مع اقتراب الانتخابات العامة في إسرائيل، المقررة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لا يزال المشهد السياسي الإسرائيلي بعد أربع جولات انتخابية في أقل من ثلاث سنوات ونصف، يدور في فلك يعكسه الجدل الداخلي ما بين “نعم لنتنياهو أو لا لنتنياهو”.
نهج نتنياهو غني عن التعريف وهو الذي تولى منصب رئاسة الحكومة لمدة 15 سنة، 12 سنة كانت متواصلة، أسس خلالها لحكم الفرد مستأثراً بالسلطة بدعم من اليمين المتطرف وضخ الخطاب الشعبوي.
ولكن المهم هنا ما الذي يحمله معسكر “لا لبيبي”، لا سيما بعد مرور أكثر من سنة على إزاحته عن الكرسي من قبل تحالف هجين يطلق على نفسه اسم “حكومة التغيير”، ولكنه لا يحمل من اسمه شيء، لأن برنامجه الحكومي لم يختلف عن نهج نتنياهو، مع العلم أنها الحكومة الحالية جمعت في تشكيلتها طيفاً واسعاً من أقصى اليمين مروراً بالليبراليين وصولاً إلى اليسار الصهيوني، إضافة لتيار الإسلام السياسي.
حكومة “التغيير” لم تغير شيئاً
لم تحمل السنة الأخيرة أي جديد على المستوى السياسي، ولم تأت حكومة التغيير بالتغيير، وكان نهجها هو نهج نتنياهو ذاته، ولكن بأسلوب مختلف نوعاً ما، أقل شعوبيةً وأقل تحريضاً علماً بأن رئيسي الحكومة المتناوبين بينيت ولابيد لم يكونا من أصحاب السجلات القضائية أو تلاحقهم تهم الفساد مثل نتنياهو.
نهج نتنياهو مبني على سياسة اقتصادية نيو ليبرالية تفضل القطاع الخاص على القطاع العام، وسياسة خارجية مبنية على مواجهة إيران باعتبارها خطرًا وجوديًا لإسرائيل، ويتعاطى مع القضية الفلسطينية على أساس إلغاء الآخر والرفض المطلق لقيام الدولة الفلسطينية.
تاريخياً، كان المشهد السياسي الإسرائيلي ينقسم بين يمين ويسار على أساس الموقف السلبي أو الإيجابي من الدولة الفلسطينية، أما اليوم فالانقسام الجديد هو على أساس الموقف من شخصية “بيبي”، أي ما بين أنصار نتانياهو ومناهضه.
الموضوع الفلسطيني اختفى تماماً من النقاش السياسي العام في اسرائيل وذلك باتفاق كل الأطراف حيث أصبح الملف الفلسطيني من اختصاص وزارة الدفاع الإسرائيلية بإشراف وزير الدفاع الجنرال المتقاعد بيني غانتس. وتحولت القضية الفلسطينية من موضوع سياسي إلى موضوع أمنى تتم معالجته من منظور عسكري فقط، مما يعني أن السلطة الفلسطينية لم تعد تشكل شريكاً لأي حل سياسي مستقبلي، بل مجرد شريك في عملية الحفاظ على الأمن والاستقرار في الضفة الغربية لكي تبقى تحت السيطرة الفعلية الإسرائيلية.
السلطة الفلسطينية مجرد مقاول محلي
إن النتيجة المباشرة لهذا التطور الخطير يعني شطب أي دور سياسي للسلطة الفلسطينية، ما يعني نسفاً لمكانتها ودورها، باعتبارها قد فقدت وظيفتها الأساسية التي كانت في الأصل، عند نشوئها بعد اتفاق اوسلو، محطة مرحلية تمهد الطريق لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات السيادة.
ومع تراجع دور السلطة الفلسطينية السياسي تراجعت شعبيتها ومصداقيتها أيضاً أمام الجمهور الفلسطيني العام، الذي يرى في موظفي السلطة وقواتها الأمنية والشرطة وأصحاب المصالح المرتبطين بها عبء على كاهل الشعب، لا بل أنه وبقدر تراجع مصداقيتها (السلطة) وازدياد الاستياء من أدائها وأسلوبها تزداد أيضاً مظاهر القمع لكل صوت منتقد لأسلوبها حتى أصبحت أشبه بطغمة منبوذة ومنعزلة عن الشعب. وقد أدى هذا التطور إلى نوع من الانفلات الأمني في مناطق مختلفة من الضفة الغربية وخاصة في منطقتي جنين ونابلس.
وأمام هذا الواقع المعقد من الانفلات السلطوي النابع من عدم ثقة الفلسطينيين بسلطة رام الله توصلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى حل ذي حدين: التطبيع الاقتصادي من ناحية والضربات الأمنية من ناحية أخرى. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة كيف تطبق هذه النظرية بشكل متوازٍ؛ فمن ناحية يتم تسهيل دخول ما يزيد عن 200 ألف فلسطيني للعمل في إسرائيل؛ وفي الوقت نفسه تداهم القوات الإسرائيلية وبشكل يومي المخيمات والبلدات الفلسطينية بحثاً عن مسلحين بعد تصاعد العمليات الفلسطينية ضد الجيش والمستوطنين.
حماس وفتح يتعاونان مع “السلام الاقتصادي”
إن الحل الاقتصادي ليس إجراءً تعسفياً أو “أحادي الجانب” ينفذه الاحتلال رغم أنف السلطة الفلسطينية وحماس، بل بالعكس هذا الترتيب يجري بموافقة تامة من قبل سلطة أبو مازن في رام الله وسلطة حماس في غزة. فإدخال 15 ألف عامل من غزة للعمل في إسرائيل لا يمكن أن يكون مجرد قرار أحادي الجانب بعد أن أثبتت حماس على مدار سنوات طويلة بأن المعبر يخضع لسيطرتها المطلقة. أما بالنسبة لأبو مازن فلقاءاته الدورية والمتكررة مع بيني غانتس ومسؤولي المخابرات الإسرائيليين تدل على التنسيق الوثيق بينه وبين إسرائيل في كل صغيرة وكبيرة وفي كل ما يتعلق بسكان الضفة الغربية.
كانت المواجهة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في غزة على خلفية اعتقال أحد قادتها في جنين، بسام السعدي، أكبر برهان على ما وصلت إليه العلاقات بين أبو مازن وبين حماس مع إسرائيل. وقد استغلت إسرائيل عزلة تيار الجهاد التابع لإيران لتستفرد بمقاتلته وشنت عملية عسكرية أسفرت عن تصفية عدد من قيادات الحركة على مرأى ومسمع أبو مازن وحماس من دون أن تحرك رام الله وغزة ساكناً.
ما يمكن استنتاجه من المواجهة الأخيرة بين إسرائيل والجهاد الإسلامي من ناحية، وتطبيع العلاقات بين حماس وإسرائيل من الناحية الأخرى، هو أن مرحلة المقاومة المسلحة تصل رويداً رويداً إلى نهايتها، فالشعب في غزة تعب وأضنته الحروب وأصابه الجوع وفقد ثقته بقيادة حماس ولا يرى في الكفاح المسلح سوى أسلوباً لتبرير تمسك حماس بالسلطة.
نجحت إسرائيل على ما يبدو في تحييد حماس خلال التصعيد العسكري الأخير في القطاع، وكان عليها بعدما قدمت حماس تنازلها غير المعلن أن تعوضها وتكافئها، الأمر الذي تجلى بمنح أهالي غزة فرصة للعمل داخل الخط الأخضر، أي منحة اقتصادية تساعد في تحسين الظروف المعيشية لكافة سكان قطاع غزة، وبالتالي تثبيت حكم حماس على القطاع.
إن الرفاهية الاقتصادية أصبحت حافزاً للحفاظ على الاستقرار الأمني، بموجب المنطق الذي يقول بأن الإنسان لا يميل للمخاطرة بمصدر رزقه. فما نراه هو فقدان الثقة بقدرة حماس على إحداث تغيير حقيقي في الواقع، لا سيما بعد الفشل الذريع لاستراتيجية المقاومة المسلحة.
وقد وحّد “السلام الاقتصادي” كل الإقليم الجغرافي ما بين النهر والبحر في وحدة اقتصادية واحدة تحت سيادة إسرائيلية مطلقة. فإسرائيل تسيطر على كل المعابر التي تربط بين فلسطين والعالم والعملة المتداولة هي الشيكل الإسرائيلي والهويات تصدر بأمر من إسرائيل، والسياسة الضريبية تديرها إسرائيل، ومصدر الرزق لغالبية السكان هو إسرائيل، في حين كل ما تبقى من سلطة فلسطينية هو مثل ما وصفه ناشط فلسطيني معارض للسلطة بأنها “كيان إدارة شؤون مدنية غير مرغوب فيه”.
الدولة الواحدة تطبق على أرض الواقع
إن الإجراءات التي قامت بها السلطات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة شملت تخفيض سن المواطنين المسموح لهم بالحصول على تصاريح عمل الى 27 عام وزيادة عدد العمال المسموح دخولهم من الضفة الغربية وتوفير الفرصة للباحثين عن العمل للدخول خلال 60 يوم، بعد ان تم إلغاء رسوم النقابة للهستدروت قبل سنتين جاءت جميعها لتدل على أن المخطط الإسرائيلي يتقدم على قدم وساق ولم يبق من الدولة الفلسطينية سوى حكم ذاتي هزيل تحت إدارة سلطتين فاسدتين وقمعيتين في آن واحد، هما فتح وحماس. ويأتي القرار الاخير الخاص بإلزام الشركات الاسرائيلية بنقل المعاشات إلى حسابات العمال الخاصة في البنوك الفلسطينية كخطوة اضافية تهدف الى محاربة الإتجار بالتصاريح وتداول الاموال السوداء بين المقاولين الإسرائيليين وسماسرة التصاريح الفلسطينييين.
وكان فتح مطار “رامون” (وهو المطار المدني الثاني في إسرائيل القريب من مدينة إيلات جنوبي البلاد) أمام المسافرين الفلسطينيين بدل معبر اللنبي (الملك حسين) على نهر الأردن بمثابة دليل قاطع على التطبيع الاقتصادي. وقد قام الأردن بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية بحملة “تخوين” الفلسطينيين المسافرين من مطار “رامون” واتهامهم “بالتطبيع”، وعلى هذا يقال “شر البلية ما يضحك”. فمن يطبع مع إسرائيل هو الملك الأردني ذاته والمملكة تحظى بغطاء إسرائيلي كامل بينما أبو مازن “يقدس” التنسيق الأمني مع الاحتلال ويسمح لجنود الاحتلال باستباحة شتى المدن والبلدات التي تقع تحت سيطرة نظرية للسلطة الفلسطينية.
لذلك، فلا غرابة بأن يفضل المواطن الفلسطيني مطار رامون على الإهانات التي يتعرض لها في جسر اللنبي، وذلك مثلما يفضل مسؤولو السلطة السفر من مطار “بن غوريون” على الذهاب إلى الجسر لأنهم يحملون بطاقات “VIP” (الأشخاص المهمين) التي يمنحهم إياها الاحتلال.
ومع أن الجمهور الفلسطيني يتعاطى مع كل هذه التسهيلات الإسرائيلية لا لسبب ما سوى لأنه ليس أمامه بديل حقيقي، لا فرص عمل ولا فرصة سفر بكرامة إلى الخارج، وهذا لا يعني أن الفلسطينيين مستعدين لاستبدال حرياتهم القومية والمدنية مقابل تسهيلات اقتصادية. وقد يعترف الجمهور الفلسطيني بحقيقة الواقع وفقاً لقناعته بأن الأفق مسدود أمام احتمال قيام دولة فلسطينية مستقلة ويدرك بان حركتي فتح وحماس، تتعايشان مع هذه الحالة طالما أنها تضمن سلطتهما وامتيازاتهما.
ومن هنا لا بد من تشكيل تيار ديمقراطي يتماشى مع إرادة الشعب الذي يتجاوب مع “التطبيع الاقتصادي” ولكنه لا يقبل أن يرضخ في المقابل لسيطرة عسكرية. هذا التيار يجب ان يعتمد فكرة الدولة الواحدة الديمقراطية بدل تقسيم البلاد بين إسرائيل وفلسطين.
إذا أراد هذا التيار الديمقراطي الفلسطيني المعارض للسلطة والقريب من الجماهير أن يطرح برنامجاً سياسياً جديداً، ويتبنى الكفاح المدني كأسلوب واستراتيجية عليه الا يكتفي في تنظيم الجماهير الفلسطينية فعليه يتوجه ايضا إلى الجمهور الإسرائيلي وتحديدا هؤلاء الذين سئموا الاحتلال ولا يريدون العيش في نظام “أبرتهايد” يميني وفاشي، ويبني شراكة معهم كحركة مشتركة على أساس برنامج بسيط”One Person One Vote”، فيه حق التصويت للجميع في دولة واحدة مؤسسة على دستور واحد يؤخذ بالحسبان خصوصيات المجتمعين. ومن زاوية أخرى فإن البديل للدولة الواحدة هو حكم ذاتي هزيل وانفلات أمني وفوضى اجتماعية، وعلاوة على كل هذا فإن الحكم العسكري لا يعطي الحياة لأنه لا يعرف سوى لغة القوى والقمع.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.