مقال بقلم ياسين حاج صالح*
أصل القصة في سورية أن هناك نظاما لم يكف عن قتل محكوميه الثائرين منذ 30 شهرا. هنا البداية والأساس. الكلام على أن هناك حربا أهلية غامضة، يبدو أنها تنبع من طبيعة المنطقة أو تكوين سكانها، يجانب الصواب تماما. الطرف المنهمك في القتل هو النظام الذي يسيطر على الموارد العامة ويتحكم بالجيش والأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام العامة، والطرف الذي ثار ضده سلميا في البداية، ثم تحول إلى المقاومة المسلحة بعد شهور، هو جمهور واسع في عشرات البؤر داخل البلد. حين يقتل نظام حاكم محكوميه الثائرين ويقاومه هؤلاء بما استطاعو فهذا لا يسمى حربا أهلية غامضة، بل هو عدوان همجي واضح من الأقوياء الحاكمين على المحكومين الأضعف. خلال 900 يوم طويلة خبر السوريون عنفا غير مسبوق، قفز من قتل نحو عشرين منهم كل يوم في عام 2011، إلى ما يزيد على 100 يوميا في النصف الثاني من صيف 2012. اعتقل وتعرض لتعذيب بلا حدود ما يتعذر إحصاؤه من الناس، بينهم أطفال ونساء. وقتل تحت التعذيب 2830 حتى نهاية الشهر الماضي. وهُجِّر داخل البلد وخارجه ما يقارب ثلث السكان، فوق 7 مليون إنسان، في موجة هي الأكبر في تاريخ سورية. وقصف طيران النظام السكان المصطفين أمام أفران الخبز، وقصف ببراميل المتفجرات أحياء وبلدات مأهولة بالسكان، وبصواريخ سكود الروسية أحياء فقيرة مأهولة بدورها، وقتل بالسلاح الكيماوي الذي استخدم 31 مرة موثقة محليا (أقر الأميركيون بأنه استخدم 14 مرة، فقط!)، واغتصبت فتيات ونساء كثيرات في مقرات أجهزة أمنية متوحشة أو في بيوتهن على يد الشبيحة. اغتصب أطفال ورجال أيضا. هذه كلها وقائع موثقة جيدا من قبل منظمات دولية، هيومن رايتس ووتش بخاصة، ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. وتكلمت كلتاهما مرارا على جرام حرب وجرام بحق الإنسانية، وطلبتا رفع ملف النظام السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، لكن السور الروسي الصيني حال دوما دون ذلك. كانت روسيا والصين قد مارستا حق الفيتو ثلاث مرات لتعطيل قرار أممي يدين النظام السوري، ويطالبه بوقف العدوان على محكوميه. ويبدو أن “أصدقاء الشعب السوري” الكبار وجدوا في ذلك ما يعفيهم من أية مسؤولية. الشهور تمر، والنظام القاتل يزداد جرأة في القتل، ويدعو ضيوفا أجانب إلى مشاركته وليمة قتل محكوميه، ضيوفا إيرانيين ولبنانيين، وربما عراقيين ويمنيين، وروسيا توفر السلاح والفيتو. ترى لو حصل شيء كهذا طوال عامين ونصف في ولاية نيويورك، ماذا يحتمل أن يكون رد فعل نيويوركيين متروكين لمصيرهم بلا سند؟ في عام الثورة الأول طلب سوريون شكلا من الحماية الدولية أو فرض مناطق حظر طيران، أو ممرات إنسانية آمنة، ثم في وقت لاحق طلبوا دعما للجيش السوري الحر بأسلحة أكثر فاعلية. بلا نتيجة. بل لم يكد يمر شهر واحد دون أن يتبرع مسؤولون أميركيون أو في الناتو بالقول إنه لا خطط لديهم للتدخل في سورية. كان النظام ينتقل مترددا من مواجهة الثائرين عليه بالرصاص إلى المدافع والدبابات إلى الطائرات المروحية إلى الطيران النفاث إلى الصواريخ بعيدة المدى إلى السلاح الكيماوي، وهو يكتشف بفرح أن لازمة عدم التدخل الدولية تكرر نفسها دون تغيير.
هذا بينما تستمر القوى الغربية في حجب افتقارها إلى سياسة مؤثرة وراء الكلام على “حل سياسي”. لكن عدا عن أن السياسة انعكاس لميزان قوى فعلي لم تعمل هذه القوى، خلافا لروسيا وإيران وحلفاء النظام، على تعديله لإجبار النظام على التفاوض، فإن هذا لم يعرض قط استعدادا للتخلي عن الحل الحربي، أو التنازل حتى عن 2% من سلطته. سير الأحداث يظهر أن عدم فعل أي شيء كان فعلا سيئا جدا. ظهرت مجموعات جهادية بعد نحو 10 شهور من الثورة، وتوسعت مراتبها تدريجيا، وصارت اليوم عبئا على الثورة وعلى البلد، لكن ليس على النظام بحال. بالعكس، وفرت له هذه المجموعات قضية قابلة للبيع عالميا، وشدت من أزر قاعدته الاجتماعية. وفي الغرب أخذوا يردون الثورة إلى الجهاديين وحدهم، وبعد أن كانوا مترددين في مساندة السوريين دونما سبب، صاروا مترددين بسبب. ويبدو أنهم يتصورون أن هزيمة النظام نصر للجهاديين، لذلك يستحسن إبقاؤه متراسا في وجههم. لكن هذا طرح قصير النظر. في واقع الأمر لا يملك نظام بشار الأسد أي حل لمشكلة الجهاديين، وليس صحيحا الافتراض الكامن وراء السياسات الغربية بأن القليل من نظام الأسد يعني الكثير من الجهاديين، والعكس بالعكس. الأصح أن الكثير من نظام الأسد يعني الكثير من الجهاديين، وأن استمرار الصراع ودمار أوسع في البلد يشكل مفرخة لهم، وأن التخلص منه هو ما يوفر بيئة أنسب لمعالجة المشكلة الجهادية. تحتاج سورية إلى نواة شرعية للدولة تستطيع نزع الشرعية عن أية جماعات خاصة، ووضع سياسات ملائمة في مواجهتها، لا ترتد إلى المعالجة الأمنية. نظام بشار ليس نواة الدولة، ولا يحظى بشرعية وطنية عامة. نهايته وحدها يمكن أن تكون بداية نهاية العدمية الجهادية، وبداية خلاص سورية. العدالة والإنسانية يوجبان معاقبة نظام بشار على استخدام سلاح محرم دوليا، وعلى جرائمه كلها. وفي ظل تعطيل آلية الأمم المتحدة من قبل الروس والصينيين، يمكن لتحالف دولي وإقليمي أن يقوم بذلك. يجب ألا يفلت المجرم من العقاب. في الوقت نفسه لا يجوز لهذا التحالف أن يعاقب النظام على نحو لا يترك تأثيرا مهما، بل حاسما، على سير الأحداث في سورية. سيكون ذلك هدرا للجهد، ويعطي رسالة خاطئة للقاتل العام. نحن السوريين بشر من العالم، وعلى العالم أن يوقف قتلنا، الآن.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.