نتنياهو ينتصر على “الدولة العميقة”

مصادقة محكمة العدل العليا الإسرائيلية على اتفاق الائتلاف بين حزبي الليكود وكاحول لافان (أزرق أبيض)، مفاده أن المحكمة لا ترى بأن هناك مانعًا قانونيًا من تولي بنيامين نتنياهو لمنصب رئيس الحكومة، رغم لوائح الاتهام المقدمة ضده في قضايا الفساد وخيانة الأمانة والرشوة؛ واقتراب موعد مثوله أمام المحكمة المركزية في القدس. قرار المحكمة هذا، الذي اتخذته يوم الأربعاء الماضي، 6 أيار/ مايو، مهّد الطريق لتشكيل حكومة جديدة بعد فشل ثلاث جولات انتخابية غير حاسمة.

وعلى الرغم من الوعود التي قطعها على نفسه قبل الانتخابات، رئيس حزب كاحول لافان، بيني غانتس، بأنه سيرفض الجلوس مع مَن أتهم بالفساد، إلا أن عدم استعداده لتشكيل حكومة بأغلبية 61 مقعداً من مجمل 120 بدعم من “القائمة العربية المشتركة” قد أجبره على شق كتلته (كاحول لافان) التي ضمت حزب “يش عاتيد” (هناك مستقبل) بزعامة يائير لابيد، وعن زميله رئيس الأركان السابق موشيه يعالون، والدخول في حكومة وحدة مع خصمه نتنياهو.

يأتي قرار المحكمة العليا على خلفية تهديد مباشر من قبل نتنياهو بأن أي تدخل من قبل المحكمة العليا في مضمون الاتفاق الائتلافي أو في قرارات الكنيست بهذا الخصوص سيعتبر قرارًا سياسيًا وليس قانونيًا، وسيؤدي إلى الذهاب لخوض جولة انتخابات رابعة، في الوقت الذي تمر به البلاد بأزمة صحية واقتصادية عميقة بسبب وباء كورونا.

وفي هذا السياق، يعتبر أنصار اليمين الإسرائيلي وعلى رأسهم نتنياهو بأن المحكمة العليا في واقع الأمر ليست سوى “حزب” بحد ذاته، ذو توجهات ومواقف ليبرالية تتماشى مع رؤية اليسار الإسرائيلي. لا بل وقد صرح نتنياهو علنًا بأن ما تقوم به النيابة من تقديم لوائح إتهام ضده ليس سوى “محاولة للانقلاب على السلطة”.

وعلى الرغم من أن نتنياهو كان يردد دائمًا في معرض رده على الاتهامات بأنه “لن يحدث شيء لأنه لا يوجد شيء” بحقه، ولكن بعدما اتضح بأن هناك أدلة وشهود من الدرجة الأولى ضده، قرر تحويل الانتخابات إلى “استفتاء” حول مكانته والطلب من الشعب الثقة رغم الاتهامات الموجهة ضده.

الصراع مع “الدولة العميقة”

رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مثله مثل صديقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ينظر إلى المؤسسات التي تعتبر أساس دولة القانون والرقابة على السلطة بأنها بمثابة “الدولة العميقة”. وتتشكل الدولة العميقة في إسرائيل من أربعة مكونات، وهي المحكمة العليا لامتلاكها صلاحيات التدخل في قرارات الكنيست، والنيابة العامة والشرطة والصحافة الحرة.

وقد سعى نتنياهو جاهدًا من أجل الهيمنة على هذه السلطات الأربعة عبر التعيينات واستخدام منصبه لكسب هذه المؤسسات إلى صفه أو تحييدها عن طريقه، حيث عمل على تغيير تركيبة المحكمة العليا من خلال استبدال حكام ليبراليين بحكام محافظين. كما عيّن سكرتير حكومته السابق في منصب المستشار القضائي للحكومة (ودوره حسب النظام الإسرائيلي يشمل منصب رئيس النيابة)، وعيّن نائب رئيس الشاباك بمنصب المفتش العام للشرطة. أما في مجال الصحافة استطاع نتنياهو تفكيك مؤسسة الإذاعة الحكومية وأسس بدعم الملياردير اليهودي الأمريكي، شلدون أدلسون، جريدة يومية مجانية، إضافة لعلاقاته الفاسدة مع صاحب شركة “بيزك” للاتصالات الذي منح نتنياهو تغطيات إيجابية في موقع “ولا” (Walla) الإخباري مقابل امتيازات مالية هائلة. علاوة على ذلك، فإن الدولة العميقة في إسرائيل لا تقتصر على المؤسسات الرقابية الأربعة بل تشمل أيضًا الجيش الإسرائيلي، الذي يعتبره أنصار نتنياهو “دولة داخل دولة”.

معارضة من رحم الجيش

من المعروف، طالما يبقى النزاع محصورًا بين نتنياهو والمؤسسات القانونية فإن الجيش لا يتدخل، ولكن في السنوات الأخيرة بدأت تظهر علامات التذمر في أوساط الأجهزة الأمنية وعدم رضاها عن سلوك نتنياهو، ووصلت الأمور إلى أوجها في عام 2016 على خلفية إعدام جندي إسرائيلي لمواطن فلسطيني بعد محاولة فاشلة لتنفيذ عملية في الخليل، الأمر الذي أدانه، وقتذاك، رئيس الأركان وكذلك وزير الدفاع وعضو الليكود آنذاك موشيه يعالون. القياديون العسكريون إعتبروا سلوك الجندي سلوكًا غير أخلاقيًا يتعارض مع مبادئ الجيش. إلا أن نتنياهو تبنى الموقف الشعوبي اليميني ودافع عن الجندي، وقام بالاتصال مع والده ليعزيه مما أدى إلى استقالة وزير الدفاع يعالون، الذي حذر من “هيمنة عناصر متطرفة وخطيرة على إسرائيل ومن هز دعائم البيت الوطني.”

وعلى خلفية هذا الانتقاد الحاد لتصرف نتنياهو قام رؤساء الأركان الثلاثة السابقين، بيني غانتس، وغابي اشكنازي، وموشيه يعالون بتشكيل كتلة “كاحول لافان”، وخوض الانتخابات بهدف إقصاء نتنياهو عن الحكومة وعن الحياة السياسية، إذ أنهم إعتبرونه خطرًا على “البيت الوطني” وعلى أركان الدولة القانونية.

وعلى الرغم من الحملة الانتخابية الشرسة والاتهامات المتبادلة بين الطرفين لم يتمكن الجنرالات الثلاثة من إزاحة نتنياهو عن السلطة مما اضطرهم – أو على الأقل اثنين منهم – إلى تغيير موقفهم والدخول في حكومة وحدة مع نتنياهو، من دون أن يغيّروا هدفهم الأساسي في إقصائه عن الحكم.

وكان نتنياهو هو من دعا في مطلع عام 2019 إلى انتخابات مبكرة بهدف الحصول على أغلبية برلمانية من 61 مقعد تضمن له تمرير قوانين تسمح له بالبقاء في منصب رئيس الوزراء رغم لوائح الاتهام ضده. لكن ورغم محاولاته المتكررة التي أفضت إلى إجراء ثلاث معارك انتخابية خلال أقل من سنة، جميعها امورٌ جعلت نتنياهو اليوم يقف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما معركة انتخابية رابعة وإما تشكيل حكومة وحدة مع بيني غانتس.

اتفاق هش لتقاسم الحقائب الوزارية

يمكننا ان نذكر سببين لقرار نتانياهو إبرام إتفاق إئتلافي مع غانتس. أولًا هناك وباء كورونا وما ترتب عليه من أزمة اقتصادية خطيرة، حيث خسر خلاها مليون عامل مكان عملهم. ثانيًا هناك حاجة نتنياهو إلى نوع من الشرعية من قبل المعارضة الليبرالية المتماثلة في غانتس على تسلمه لمهام رئيس حكومة رغم لائحة الاتهام بحقه، هذان السببان رجحا الكفة لصالح خيار تشكيل حكومة الوحدة وإستبعاد خيار العودة إلى انتخابات رابعة.

الاتفاق الذي توصل إليه نتنياهو وغانتس في أواخر نيسان الماضي ينص على تشكيل حكومة يتقاسمان فيها عدد الوزراء مناصفةً بين كاحول لافان وكتلة اليمين المتحالفة مع الليكود، ويأتي ذلك رغم أن عدد أعضاء كتلة اليمين الـ 59 هو أكبر بكثير من عدد أعضاء الكنيست من كتلة كاحول لافان (20 عضو بما فيهم عضوين من حزب العمل الذي يبحث عن طريقة للإنضمام إلى كاحول لافان).

والغريب في هذا الائتلاف هو إنعدام الحد الأدنى من الثقة بين الطرفين والتشكيك في نية نتنياهو بنقل الحكم إلى بني غانتس بعد سنة ونصف وفقًا لما نص عليه الاتفاق. وتجنبًا لذلك تضمن الاتفاق على تشكيلة قانونية جديدة نصت على أداء اليمين بالتزامن بين الاثنين. نتنياهو يرأس الحكومة في المرحلة الأولى ويليه غانتس، كل هذا من أجل ضمان التزام نتنياهو بتسليم المنصب بعد انتهاء فترته (سنة ونصف) حسب الاتفاق.

وما يدل على سعي الجنرالات لضمان عدم استيلاء نتنياهو وهيمنته على مفاصل الدولة، نص الاتفاق على استلام كتلة كاحول لافان الحقائب الوزارية التي تمثل “الدولة العميقة” وهي وزارة العدل، ووزارة الاتصالات ووزارة الثقافة والرياضة إضافة الى وزارة الدفاع والاقتصاد والرفاه.

بعد اكثر من سنة وثلاث معارك إنتخابية يبدو اليوم واضحًا إنتصار نتنياهو على خصومه في الساحة الإسرائيلية، إذ أنه تمكن من التغلب على كل العراقيل، بما فيها الهجمة الشرسة من قبل اليسار الليبرالي وذلك من خلال دعاية إنتخابية عنصرية ومتطرفة ضد القائمة العربية المشتركة لسد الطريق أمام إمكانية غانتس في حال فكر بالاعتماد على الصوت العربي عبر إثارة مشاعر اليهود الشرقيين الفقراء ضد الطبقات العليا الاشكنازية (أوروبية الأصل).

بناءً على ما سبق، فقد اضطر نتنياهو في نهاية المطاف أن يقبل “الدولة العميقة” شريكًا له في الحكم بل وتعهد بالالتزام بتسليم رئاسة الحكومة لغانتس، وهو أمرٌ يشكك فيه الكثيرون الذين لا يصدقون إنسان متهم بالفساد سبق وتراجع عن التزاماته العلنية مرات عديدة.

الحقبة ما بعد نتانياهو ضبابية

ورغم اعتبار الكثيرين نتنياهو ساحرًا إلا أن مستقبله لا يبشر بالخير. وقرار المحكمة العليا والاتفاق الحكومي لن ينقذاه من المثول أمام المحكمة التي ستبدأ عملها في تأريخ 24 أيار/ مايو الجاري، ومن المقرر أن تشهد جلسات المحكمة شهادات من قبل شهود النيابة الذين كانوا من الأشخاص الأكثر قربًا من نتنياهو وكشفوا سلوكه الفاسد.

فما ينتظر نتنياهو ليس حملة ضده في الصحافة فقط، بل أزمة اقتصادية حظيت بانتقادات لاذعة من قبل مناصريه من أصحاب المشاريع الاقتصادية الصغيرة، ومن عمال أصبحوا عاطلين عن العمل.

وإذا أضفنا إلى هذه الصعوبات وضع صديقه الأمريكي دونالد ترامب الذي جلب الكارثة الإنسانية والاقتصادية على شعبه بسبب سوء إدارته لأزمة وباء كورونا والتنكر لها في بادئ الأمر، وإمكانية فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية القادمة، فمستقبل نتنياهو ليس ورديًا بل قاتمًا.

أننا أمام حقبة تاريخية جديدة، حقبة ما بعد نتنياهو التي تتسم بالضبابية. وفي الواقع يجب أن نجزم بأن سياسة بيني غانتس وغابي اشكنازي لا تختلف كثيرًا عن سياسة الليكود ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، وإنما في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويتضح أن قرار ضم المستوطنات إلى إسرائيل أصبح أمرًا واقعًا مما يضع مصير السلطة الفلسطينية على كف عفريت.

ولكن الحقيقة هي أن العالم لن يبقى على ما هو بعد كورونا، وإسرائيل لن تبقى في المنأى عن هذه التغييرات العميقة في عهد ما بعد ترامب، جونسون، أوربان، بولسونارو وكل أصحاب نتنياهو الفاشيين الذين يقودون العالم نحو الجحيم.    

عن حزب دعم

يرى حزب دعم أن برنامج "نيو ديل إسرائيلي – فلسطيني أخضر" هو الحل الأنسب لمعالجة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها إسرائيل، وهو مرتكز أساسي لبناء شراكة إسرائيلية فلسطينية حقيقية لإنهاء نظام الفصل العنصري "الأبرتهايد" الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في المناطق المحتلة. هذا الحل مبني على أساس "العدالة المدنية"، ما يعني منح الفلسطينيين كامل الحقوق المدنية ووقف كل أنواع التمييز والتفرقة بين اليهودي والعربي ضمن دولة واحدة من النهر إلى البحر. إن تغيير الأولويات الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الاحتباس الحراري لإنقاذ البشرية من الانقراض ليس مهمة "صهيونية" فحسب أو "فلسطينية"، بل هي مهمة كونية وأممية في جوهرها. ومثلما لا يمكن تطبيق الأجندة الخضراء في أمريكا من دون معالجة العنصرية ضد السود، كذلك لا يمكن تحقيق برنامج أخضر في إسرائيل بمعزل عن إنهاء نظام الأبرتهايد والقضاء على التمييز العنصري تجاه المواطنين العرب في إسرائيل.