لم يحظَ الإستفتاء على استقلال كردستان العراق بدعم من أية دولة في العالم سوى دولة اسرائيل. كل من دول أمريكا وروسيا وإيران وتركيا عارضت وبشدة إجراء الإستفتاء وأعلنت الحرب عليه. ليس بالغريب أن تجد إسرائيل نفسها في عزلة دولية وأن تتحدى الإجماع الدولي، فهي ترفض ومنذ 50 عام كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وترفض من حيث المبدأ الإعتراف بحق تقرير المصير للفلسطينيين. فالحكومة الإسرائيلية لا ترى تناقضاً بين دعمها لحق الأكراد ورفضها للحق الفلسطيني. وحسب الرواية الإسرائيلية يعتبر الأكراد شعباً عريقاً يخوض نضاله من أجل الإستقلال منذ قرن من الزمن بينما الفلسطينيين ليسوا شعباً بالضبط وتعدادهم السكاني لا يبرر الإعتراف بحقهم في تقرير المصير وبدولة مستقلة.
وتختلف الآراء حول القضية الكردية بين إسرائيل وأمريكا، ففي الوقت الذي يراهن فيه البيت الأبيض على الحكومة العراقية لأجل الحفاظ على وحدة واستقرار العراق، بالنسبة لإسرائيل أصبح العراق محمية إيرانية، إذ أن الدعاية الأمريكية ضد إيران والتهديد بإلغاء الإتفاق النووي ليسا سوى غطاء للتعاون الوثيق بين البلدين في حربهما ضد داعش في العراق.
الإختلاف بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي حول الحرب الدائرة في سوريا واضح لدرجة أن الإسرائيليين يشعرون بأن أمريكا قد تركت سوريا وتنازلت عنها لصالح الروس، مما أدى إلى إختلال في موازين القوى في المنطقة ككل. وزير الدفاع الروسي سيزور الأسبوع القادم إسرائيل مما يشير إلى تنسيق إسرائيلي روسي حول تقسيم مناطق النفوذ في سوريا بعد مؤتمر آستانا الذي رسم الخطوط العريضة لتقسيم سوريا بين الدول النافذة- روسيا، تركيا وإيران.
على ضوء النفاق الدولي بكل ما يتعلق بالموقف من بشار الأسد والتجاهل المنظم لما قام به النظام السوري بمساعدة وغطاء روسي من مجازر بشعة ضد المواطنين العزّل تريد إسرائيل أن تُبرز أخلاقيّتها وموقفها المبدئي الداعم لشعب يعاني من القمع والتمييز منذ عقود. غير أن التصريحات الإسرائيلية الداعمة للمسألة الكردية وتحديداً دعمها لإقامة كيان كردي مستقل ليس موقفا أخلاقيا فحسب بل مصلحة إستراتيجية إسرائيلية. فلإسرائيل حساباتها الخاصة مع كل من إيران وتركيا، والأكراد يلعبون دوراً هاما في مواجهة بل وإضعاف النظامين التركي والإيراني على حدٍّ سواء. إن الموقف من إيران واضح منذ زمن وما يشغل بال الحكومة والجيش الإسرائيلي هو اقتراب إيران من الحدود مع إسرائيل في الجولان السوري المحتل، الأمر الذي يفتح احتمال لجبهة شرقية إضافة إلى الجبهة الشمالية مع حزب الله في لبنان.
أما فيما يتعلق بتركيا فيتبين بأن الحساب بين نتانياهو وبين أردوغان بقي مفتوحاً رغم المصالحة الدبلوماسية بين البلدين عام 2016 بعد انقطاع دام عدة سنوات على خلفية حادث سفينة “المرمرة”. إلا أن أردوغان تشبث في موقفه المتشدد والداعم للإخوان المسلمين وقد انحاز إلى قطر في الصراع الخليجي. وإذا كانت إيران تشكّل خطراً استراتيجيا بدعمها لحزب الله في الحدود الشمالية مع لبنان، فإن دعم تركيا لحماس في الحدود الجنوبية مع غزة يشكّل أيضا خطراً على الأمن الإسرائيلي.
ان موقف اردوغان من احداث الاقصى الاخيرة التي اندلعت بعد ان نصبت اسرائيل ابوابا ممغنطة في باحة الحرم الشريف، قد زاد الزيت على النار. وقد تستغل اسرائيل منظمة pkk الكردية كورقة ضغط على اردوغان حتى انه قد صرّح ضابط اسرائيلي مرموق بان اسرائيل لا تتعامل مع المنظمة المحظورة في تركية كمنظمة ارهابية ما دامت تركية تتعامل مع حماس ليس كتنظيم ارهابي وانما كمقاومة شريعة ضد الاحتلال.
ومع ذلك ورغم ما يتم إعلانه على الملء ضد إيران وتركيا إلا أن هذين النظامين لا يشكلان خطراً استراتيجياً على إسرائيل، فإسرائيل كانت وما زالت الحجة لا الهدف، والهدف الأساسي لكل من أردوغان وخامنئي هو ترسيخ نظاميهما وتصفية كل معارضة باتهامهما لكل من يطالب بالإصلاح والديمقراطية كتابع لإسرائيل وأمريكا وكعدو للمشروع الإسلامي. إن الحرس الثوري الإيراني لا يقاتل الجندي الإسرائيلي إنما يذبح الشعب السوري في حلب ويحتل الشعب العراقي في الموصل وبقية المدن السنية العراقية.
ومن هنا فإن الإستفتاء في إقليم كردستان له معنى أبعد بكثير وهو تفكيك العراق نهائيا على طريقة تفكيك سوريا، ومن ثّم إبقاء الشرق الأوسط برمته منقسماً وضعيفاً. وفي هذا المعنى فإن الإستفتاء الكردي هو دون شك ضربة قوية جدا لما تبقى من النضال الفلسطيني. إن الإنشقاق العربي قد أفاد إسرائيل كثيرا ولها مصلحة استراتيجية بإدامة هذا الإنشقاق ونشر مزيد من الفوضى على طول وعرض الشرق الاوسط.
لا شك أن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني يستغل الفوضى التي خلفها الربيع العربي ويجني ثمار الدمار الذي نشره داعش في كل من سوريا والعراق إذ أن سوريا قد اختفت عن الخريطة، والعراق ضعيف بحكم نظامه الطائفي والفاسد الذي لم يجد طريقة للتواصل مع المواطنين السنة ولم يفعل شيئاً من أجل القضاء على الفساد.
لا شك أن للسعودية وقطر وتركيا ضلع كبير جدا في نمو التنظيمات الجهادية، وأن لإيران دور أساسيّ في بث الحرب والدمار في المنطقة العربية، إلا أن إقامة دولة كردية في هذه الظروف، وإن عادت بالفائدة على الشعب الكردي في المدى القصير، سوف تتحول إلى كارثة على المدى البعيد. فأية دولة بإمكانها أن تتطور وتزدهر في محيط من الحروب الأهلية المستمرة؟ ما هو مستقبل الدولة الكردية في حال بقاء العراق محتلاَ من قِبل إيران ونظام الأسد مستمرّ في حربه على الشعب السوري بغطاءٍ روسيٍّ إيراني؟ إن مستقبل الشعب الكردي متعلّق بمستقبل الشعوب العربية ولا يمكن أن يُبنى على أطلالها.
أينعم حق تقرير المصير هو حق مقدس ولكن لا يمكن أن يتم على حساب شعب آخر وإسرائيل هي أفضل مثال على ذلك، فحق تقرير المصير للأكراد لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال حق تقرير المصير للشعب العراقي، والشعب السوري والشعب الإيراني وبقية الشعوب العربية. وكما شهدنا من خلال الربيع العربي فإن حق تقرير المصير للشعوب العربية كان شكلياً وعندما قامت الشعوب بثورة عارمة مطالبة بحق تقرير مصير حقيقي، بالحرية وبالعدالة الإجتماعية، تجمعت كل الدول الفاسدة التي تدعي الممانعة والدول التي تدعي الدمقراطية من أجل إفشال الثورة وإغراق الشعوب في بحر من الدم والدمار.
لا نعارض الإستفتاء في كردستان العراق بسبب معارضتنا الشديدة للحكومة الإسرائيلية كما لا ندعمه بسبب موقفنا المعارض لإدارة ترامب الأمريكية، وإنما من منطلق موقفنا الثوري والداعم لحق تقرير المصير للشعبين العراقي والسوري. إن هذا الإستفتاء يلعب لصالح إيران ولصالح النظام السوري أنصار الفكر الطائفي، مثلهم كمثل إسرائيل يستغلون الإنقسام والشرذمة من أجل بسط سطوتهم على شعوبهم.
يجب على حل القضية الكردية أن ينبع من الحل للقضية العراقية والسورية، وعلى الأكراد أن يؤسسوا حقهم في تقرير المصير على أساس دعم النظام الديموقراطي في كل من العراق وسوريا، فإنشاء دولة كردية دون الإهتمام بمصير ملايين السوريين والعراقيين المشردين والذين فقدوا كل حقوقهم القومية والمدنية لن يقود إلى كردستان ديمقراطي بل إلى دويلة فاسدة قبليّة خادمة لكل طاغية على استعداد أن يدعمها من منطلق مصالحه الضيقة وفي مقدمتها إسرائيل التي تحتفل بمرور 50 سنة على الإحتلال وتريد من العالم أن ينسى وجود شعب فلسطيني محتل ودون حقوق.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.