اخرجوا وصوّتوا

مقال المحرّر في صحيفة “هآرتس” كان استثنائيًا، ليس فقط لأنّه لأوّل مرّة يُنشَر بالعبريّة والعربيّة، وإنّما بسبب مضمونه. يتضمّن هذا المقال حسابًا للنفس ينبع من يأس عميق وفيه أيضًا اعتراف. سبب اليأس هو أنّه لأوّل مرّة في تاريخ الانتخابات في إسرائيل، حُسمت هذه الانتخابات قبل إجرائها. لم توفّر المعارضة ردًّا ملائمًا على الوحدة بين نتنياهو وليبرمان. تزايد قوّة “البيت اليهوديّ” برئاسة بنيت من جهة وتفتّت المركز واليسار السياسيّ إلى أربعة أحزاب- “كديما” و”يوجد مستقبل” و”الحركة” و”العمل” من جهة أخرى، جعلا الصورة أكثر سوادًا.

الجملة الحاسمة التي تشكّل حسابًا للنفس هي: “منذ حكومة رابين الثانية التي اعتمدت على أصوات ممثلي المواطنين العرب في الكنيست، يعمل اليمين بمنهجية لنزع شرعية العرب في اتخاذ قرارات سياسية حاسمة. وينعكس ذلك اليوم في حملة التحريض ضد أعضاء الكنيست العرب وفي التشريعات المعادية للديمقراطية. من جهة أخرى فإن القوى التي تسعى لوضع بديل لليمين، تتجاهل بأغلبيتها وجود المواطنين العرب. ولذلك، ومن أجل تغيير هذا الوضع، هنالك حاجة لتمثيل عربي أكبر في الكنيست.”.

نقطة التحوّل – مقتل رابين

قرّر كاتب المقال الإشارة إلى حكومة رابين الثانية كبداية التصدّع الكبير بين اليهود والعرب، وليس أحداث أكتوبر 2000 كما كان متوقّعًا. صحيح أنّ المقال يلقي باللائمة على اليمين، لكنّ المسؤوليّة عمليًّا تقع على عاتق اليسار. بدأ التصدّع بعد مقتل رابين، لأنّ حكومته آنذاك لم تتمتّع بأكثريّة يهوديّة للمصادقة على اتّفاقيّة أوسلو، واستندت إلى أصوات العرب.

بدأ اليسار في التراجع أمام اليمين مباشرةً بعد القتل. بدلاً من نزع شرعيّة اليمين والمستوطنين، اختار “ميرتس” وحزب “العمل” الطريقة الأسهل، وقرّرا حلّ التصدّع الاجتماعي الداخلي عن طريق التصالح مع المستوطنين وتجاهل المواطنين العرب. رغم تجنّد المواطنين العرب سنة 1996 لصالح بيرس ضدّ نتنياهو، وتجنّدهم مرّة أخرى سنة 1999 لصالح براك ومساهمتهم في فوزه على نتنياهو، فضّل حزب “العمل” الشراكة مع “المفدال” الذي خرج منه قاتل رابين يچئال أمير، على الشراكة مع العرب.

بهذه الطريقة أصبح الابتعاد عن العرب نزعة مفضّلة. في المقال الذي نُشر في “هآرتس”، أوجد رئيس “ميرتس” يوسي سريد المقولة: “ابحثوا عنّي”، لأنّ العرب خيّبوا أمله، وهو ناشط حقوق الإنسان الذي ناضل من أجلهم. ثمّ تبعه إيهود براك وأضاف عبارة “لا شريك” في أعقاب فشل المفاوضات مع عرفات في كامپ ديڤيد، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى أحداث أكتوبر 2000. تحوّل العرب إلى “كبش الفداء” على أثر جبن اليسار الذي لم يتجرّأ على الوقوف في وجه الفاشيّين.

منذ ذلك الحين أضاع اليسار طريقه. حمائم حزب “العمل”، بيرس ورامون وإيتسيك انضمّوا إلى أرئيل شارون، ومعًا نفّذوا الانفصال الأحاديّ الجانب من غزّة، الذي لم يحقّق سوى هيمنة “حماس” على قطاع غزّة وضعف السلطة الفلسطينيّة. بذلك أصبح اليسار أداة طيّعة في يد شارون، الذي أراد التخلّص من غزّة ليبسط سيطرته على الضفّة الغربيّة.

تحقّق الهدف، وتلاعبات حكومة أولمرت المتواصلة التي أجرت مفاوضات دون الالتزام بأيّة نتيجة، فتحت الباب على مصراعيه لعودة نتنياهو إلى ولايتين متتاليين في الحكم.

دعوة صحيفة “هآرتس” المواطنين العرب للخروج والتصويت جاءت متأخّرة. ففي هذه الأثناء نجح المستوطنون في السيطرة على الليكود وأخرجوا بيغن ومريدور وإيتان المعتدلين نسبيا من صفوفه؛ وتوحّد الليكود مع ليبرمان وكلاهما يحاولان تقويض السلطة الفلسطينيّة؛ و”شاس” أصبح حزبًا يقود حملة تحريض ضدّ المواطنين المتكلّمين بالروسيّة وضدّ اللاجئين الأفريقيّين. صحيح أنّ إقصاء المواطنين العرب يخدم اليمين ويفتّت اليسار، لكنّ امتناع حزب “العمل” عن مواجهة الاحتلال يترك الحلبة مفتوحة لمن يسعون إلى ضمّ الضفّة الغربيّة. اليسار بدون العرب هو يسار عاجز ومنقسم على نفسه.

ليس العرب هم المشكلة، وإنّما الفقر

ليس من السهل بتاتًا إعادة المواطنين العرب إلى العمليّة الديمقراطيّة. عمليًّا، التصدّع بين الأحزاب اليساريّة الصهيونيّة وبين الأحزاب العربيّة هو ليس لبّ المشكلة، وإنّما تكمن المشكلة في التغيّرات الاجتماعيّة الاقتصاديّة العميقة التي حدثت منذ مقتل رابين. علينا ألاّ ننسى أنّه في سنوات التسعين بدأت إسرائيل في عمليّة الخصخصة وإغلاق المصانع واستيراد العمّال الأجانب بدلاً من الفلسطينيّين. منذ ذلك الحين بدأت تتعمّق الفجوات الاجتماعيّة في إسرائيل وأصبحت الأعمق في العالم الغربيّ، وتمّ الزجّ بالمواطنين العرب في هامش المجتمع وأصبحوا فقراء ومستضعفين. يؤدّي الفقر إلى اليأس وإلى انعدام الثقة بإمكانيّة التغيير عن طريق اللعبة السياسيّة. انتقلت السلطة إلى الرأسماليّين، ولم تبقَ للعمّال وللفقراء أيّة فرصة للتأثير.

وضع المواطنين العرب لا يختلف كثيرًا عن وضع اليهود الفقراء. في المقال الذي نُشر في “چلوبس” في 14.1 قال آڤي تمكين إنّ الليكود فقد تأييد العمّال، الذين معظمهم من الطوائف اليهوديّة الشرقيّة. “من أجل إثبات هذه النزعة، يكفي التمعّن في نسب التصويت في الانتخابات السابقة، في سنة 2009، في البلدات التي من المفروض أن يأتي منها معظم مصوّتي الليكود: ديمونا- %48، كريات شمونه- %52، سدروت- %52، طبريّا- %50، بات يام- %50، كريات ملاخي- %57، مچدال هعيمق- %59، أشكلون- %56، بئر السبع- %53، صفد- %54. هذه البلدات هي التي ساهمت في تولّي الليكود الحكم سنة 1977، هذه هي البلدات التي صوّت معظم ناخبيها للّيكود. تجنّد سكّان هذه البلدات في سنوات الثمانين والتسعين من أجل حماية ودعم ما اعتقدوا آنذاك أنّها الحركة التي تمثّلهم وتمثّل مصالحهم.”

إنّ بناء يسار حقيقيّ يشكّل بديلاً لليمين وللمستوطنين لا يوجِب فقط دعوة العرب للخروج والتصويت، بل اليهود أيضًا. حوالي مليون عامل يهوديّ وعربيّ يتقاضون أجرًا أدنى يئسوا من التأثير عن طريق العمليّة الديمقراطيّة،  فتجاربهم علّمتهم أنّ مشغّليهم مدعومون من السلطة، وأنّ الروابط القائمة بين الهستدروت واتّحاد أرباب الصناعة والحكومة لا تترك لهم أملاً في التغيير. الأحزاب العربيّة، كالأحزاب الصهيونيّة اليمينيّة واليساريّة، تتجاهل العمّال الفقراء، ولذلك يمتنع هؤلاء العمّال عن التصويت.

لهذه الأسباب، حزب “دعم” هو الحزب الملائم في هذه الظروف. لسنا حزبًا يهوديًّا أو عربيًّا، ولا نمثّل قطاعًا معيّنًا بل نمثّل جميع العمّال. كلّ من ينظّم العمّال الذين يعملون عن طريق المقاولين وسائقي الشاحنات والمعلّمين والعاملين الاجتماعيّين الذين لا يكفيهم راتبهم، يعلم أنّ التقسيمات القديمة أكل عليها الدهر وشرب، وكذلك الثقة في الحكومة وفي الأحزاب القائمة. أجندة المنظومة السياسيّة والكنيست بعيدة كلّ البعد عن احتياجات العمّال الذين هم أساس المجتمع.

في هذه الانتخابات سنغيّر الوعي والخطاب ليس بين اليهود والعرب فقط، بل بين العمّال وبين أنفسهم. الوحدة بين جميع العمّال، من الطبقة الوسطى وحتّى العمّال الذين يتقاضون أجرًا أدنى، هي الضمان الوحيد للانتصار على الرأسماليّين الذي يمصّون دماءنا، وعلى اليمين الفاشيّ الذي ينذرنا بمستقبل من الحروب والاحتلال.

عن