نشر في صحيفة “كل العرب” يوم الجمعة 13/7/2012
مظاهرة الكراهية والتحريض التي نظّمها جنود الاحتياط يوم السبت الأخير (7/7)، للمطالبة ب”المساواة في تحمل العبء” من خلال فرض الخدمة العسكرية او المدنية على “الجميع”، من متدينين يهود وعرب، سعّرت النقاش الحامي أصلا في الوسط العربي. ولكنها وربما لأول مرة كشفت عن عمق الأزمة الوجودية التي تواجهها اسرائيل.
المظاهرة نثرت الكثير من الضباب حول الهموم الحقيقية التي تشغل بال الحكومة. إسرائيل لا تريد تسليح العرب ولا حتى اليهود المتزمّتين. ليس عبء الخدمة العسكرية أو المدنية هو ما يشغلها، بل العبء الاقتصادي. وفي هذا الشأن لا مشكلة لإسرائيل مع العرب فهؤلاء يتوقون للعمل ولكن الدولة لأسباب عنصرية هي التي ترفض تشغيلهم في كل المجالات. مشكلة اسرائيل هي مع المتزّمتين اليهود الذين يقضون حياتهم كلها في تعلم التوراة، ولا يشاركون قيد أنملة في عملية الإنتاج، بل يشكّلون عبئا على ميزانية الدولة التي ترهق كاهل الطبقة الوسطى العليا التي تظاهرت يوم السبت.إسرائيل مقبلة على ازمة اقتصادية، متأثرة بالأزمة العالمية، وهي لن تسمح لنفسها بمواصلة تمويل الطفيليين على اقتصادها دون مقابل. من خلال لجنة “بلسنر” حاولت الحكومة التوصل الى صيغة توافقية تتيح إخراج المتدينين المتزمّتين من مدارسهم الدينية الى الخدمة العسكرية أولا، تمهيدا لإدماجهم في سوق العمل.غير ان بعض المحللين السياسيين مثل الوف بن، محرر صحيفة هآرتس، كشف الحقيقة وراء لجنة بلسنر والمظاهرة التي تشترط المساواة بالخدمة العسكرية او المدنية. أشار بن أن الخدمة المدنية ستخلق جيشا من العبيد الذين سيخدمون في المؤسسات المختلفة، ولن يتم تأهيلهم مهنيا وبالتالي لن يساهم هذا في إخراجهم من الفقر ولا في تحقيق المساواة. وعليه، اقترح على الحكومة الكف عن التحريض والتفكير الجاد في كيفية إدماج العرب والمتدينين في سوق العمل، إزالة العوائق، خلق فرص عمل، تحفيز وتربية الجمهور ضد العنصرية والآراء المسبقة.استحضرتني لدى قراءة هذا الموقف، محادثة عابرة كانت لي مع شابة متزوجة، في العشرين من عمرها، من احدى قرى الجليل، تؤدي الخدمة المدنية في نادٍ للمسنين، لقاء 800 شيكل شهريا، تدفعها الجمعية المسؤولة عن الخدمة المدنية (والمرتبطة بوزارة الأمن). ما الدافع؟ سألتها، فردّت بسذاجة لافتة أن احد رجال القرية يقوم بزيارات للبيوت ويقنع الفتيات بالمشاركة، وهي تجد الأمر مفيدا للمجتمع وان هناك حاجة لعملها. سألت، اذن هل سيستأجرونك للعمل لديهم بعد إنهاء الخدمة، فكان الجواب قاطعا – لا، لأنهم سيحصلون على فتيات أخر لأداء المهمة. هكذا تتضح الصورة تماما، الخدمة المدنية هي أعمال سخرة ستفرض على العرب العمل مجانا. هكذا، وبدل خلق فرص عمل جديدة، يتم القضاء على اماكن العمل القليلة القائمة من خلال تحويلها إلى مواقع للخدمة المدنية، أو العمل المجاني.حاول بلسنر ان يعالج المشكلة الاقتصادية من خلال إدماج المتدينين في الخدمة العسكرية او المدنية ومن ثم في سوق العمل، ولكن إقحام العرب في كل هذا الجدل اليهودي الداخلي، جاء لتحقيق النتيجة العكسية. الخدمة المدنية هي حجة تستخدمها الدولة لتبرر عدم قيامها بإدماج العرب في سوق العمل.ان مشكلة إسرائيل مع العرب هي مشكلة وجودية من نوع آخر، فمنذ انتفاضة عام 2000 تكونت هوة سحيقة بين الدولة والجماهير العربية، قضت على عقد كامل من الأوهام والأحلام بالسلام والمساواة التي خلقها اتفاق أوسلو، وتخلل هذه المدة تصويت أعمى وجارف لصالح مرشحي حزب العمل لرئاسة الحكومة، بيرس وباراك. وإسرائيل لا تدري ما هي فاعلة بهذه الهوة ولا تعرف إلى ردمها سبيلا.
الخدمة المدنية لا يمكن ان تكون منفذا لتحقيق المساواة، ولا هي حل واقعي بالنسبة للشباب العرب، وليس فقط للأسباب الوطنية السياسية الهامة. الشباب العربي لا يمكن ان يضيع عامين من عمره في خدمة مدنية مجانية، بينما هو مضطر ان يجاهد من أجل انتزاع لقمة العيش من أنياب المقاولين الاستغلاليين وشركات القوى البشرية والمصانع التي لا تدفع اكثر من الحد الأدنى للأجور، هذا إن وُجد العمل أصلا. نسبة كبيرة من العرب يعملون في فرع البناء الذي يعتبر الأخطر على الاطلاق، انهم يرون الموت يوميا، ويقتل منهم بين 15-20 عاملا سنويا. ان قضايا المعيشة، الفقر المدقع، الالتزامات المالية المتزايدة التي لا تجد معاشا يفي بها، هي الهموم الرئيسية التي تشغله.
الوضع الاقتصادي المتردي، الذي يقابله فراغ قيادي سياسي ودور قوي للحمائلية والعائلية والطائفية، له نتائج قاسية جدا تتجلى في تفكك النسيج الاجتماعي، تفشي ظاهرة العنف بكل أشكاله، حتى لم يعد يسلم من خطره بيت عربي في البلاد. هذه قضايا خطيرة ملتهبة ومتفجرة ولكن اسرائيل لا تريد حلها، بل ولا تستطيع حلها.
هذا ما كشفته مظاهرات الحراك الاحتجاجي الاجتماعي التي شهدناها صيف العام الماضي وتسعى للعودة مؤخرا للساحات. ان الجمهور اليهودي من الطبقة الوسطى بذاته بدأ يعاني من وطأة السياسة الاقتصادية الرأسمالية العنيفة، حتى لم يعد قادرا على شراء بيت او استئجاره، فما كان منه الا ان خرج للشوارع يطالب بالعدالة الاجتماعية.
يمكننا مواصلة انتقاد المظاهرات لاقتصارها على الطبقة الوسطى اليهودية وعدم طرحها موقفا من الاحتلال والعنصرية، وستكون هذه انتقادات صحيحة. ولكن اذا قارنّاها بمظاهرة التحريض التي نظمها جنود الاحتياط، نرى انها تخرج ضد المفاهيم التي تضع الأمن فوق العدالة الاجتماعية، ولذلك فهي ذات طابع تقدمي قياسا بما شهدته البلاد.
ما علينا ان نتعلمه من الشباب الاسرائيلي من جهة ومن الشباب العربي الذي يقدم دمًا لإحقاق حقوقه من جهة اخرى، هو اننا انتقلنا الى مرحلة تاريخية جديدة، تستدعي نفض مفاهيم الضحية و”المسكنة” والخروج إلى الشوارع للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. علينا ان نعيد الكرة إلى ملعب الحكومة، ونضعها امام واجباتها، الحكومة هي المطالَبة بأداء “الخدمة المدنية” تجاه مواطنيها، وهذا يشمل توفير فرص العمل التي تمكّن المجتمع من العيش بكرامة، إسعاف أجهزة التعليم والرفاه والمجالس المحلية ومعالجة ظاهرة العنف والقائمة تطول وتمتد.
النضال من اجل المساواة والسلام يجب ان يمر من بوابة النضال على قضايا المعيشة، والا سنقع في فخ الشعارات الجوفاء. النضال من اجل المعيشة سيبلور القدرات والطاقات للنضال من اجل المساواة والسلام، وإن لم نبدأه نكون حكمنا على أنفسنا بالبقاء خارج مسيرة التاريخ التي افتتحتها شعوبنا العربية.
في مجتمعنا العربي طاقات بشرية من مثقفين ومهنيون ومؤسسات مجتمع مدني تنشط في المجال الاجتماعي، هناك المعلمون والعاملون الاجتماعيون وغيرهم. اذا توحدت كل هذه القوى في حراك احتجاجي يطرح مطالب الوسط العربي، يمكن ان يجدوا آذانا صاغية لدى الرأي العام الإسرائيلي. الحراك الموجود في الشارع اليهودي هو فرصة ثمينة لتغيير النهج، السياسة والانغلاق الذي يقود إلى طريق مسدود.
إذا لم نخلق ربيعنا من تحت الأرض سنبقى فريسة لمبادرات حكومية مشبوهة تتلاعب بنا ولا تلقى منا سوى رد الفعل والبلبلة. علينا ان نأخذ زمام المبادرة، عندها فقط سنكون جديرين بمستوى معيشة لائق، بالمساواة وبالسلام العاد
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.