يمكن القول إنّه لا يحدث شيء تقريبًا في الانتخابات الحاليّة. وبما أنّ النتائج معروفة مسبقًا، فإنّها تشبه بثًّا معادًا للعبة كرة قدم. الأجواء مليئة بشعور الانهزاميّة، والتعامل مع اليمين الذي تزداد قوّته كالتعامل مع حالة الطقس: يمكن التحدّث عنه، ولكن لا يمكن تغييره. من الصعب التصديق بأنّه قبل سنة ونصف فقط، في صيف 2011، ملأ المواطنون الشوارع وظهرت أفكار جديدة وبدا رجال السياسة مهانين ومهزومين، وشباب تل أبيب خرجوا من لا مبالاتهم وأسمعوا رأيهم دون إعارة اعتبار “للكبار” الذين خيّبوا آمالهم.
لكنّ البصر يخدع أحيانًا. نشهد في هذه الانتخابات ظاهرة جديدة، نشطة وديناميّة وشابّة مليئة بالطاقات التي تحمل روح ذلك الصيف- حملة “دعم” الانتخابيّة. بدأت هذه الحملة منذ ذلك الحين، في الكتلة الحمراء التي شاركت في المسيرات الاحتجاجيّة الغفيرة. في ذلك الصيف، التقى الأفراد الذين يحرّكون اليوم هذه الحملة المثيرة للإعجاب والتي تحمل بشرى التغيير. كان هذا اللقاء تلقائيًّا تمّ بين الشعارات والأفراد، بين اليهود والعرب، بين العمّال وعاملي الياقة البيضاء (الموظّفين)، الذين صرخوا شعاراتهم بخليط من العبريّة والعربيّة، ولذلك برز وجودهم بين الجماهير الغفيرة التي شاركت في المسيرات.
الشعار “الشعب يريد عدالة اجتماعيّة” خلق روابط بين المتظاهرين في إسرائيل وبين الملايين في مصر وفي العالم بأسره، الذين خرجوا إلى الشوارع لأنّهم يئسوا من النهج الرأسماليّ الهدّام. نبع حماس شباب تل أبيب من إدراكهم بأنّهم يدخلون التاريخ، وبأنّ الأسوار الفاصلة انهارت وبأنّنا نتواصل مع العالم. شباب القاهرة كانوا كشباب مدريد، وتل أبيب حطّمت المقولة الصهيونيّة “الشعب يعيش بمفرده”. القاهرة بشّرت بالتغيير وتل أبيب أعادت الأمل بهذا التغيير.
إلاّ أنّ الكتلة الحمراء رفضت التراجع. كما أنّه لا يمكن إعادة مبارك في مصر، وفي حين اكتشف الشباب مدى قوّتهم وهزموا الدكتاتوريّة، هكذا أيضًا أوجد صيف الاحتجاج وعيًا ونهج عمل جديدين وفتح الباب أمام حيّز سياسيّ لم يتبلور بعد ليصبح قوّة اجتماعيّة جديدة.
الانتخابات بمثابة حافز
لذلك أصبحت الانتخابات الحاليّة حافزًا لعمليّة حتميّة. الأفراد الذين التقوا في ذلك الصيف الحارّ والثوريّ وساروا معًا بشكل تلقائيّ، وجدوا أنفسهم أمام تحدٍّ جديد- كيف يعبّرون عن آمالهم وكيف يواجهون النظام الفاسد الذي قام الاحتجاج ضدّه. بهذه الطريقة اكتشفوا الطاقة الهائلة التي تكمن في أفكار الكتلة الحمراء. خيبة الأمل من الأحزاب الحاليّة، في الشارع اليهوديّ وفي الشارع العربيّ أيضًا، أوجدت فرصة نادرة للتفكير في شيء جديد. الشعارات القوميّة- المفرّقة في الشارع العربيّ ظهرت خاوية ولا يمكنها تخليص المواطنين العرب من الفقر المزمن الذي يعانون منه. في الجانب اليهوديّ، التعامل المشكّك تجاه العرب حلّ مكانه التواصل معهم على أساس قاسم مشترك واسع انعكس في المطالبة بعدالة واحدة للجميع.
بخلاف الحراك الاحتجاجيّ، لا يتمّ اللقاء في الميادين والشوارع، بل في الحيّز الافتراضيّ في الشبكة الاجتماعيّة في الإنترنت التي حرّكت الثورات العربيّة وما زالت تحرّك المظاهرات ضدّ نظام الأسد في سورية. إنّها حلبة جديدة تتيح إنشاء علاقات مدهشة كانت مستحيلة في الماضي. تتيح صفحة “دعم” في الفيسبوك تواصلاً بين المتكلّمين بالعربيّة والعبريّة والروسيّة. إنّها عبارة عن حلبة يستطيع فيها العرب واليهود التواصل فيما بينهم. الرسائل هناك بسيطة للغاية ومفهومة إلى حدّ يمكن فيه نقلها بلغات مختلفة وبتناغم نادر لا يتّفق مع الواقع. إنّ ذلك برهان بارز على أنّ العرب واليهود والعمّال من جميع الأوساط يمكنهم العيش والحوار والنضال معًا ضدّ العدوّ المشترك- السلطات التي أهملت المواطنين لصالح زمرة من الأثرياء.
نجحت صفحة “دعم” في الفيسبوك في المكان الذي أخفق فيه الحراك الاحتجاجيّ. نجحت في الربط بين مركز البلاد والهوامش، بين المفكّرين والعمّال، بين معلّمي الكلّيّات وسائقي الشاحنات. استعداد كلّ هؤلاء للانضمام إلى حزب “دعم” ليس مفهومًا ضمنًا. فعدم الثقة الذي يفرّق بين اليهود والعرب، وبين اليهود الغربيّين والشرقيّين وبين المتكلّمين بالروسيّة والأمهريّة، شكّل حتّى الآن عائقًا أمام أيّ تواصل بين هذه المجموعات. لكنّ سنوات طويلة من العمل والنشاطات التربويّة والقيام بنضالات مشتركة وإقامة نقابات عمّالية، سواء تلك التي نجحت أو التي فشلت، أدّت إلى تكوين ثقة أساسيّة في “دعم” وفي أعضائه الناشطين في هذا المضمار.
ترجمة القوّة الافتراضيّة في الإنترنت إلى قوّة انتخابيّة
التحدّي الكبير الذي يواجه “دعم” هو ترجمة هذه القوّة الافتراضيّة إلى قوّة انتخابيّة في صندوق الاقتراع. حتّى الآن نجحنا في نقل الحراك الاحتجاجيّ إلى الحيّز الافتراضيّ في شبكات التواصل الاجتماعيّ في الإنترنت وجعله وسطًا للنصوص الكتابيّة والچرافيكا وأفلام الڤيديو التي كشفت مواقف الحزب على الملأ. افتتحنا حيّزًا لتبادل الآراء بمختلف اللغات، ولإدارة نقاش سياسيّ مباشر ومثير وديمقراطيّ. قوّة جديدة تتبلور وتقتحم الساحة السياسية، والانضمام الدائم لأعضاء جدد يشهد على أنّ هذه القوّة تلبّي حاجة نجمت في أعقاب الواقع المتغيّر. الالتحاق بحزب “دعم” ليس “موضة” عابرة، وإنّما نزعة تستجيب لوعي اجتماعيّ آخذ في التبلور، سواءً في الشارع اليهوديّ أو الشارع العربيّ. كلّما تنامت هذه الحملة أصبح بناء قوّة سياسيّة تمثيليّة في الكنيست قابلاً للتحقيق.
يسير “دعم” في هذه الطريق منذ سنوات طويلة. الأفكار لم تتغيّر، وإنّما الواقع تغيّر وأتاح ازدهار هذه الأفكار. تزدهر الأفكار الثوريّة داخل الحركة الثوريّة، التي تتكوّن عندما ينهار النهج القائم والوعي الاجتماعيّ يرفض المسلّمات. الإدراك الأساسيّ الذي يقضي بأنّ الدولة تتبع لمواطنيها تَصدَّعَ عندما “تزوّجت” السلطة برأس المال وكانت الموارد العامّة “مهرًا” في هذا “الزواج”. تحوّلت دولة إسرائيل إلى دولة جميع أثريائها، وسلبت من مواطنيها القدرة على التأثير والتغيير. عندما ظهرت الفجوات الطبقيّة وُلد الوعي الثوريّ. لذلك تضافر العمّال، بدون فوارق في القوميّة واللغة والأصل، من أجل استعادة كرامتهم التي داستها الدولة ومن أجل استرجاع حقّهم في تقرير مصيرهم. يؤمن هؤلاء العمّال بالسلام لا بالحرب، بالأخوّة لا بالعنصريّة، بالحقّ في العيش بكرامة لا بالاستغلال، بالعدالة الاجتماعيّة للجميع لا بعدم المساواة.
إنّنا نشعر أنّنا نعيش لحظة تاريخيّة. الأجواء حماسيّة ملتهبة، والحملة الانتخابيّة المكثّفة تشهد على التغيير الذي يحدث على الدوام. الطاقات التي انطلقت في صيف 2011 أصبحت اليوم أضعاف ما كانت عليه آنذاك، ويبدو تحقيق الهدف قريبًا للغاية. تمسّكنا بالفكرة، وناضلنا من أجل تحقيقها سنوات طويلة واكتسبنا ثقة العمّال الذين عملنا معهم ضدّ الفقر وضدّ الاستغلال اليوميّ. إنّنا نؤمن بأنّ هناك جماهير غفيرة ترغب في الحفاظ على الطاقات التي تكوّنت في ذلك الصيف وفي تنميتها. إنّ ما يحرّكنا في هذه الانتخابات هو طاقة ثوريّة ستؤدّي بنا إلى دخول الكنيست. وضعنا لأنفسنا هدفًا، ومسؤوليّتنا الجماهيريّة تحتّم علينا الاستمرار حتّى تحقيق هذا الهدف. لأنّه على ضوء ازدياد قوّة اليمين الفاشيّ في إسرائيل ثمّة خياران أمام الجماهير: التغيير أو الضياع.