ان توسع الاستيطان لدرجة لا تترك مجالا لإقامة الدولة الفلسطينية، وبعد ان قوي اليمين الاسرائيلي وتشبّث بقوة بالحكم دون منازع سياسي قوي، وانقسمت السلطة الفلسطينية بين فتح وحماس مما يؤدي لاحتضارها بسبب الانقسام من جهة والحصار المفروض عليها من جهة أخرى – الآن تحديدا تريد الولايات المتحدة ان يتخذ الطرفان القرار الصعب والنهائي. لا غرابة اذن ان دخل نتانياهو الى هلع شديد، فكل ما يريده هو عدم القرار. صحيح انه التزم بمبدأ الدولتين، ولكن كان هذا بضغط دولي وهو لم يقصد أبدا اتخاذ خطوات جادة لإخراج هذا الإعلان الى حيّز التنفيذ. نتانياهو يخاف. أنه يخاف من إغضاب شركائه المستوطنين في حالة وافق على مبدأ السلام على اساس حدود 67، يخاف من شركائه الليبراليين إذا ما تنكر لالتزامه تجاه العملية السلمية، ويخاف من الضغط الدولي إذا انكشف أنه هو المسؤول الرئيسي عن فشل مساعي جون كيري.
كانت الأطراف قد اتفقت قبل أشهر قليلة على استئناف المفاوضات، وحصرتها ضمن مدة تسعة أشهر تنتهي في نيسان (ابريل) المقبل باتفاق نهائي يضع حدا للصراع. القضايا المطروحة هي نفسها التي امتنع اتفاق اوسلو عام 1993 عن تسميتها وأطلق عليها عبارة “قضايا الحل النهائي” مؤجّلا مناقشتها، وهي: الحدود، الاستيطان، القدس واللاجئين. ولكن ما كادت تمضي خمسة أشهر على المفاوضات بين وزيرة القضاء، تسيبي ليفني، وكبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، حتى تبين أن الجمود هو سيد الموقف. والسبب أن إسرائيل ترفض، مرة أخرى، الخوض في قضايا الحل النهائي، وعلى رأسها الحدود، مما يفرغ المفاوضات من مضمونها.
ورغم ان الوسيط الامريكي يشرّف المنطقة بحضوره شبه الدائم، ويحضر جلسات المفاوضات، إلا أن الولايات المتحدة ترفض ممارسة أي ضغط حقيقي على الجانب الإسرائيلي، بل بالعكس، قررت تخفيف الضغط وتمديد فترة المفاوضات إلى أجل غير مسمى. ولتبرير هذا التغيير في الموقف، يسعى الآن كيري للوصول إلى وثيقة تفاهم بين الأطراف تشكل مرجعية للمفاوضات، وتحدد بشكل عام وغير ملزم الموقف من “قضايا الحل النهائي” التي ترفض اسرائيل الخوض فيها منذ إبرام اتفاق اوسلو. إدراكا لحقيقة ان الموضوع لا يحتمل التأجيل بلا نهاية يطلب جون كيري من الاطراف تحديد موقفهم المبدئي من هذه القضايا. ولكن، حتى هذا المطلب الواهي لا يجد آذانا صاغية في الجانب الإسرائيلي.
سعيا لتحميل الفلسطينيين مسؤولية فشل المساعي الأمريكية، وضع نتانياهو شروطه المهينة والظالمة مدركا تماما ان الفلسطينيين لا يمكنهم قبولها. من هذه العقبات: الاحتفاظ بالسيطرة الاسرائيلية على غور الاردن إضافة للكتل الاستيطانية والمواقع ذات القيمة التاريخية مثل الخليل ومستوطنة بيت ايل، وكذلك مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة. المفارقة أن شروط نتانياهو هذه تجد تفهما من قبل جون كيري الذي ترك كل القضايا الدولية الساخنة، من الحرب الأهلية في العراق، سورية، جنوب سودان وحتى الملف الإيراني، وتفرغ لجولاته في العالم العربي، محاولا إقناع زعمائه بالموافقة على شروط نتانياهو والقبول بيهودية دولة إسرائيل.
ولا يبدو أن العرب يفهمون ما يريده هذا الرجل منهم، وهل يصدق بالفعل ان الرضوخ لهذا الطلب الغريب سيؤدي إلى حل نهائي أم إلى طلب تعجيزي إضافي من الحكومة الإسرائيلية؟ وعموما، لا احد يفهم اليوم ماذا تريد ادارة اوباما والى اين تتجه: ماذا تريد من سورية حيث تدفع المعارضة الى جنيف 2 بعد أن اكتفت بالاتفاق مع الروس على نزع الاسلحة الكيماوية وأطلقت يد النظام الاسدي الفاشي لضرب شعبه بالبراميل المتفجرة؟ ماذا تريد من مصر حيث تدعم الانقلاب الفاشي من جهة بعد يوم من اعترافها بشرعية الرئيس المخلوع محمد مرسي؟ ماذا تريد من العراق حيث تدعم حكومة المالكي الطائفية ضد عصيان المناطق السنية؟ هل أمريكا هي مع إيران أم ضدها؟ هل هي ضد الاسد كما تدعي أم تسعى للتفاهم معه؟ هل تريد حل النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين أم تريد إنقاذ الائتلاف الحاكم في اسرائيل؟
لقد فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها إزاء حلفائها وأعدائها في آن معا، وخلقت فراغا هائلا بدأ يمتلئ بكل أشكال التطرف والفوضى. ما يحدث في مصر، العراق، سورية ولبنان هو شهادة حية على الكارثة التي تعيشها المنطقة بسبب السياسة الأمريكية التي زرعت بذور الفوضى وتترك العالم يحصد عواقبها وحده.
في هذه الظروف لا أفق سياسي حقيقي لإنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. سيناريوهات مختلفة أمامنا، فإذا فشلت المفاوضات سيصعب على نتانياهو الحفاظ على الائتلاف، ومن المحتمل ان تبدأ الضغوط لانسحاب القوى الليبرالية منه، مثل حزب يئير لابيد (يش عتيد – هناك مستقبل) وحتى حزب تسيفي ليفني (هتنوعا – الحركة). وما الخيارات أمام الطرف الفلسطيني؟ أبو مازن يهدد للمرة الألف بالتوجه للأمم المتحدة والمحكمة الدولية، ولكن خطوات كهذه لا تزيل مستوطنة واحدة ولا حتى حاجز عسكري. وإذا عدنا لزيارة بيل كلينتون لغزة عام 1998، فاننا نذكر بأن عرفات هدد حينها أيضا بالتوجه للأمم المتحدة وكانت النتيجة الغاء الميثاق الوطني بدل من التوجه الى الهيئة الدولية.
لقد وصلت السلطة الفلسطينية إلى طريق مسدود، وهي عاجزة عن تحرير الأرض وإزالة المستوطنات وإقامة دولة مستقلة ترعى مصالح مواطنيها. إنها سلطة بلا جيش، برلمان، ميزانية أو اقتصاد، وكل ما تبقى منها هو الاسم والمراسم الرسمية والمعونات الخارجية. ان أكبر ضربة للاحتلال ستكون بإعلان الجانب الفلسطيني عن حلها لإجبار الجانب الإسرائيلي على تحمل مسؤولياته عن الاحتلال المتواصل. خطوة من هذا النوع قد تفضح الجانب الإسرائيلي وتجبره على الخوض في مفاوضات جدية. ولكن طالما ان الطرف الفلسطيني يعفي اسرائيل من هذا الضغط، يستطيع رئيس الحكومة واليمين الإسرائيلي الخلود للراحة ومواصلة الممارسات الاستيطانية والهمجية من جهة ولوم الفلسطينيين على تعثر المفاوضات من جهة أخرى، في حين تواصل السلطة إدارة الاحتلال بالوكالة عنهم.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.