الضفة الغربية المحتلة: انتفاضة بوقف التنفيذ

الإضراب عن الطعام الذي أعلنه الأسير الإداريّ سامر العيساوي يعتبر استثنائيًّا لأكثر من سبب، ليس من ناحية مدّته الطويلة التي امتدّت حتّى الآن لأكثر من 200 يوم وتهدّد صحّته وحياته، بل لكونه إجراءً احتجاجيًّا لا سابقة له. إنّ مسيرة الأسرى داخل سجون الاحتلال غنيّة بتجارب نضاليّة واحتجاجيّة راح ضحيّتها العديد من المناضلين، ولكنّها كانت تتميّز دائمًا بصفتين: الأولى أنّها كانت على أساس قرار جماعيّ والثانية من حيث هدفها وهو تحسين ظروف الاعتقال. أمّا هذه المرّة فيبرز الإضراب الطويل كقرار فرديّ هدفه إجبار الحكومة الإسرائيليّة على الإفراج الفوريّ عن الأسير من السجن.

ما يمنح هذا الإضراب البطوليّ طابعه الاستثنائيّ هو أنّ الأسرى الذين أضربوا في الماضي كانوا ينتمون إلى الفصائل الفلسطينيّة المحظورة، وكان يتمّ ذلك قبل اتّفاقيّات أوسلو تحت ملاحقة مستمرّة من قبل الاحتلال. أمّا اليوم فالأسير المضرب عن الطعام ينتمي إلى فصيل فلسطينيّ شرعيّ بل ويشارك في حكومة سلام فيّاض التي تقيم علاقات طبيعيّة مع الحكومة الإسرائيليّة وتتعاون معها في المجالات الأمنيّة والإداريّة والاقتصاديّة. بل وأكثر من ذلك، فقد تمّ الإفراج عن سامر العيساوي في صفقة الجنديّ شاليط التي تمّت بين إسرائيل وحماس بوساطة ورعاية مصريّة، الأمر الذي أدّى إلى توجيه انتقادات شديدة من قبل السلطة الفلسطينيّة إلى حماس التي لم تطلب الضمانات الكافية لمنع إعادة اعتقال من أُفرِج عنهم لأسباب تافهة كما حدث مع سامر العيساوي ورفاقه.

إلاّ أنّ الخلاف بين فتح وحماس لا ينتهي إلى هذا الحدّ، فكلّ من الطرفين في الضفّة الغربيّة وغزّة يستغلّ إضراب الأسرى لمصالحه الضيّقة، وبدل أن يوحّد هذا النضال فئات الشعب الفلسطيني من أجل الحرّيّة، أصبح موضع خلاف وصراع. إنّ حركة فتح وحماس موجودتان بلا شكّ أمام طريق مسدود بعد أن فقدتا مصداقيّتهما، وهذا ما دفع الحركتين إلى الاجتماع في القاهرة في محاولات متكرّرة لإنهاء الانقسام، والتي باءت جميعها بالفشل. وإذا دلّ الإضراب الطويل عن الطعام على شيء فإنّه يدلّ على أنّ الأسرى فقدوا الأمل بالإفراج عنهم سواء من خلال المفاوضات أو تبادل الأسرى، وهم يعبّرون بذلك ولو بشكل غير مباشر عن عدم ثقتهم في القيادة الفلسطينيّة.

في مقال نشر في الموقع الإلكترونيّ “الحياة” بقلم ماجد كيالي، يصف الكاتب بشكل دقيق هذا الطريق المسدود التي وصلت إليه القيادة الفلسطينيّة، ويشخّص بدقّة أصل المشكلة التي يعاني منها الشعب الفلسطينيّ، وهي عدم استعداد قيادته للاعتراف بغلطتها وتغيير سلوكها، وهو يقول:

“لكنّ اللافت أكثر في هذا الأمر أنّ قيادة حركة «فتح» (وهي قيادة المنظّمة والسلطة أيضًا) لا تقبل الحديث عن فشل مشروعها التفاوضيّ، ولا تبحث عن خيارات سياسيّة أو نضاليّة بديلة، وإن تحدّثت عن ذلك فمن قبيل الاستهلاك او الابتزاز، لا أكثر، كما ثبت في التجربة. والوضع ذاته ينطبق على حركة «حماس»، التي لا تقبل الإقرار بأنّ طريقها في العمل المسلّح، لا سيّما وفق نمط العمليّات التفجيريّة، لم يكن خيرًا بالنسبة إلى مصير العمل الوطنيّ، بدليل ما حصل، وأيضًا بدليل وقفها هي لعمليات المقاومة المسلّحة، تفجيريّة كانت أو عاديّة، في الضفّة أو في غزّة (إلى جانب وقف القصف الصاروخيّ). “

وقد قرّرت السلطة الفلسطينيّة بقيادة أبو مازن أن تختار الطريق “النضاليّ”، واعتلت موجة الاحتجاج ووقفت في صدارة المظاهرات، ولكن لم يمرّ وقت طويل حتّى ظهر السبب الحقيقيّ، وهو عدم السماح بخروج الأمور عن السيطرة بذريعة “عدم الانجرار وراء استفزازات الاحتلال”. وقد أدّت موجة الاحتجاج الحاليّة إلى التقديرات المألوفة في إسرائيل حول احتمال اندلاع انتفاضة “ثالثة”. ولكن وبعد أن حوّلت الحكومة الإسرائيلية 450 مليون شيكل إلى السلطة الفلسطينيّة وأمام المشاورات الجارية في القاهرة بخصوص مصير الأسرى، أصدر أبو مازن أوامره للشرطة الفلسطينيّة بأن تمنع الاحتكاك بين المتظاهرين الفلسطينيّين وجيش الاحتلال “حفاظًا على سلامة المواطن الفلسطينيّ”.

وفي الوقت الذي تنقل السلطة الفلسطينيّة تطميناتها إلى الجانب الإسرائيليّ، هناك من يدعو إلى انتفاضة ثالثة ولكن ليس في الضفّة الغربيّة فقط، بل وفي غزّة أيضًا. ففي مقال في الموقع الإلكتروني لصحيفة “الأيّام” الفتحاويّة من تاريخ 27/2 يقارن الكاتب رجب أبو سرية ما يحدث في فلسطين مع الثورات في مصر وتونس تحت حكم الإخوان المسلمين قائلاً:

“هذه هي العقدة التي تواجه الفلسطينيّين والمصريّين والتوانسة الآن، بعد أن تسلّم مقاليد الحكم في غزّة ومصر وتونس تنظيمات إخوانيّة، لذا فإنّ مصر لن تهدأ وستستمرّ الثورة فيها، كذلك تونس، فيما الفلسطينيّون الآن على أبواب انتفاضة، هي الثالثة بالطبع،  وكأنّ _ كما أشارت بعض وسائل الإعلام _ أنّ الفلسطينيين على موعد كلّ 13 سنة مع انتفاضة جديدة، لا بدّ لهم أن يطلقوا الآن انتفاضة مختلفة قليلاً عن الانتفاضتين السابقتين، ليس وفق مواصفات بعض القادة الذين يرون فيها مجرّد أداة ضغط، لتحسين شروط التفاوض، ولكن وبالنظر إلى أنّ الانتفاضة الأولى كانت شعبيّة تمامًا، والثانية كانت مسلّحة، فإنّ هذه قد تكون شعبيّة وسلميّة أو تجمع الأشكال كلّها، ولكنّ المهم وما نتوقّعه نحن هو أنّها لن تقتصر على الضفّة الغربيّة فقط، بل ستشمل غزّة والشتات أيضًا”.

ما يطلبه الكاتب هنا هو “إسقاط النظام” كما تطلب اليوم الحركة الثوريّة في كلّ من مصر وتونس، غير أنّه من جانب آخر وتحديدًا من غزّة، يدعو رئيس المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ أحمد بحر إلى انتفاضة ثالثة، ولكن ضدّ أبو مازن والسلطة الفلسطينيّة. وفي الوقت الذي تدعو فيه إسرائيل إلى وقف الاعتقالات، تقوم السلطة الفلسطينيّة باعتقال ستّة من عناصر حماس اعترفوا حسب أقوال المتحدّث باسم الشرطة الفلسطينيّة عدنان ضميري: “بأنّهم كانوا يخطّطون لتحويل الأحداث إلى مواجهات عنيفة. وأردف قائلاً إنّ حماس تحافظ على الهدنة مع إسرائيل في غزّة لكنّها تسعى إلى جرّ الضفّة الغربيّة إلى مواجهة عنيفة بهدف المسّ بالسلطة”. (الحياة 27/2)

إنّ الاتّهامات المتبادلة بين حماس وفتح تدلّ على الارتباك وفقدان الطريق والبرنامج والقيادة التي من الممكن أن تقود الشعب الفلسطينيّ في سعيه إلى إنهاء الاحتلال. كلّ ما تريده حماس هو إحكام قبضتها على غزّة مثلها مثل الإخوان المسلمين في مصر وتونس معتمدةً على الهبات الماليّة من قطر. أمّا فتح فتريد أن تستمرّ في بسط هيمنتها على الضفّة الغربيّة معتمدةً على المنح الأمريكيّة والسعوديّة والأوروبيّة والإسرائيليّة، والشعب الفلسطيني يراوح بين فكّي الكمّاشة.

الحقيقة هي أنّه في مصر وتونس وسورية وسائر الدول العربية، قامت عناصر من الشباب الثوريّ وأحدثت أكبر ثورة في تاريخ العالم العربيّ وأطاحت بالأنظمة الاستبداديّة ، وما زالت ماضية بعد عامين في نضالها البطوليّ من أجل إحقاق الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. الانتفاضة الفلسطينيّة الثالثة ستحدث لا محالة، ربّما إضراب الأسرى عن الطعام في سجون الاحتلال هو علامة من علامات هذه الانتفاضة، ولكن كي تنجح في تعبئة الشعب الفلسطينيّ برمّته لا بدّ من ظهور قيادة شابّة ثوريّة جديدة تستبدل القيادات الحالية المسؤولة عن الانقسام الداخليّ والتبعيّة للأنظمة الفاسدة. آن الأوان لاستعادة القرار الفلسطينيّ المستقلّ، وأن تحذو فلسطين حذو الدول العربيّة التي استردّت حقّها في تقرير المصير.

عن