لإرهاب يرهبنا

اأعلن الرئيس الفرنسي الحرب على داعش بعد العملية الإرهابية الرهيبة في قلب باريس يوم الجمعة 13/11. وقد لجأ إلى الأمريكيين والروس والأوروبيين لكي يقدموا له العون في محنته العصيبة، إلّا أنه ورغم خطورة العمليات، تستمر أمريكا في رفض تغيير موقفها أو بالأحرى عدم اتخاذها لموقف مما يحدث في سوريا وكأن الأمر ليس من شأنها. الإرهاب لا يهدد أمريكا وحتى أوروبا بل هو مشكلة داخلية عربية، فرغم عملية القتل المروعة في قلب باريس فإن داعش لا تهدد في الحقيقة قوة أوروبا والغرب في العالم وفي نهاية المطاف فإن عملياتها وإرهابها يستهدفان الشعوب العربية التي أصبحت الضحية الحقيقية للتطرف الإسلامي. وتبقى الدول الغربية تخوض حرباً ضد داعش لكنها غير مستعدة لدفع الثمن من أرواح جنودها في هذه الحرب أو في سبيل إنقاذ العرب من أنفسهم. إعلان أوباما الحرب على داعش قبل عام ونيّف لم يات كما يعتقد الكثيرون بسبب الصور المريعة التي بثت عبر شبكات التواصل الاجتماعي حول إعداماتٍ لصحافيين ورهائن غربيين. فإزاء ذلك لم يكن البيت الأبيض على استعداد لتحريك ساكنٍ. أما ما دفع الغرب وتحديداً الرئيس أوباما لتشكيل الإئتلاف لمكافحة داعش كان الإعلان عن إقامة الدولة الإسلامية بعد أن استطاعت داعش احتلال مدينة الموصل في يونيو حزيران 2014 والتقدم السريع نحو بغداد بعد أن انهار الجيش العراقي وهرب من ساحة القتال. منذ ذلك الحين بدأ التدخل الأمريكي المباشر في سورية والعراق ليس حفاظاً على أرواح السوريين والعراقيين بل من أجل الحفاظ على المصالح الأمريكية في العراق التي سقطت بعد ست أشهر من انسحاب الجيش الأمريكي. أمريكا ليس معنية في مصير الشعب السوري وكل ما تريده هو الحفاظ على كل استثماراتها الضخمة في الحرب على العراق والتي تجاوزت الألف مليار دولار وقرابة ال10000 قتيل. إن المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه أوباما هو عدم إرسال قوات برية والإعتماد على القوات المحلية. لكن كل المحاولات الأمريكية لإعادة بناء الجيش العراقي أو تدريب قوات عسكرية سورية لم تنجح حتى الآن في إتمام هذه المهمة وهي تستند إلى قوات كردية بالأساس لها مطامح لا علاقة لها في إعادة بناء العراق أو سورية بل تسعى إلى تحقيق طموحاتها الإنفصالية. إن الإعتماد على الأكراد واستثناء أغلبية الشعب العراقي والسوري يُبقى أمريكا معزولة ودون إمكانية تحقيق تقدم ملحوظ في حربها ضد داعش. أما ما يلفت النظر فهو أن التحالف ضد داعش يجمع العالم برمته، هذه هي المرة الأولى التي تتوحد فيها كل دول العالم على اختلاف توجهاتها ضد دولة الإسلام، فروسيا وأمريكا تتوحد مع فرنسا وبريطانيا، وإيران والسعودية، وتركيا وإسرائيل توحدت تحت شعار “تصفية الدولة الإسلامية” ولكن باستثناء طهران لا أحد مستعد أن يبعث جنوده إلى ساحة القتال. تجربة أفغانستان والعراق تبث الذعر في قلوبهم، فقد فشلوا في حربهم الاحتلالية واليوم يكتفون بالقصف من الجو، كل دولة تقصف كيفما تشاء، فالروس يقصفون كل ما هو معارض لبشار الأسد، الفرنسيون يدمرون مدينة الرقة والأمريكيون مشغلون بالتنسيق مع حلفائهم لمنع حدوث اشتباكات جوية بين طائراتهم. كيف يمكننا تفسير هذه المعجزة؟ دولة لا اقتصاد لها، لا جيش نظامي لها وحتى لا شعب لها تصمد كل هذه الفترة أمام العالم برمته. الجواب بسيط، داعش وإرهابها ليس مشكلة أجنبية بل عربية بامتياز ويعيد جون كري ويكرر في كل مناسبة، على العرب أن يتولو مهمة القتال ضد داعش فهذه ليست مهمتنا. إن ما حدث في باريس من قتل وإرهاب ما كان ليحدث لو أن أبو بكر البغدادي عرف بأن 60 دولة ستنزل عليه بكل جبروتها العسكري لمحي وجوده عن وجه الأرض. البغدادي يعرف من تجربته المسبقة في العراق بأن الأمريكان وحلفاءهم دمروا العراق ومزقوه واليوم يقولون للعراقيين –وللسوريين من بعدهم- عليكم أن ترممو ما دمرناه نحن، كما لو أنهم يقولون “خربنا وتركنا”. ما يهم أمريكا ليس مصير الشعب العراقي أو السوري بل مصير اقتصادها وعلاقتها مع الأسواق الأسيوية وما يهم أوروبا هو أزمة اليونان ومستقبل العلاقات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. نعم تدفق الهجرة إلى أوروبا يقلقهم ولكن حتى أنجيلا ميركيل استغلت الفرصة لتجميل صورتها وإنسانياتها على حساب الشعب السوري بقبوله لاجئاً في المانيا. إن العملية التي حدثت في باريس لم تكن موجهة ضد فرنسا، ولا خوف من إعادة إنشاء إمارة الأندلس، إن الإرهاب ليس أفضل أسلوب لإقناع المواطن في الغرب بمزايا وأفضلية النظام الإسلامي العادل على النظام الرأسمالي الليبرالي. ولكنه يهدف إلى الرفع من هيبة داعش والوصول إلى مزيد من الشباب المسلم الذي يعيش مهمشاً في الدول الأوروبية وهنا لديه فرصة للانتقام بل وبث الرعب بقلوب هؤلاء العنصريين الفرنسيين الذين لا يبالون بمعاناة الشعب السوري والعراقي. فما تسعى إليه داعش هو احتلال قلوب العرب المسلمين، العملية الإرهابية هي فقط وسيلة في حين أن الهدف هو احتلال قلوب الشباب وغسل أدمغتهم. إن داعش ليست موجودة في الشام والعراق فقط بل إنها منتشرة على طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، هي داخل كل قرية ومدينة، تارة نسمع عن الناصرة واليوم جلجولية وأم الفحم وغزة، فالمكلا في اليمن، ودرنا في ليبيا وسيناء والصومال وأفغانستان. إنها ظاهرة ثقافية أكثر منها سياسية، الشريعة الإسلامية لا تعرف السياسة ولا لزوم لها في الديمقراطية. إنها ظاهرة مطاطة لا مبدأ لها، تتحالف مع نظام الأسد ضد العراق وتحارب إيران في أفغانستان ثم تتحالف معها ضد الأمريكان، تحارب السوفييت بتعاون مع وكالة الإستخبارات الأمريكية ثم تنقلب عليها وتهاجم البرجين في نيويورك. فكل مواطن محبط، فقير أو حتى المثقف الذي يشعر بالإهانة، أو العنصرية، من تعثر بالكيل بمكيالين عندما يميز العالم بين ضحايا سوريا وضحايا فرنسا يبرر هذه العمليات الشنيعة ويتحجج بالماضي الفرنسي الإستعماري. إن التسامح أو التفاهم مع هذه الظاهرة وتبريرها ليس سوى التهرب من الحقيقة المرة، داعش هي إفراز من إفرازات الإسلام السياسي، وتقف وراءه دول مثيرة وغنية تسمح لهذه الظاهرة بأن تتفشى. إن قوانين “دولة الإسلام” ومناهجها التربوية هي سعودية ومكانة المرأة فيها لا تختلف عن مكانة المرأة في السعودية. إننا نعاني من سيطرة الإسلام المتطرف بشكليه الإيراني والسعودي على المجتمع العربي وهذا الأمر يعبر نفسه في مسلكيات المجتمع ككل. إن ثقافة العنف لا تنتهي في شوارع باريس بل أصبحت نمط حياة في المجتمع العربي، من يتسامح مع العنف ضد الأبرياء لكونهم أجانب يقبل، شاء أم أبى، العنف كوسيلة التسوية الخلافات. كثيرون يعتبرون العنف في المجتمع العربي “إرهابا” ومن بينهم شيوخ محترمين ولكنهم لا يتمكنون من تحديد مصدر هذا الإرهاب لأنهم يريدون أن يفصلوا بين الإرهاب “الإجرامي” والإرهاب “السياسي” ولكن هنالك خطاً واحداً ومستقيماً يربط بينهم كونهم يخالفون القيم الإنسانية. نعم الإرهاب هو الخطر الأساسي الذي يهدد المجتمع العربي قبل الأجنبي، والدول الغربية ليست جدية في مكافحة هذا الإرهاب فهو مشكلة داخلية لا بد من معالجتها من الداخل. إن الثورات العربية الشبابية بشرت للعالم كله بداية حقبة جديدة، حقبة الحرية والعدالة الاجتماعية خالية من القمع والتطرف الديني وهذا ما اقلق الأنظمة القمعية. فقد عملت السعودية وإيران على إغراق العالم العربي بحروب طائفية وفضلتا الفوضى والدمار على إنجاز الثورة الديمقراطية التي تهدد كيانهما المذهبي الفاسد. إن الإرهاب يترعرع ويعيش من النزاعات الطائفية، إنها نقطة ضعف تستغلها داعش للتغلغل في عقول الناس. إن آمالنا ليست في أمريكا والغرب ولا يمكن أن نعتمد على دول الخليج أو غيرها فكل واحدة منها تريد أن تفرض أجندتها على المجتمع العربي. الأمل يبقى في الطاقة المتفجرة للملايين من الشباب في سوريا، مصر، اليمن وليبيا ومعهم العمال الذين يتعرضون اليوم إلى أبشع أنواع القمع والملاحقة ولكن يرفضون أن يتنازلوا عن طموحاتهم وحقوقهم. فإذا كانت داعش تمثل كل ما هو سلبي في المجتمع فالشباب العربي الذي فجر الربيع العربي هو نموذج يحتذي به شباب العالم كله.

عن