بدنا نتنفس – يجب إلغاء نظام التصاريح الظالم المفروض على العمال الفلسطينيين

عندما ظهرت خلال السنة الماضية حركة السكان السود في أمريكا تحت الشعار “بدنا نتنفس” كان ذلك مثابة الراية لنضالنا هنا من اجل حقوق العمال عامة وحقوق العمال الفلسطينيين على وجه الخصوص. 150 الف عامل فلسطيني من سكان الضفة الغربية يدخلون يوميًا عبر الحواجز الظالمة الى سوق العمل الإسرائيلي ويتعرضون لابشع أنواع الاستغلال والتمييز ومعركتهم من اجل الحرية والمساواة يمكنها ان ترى في نضال السود في أمريكا رمزًا.

وكان لحركة “حياة السود لها قيمة”، (Black Lives Matter) التي برزت بعد مقتل  جورج فلويد على يد أحد رجال الشرطة، دورًا بارزًا في ترجيح كفة الانتخابات لصالح جو بايدن وضمان فوزه التاريخي على دونالد ترامب.

منذ تولي الرئيس الأمريكي الجديد مقاليد السلطة في كانون الثاني/يناير 2021، بادرت إدارته في سن سلسلة من القوانين والمشاريع الضخمة شملت إصلاحات اقتصادية واجتماعية لا مثيل لها منذ مشروع الصفقة الجديدة (نيو ديل) في عهد الرئيس روزفلت في ثلاثينات القرن الماضي. كما تبنت إدارة بايدن سياسات داخلية وخارجية تولي أهمية لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وخصصت في الأيام الأخيرة طاقم خاص لتطوير برامج تهدف إلى تشجيع التنظيم النقابي.

التطورات في أمريكا ومعركتنا هنا

هذه المبادرات الرائدة التي يقودها الرئيس بايدن لها صلة مباشرة بمعركتنا هنا من أجل حقوق العمال وحقوق الإنسان. ففي إطار عمل نقابة معاً نبذل جهود كبيرة في سبيل موضوع حقوق العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل. منذ عقدين وأكثر من الزمن تعمل النقابة من أجل حقوقهم، وذلك انطلاقاً من فرضية أنه لا يمكن بناء نقابة عمالية حقيقية وديمقراطية في إسرائيل من دون أن تأخذ هذه النقابة على عاتقها مهمة الدفاع وتنظيم العمال الفلسطينيين.

وخلال اكثر من عقد من العمل انضم الى صفوف نقابة معاً مئات العمال في المصانع والشركات في المستوطنات وفي داخل الخط الأخضر واصبح هؤلاء العمال أعضاء متساوون بالحقوق في النقابة، كما تمكنت النقابة من التوقيع على ثلاث اتفاقيات جماعية مع شركات تشغل العمال الفلسطينيين.

نظام التصاريح يعرقل التنظيم النقابي    

في سياق عمل النقابة ورغم من بعض المكاسب الهامة التي أنجزتها النقابة، نواجه مرة تلو الأخرى الظروف المعقدة والصعبة التي يعاني منها العامل الفلسطيني في الشركات الإسرائيلية. ويمثل نظام التصاريح إضافة لوجود الحواجز العبء الأكبر الذي يحمله العامل في طريقه للعمل وأثناء عمله. هذا النظام البيروقراطي والظالم الذي تنظم بموجبه السلطات الإسرائيلية آليات تشغيل العمال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلي يمنع حرية الحركة لهؤلاء العمال وبالتالي يمنعهم من المطالبة بحقوقهم وممارسة حقهم بالتنظيم النقابي الحر.

وإذا نظرنا إلى العمل النقابي في الولايات المتحدة نجد عوائق كثيرة حيث يسمح القانون لأصحاب العمل بممارسة الضغوط والتهديد على العمال لكي يتراجعوا عن التنظيم النقابي. إلا أن ما نراه هنا بالنسبة للعمال الفلسطينيين هو أكثر صعوبة وأكثر تعقيدا، رغم عن ان قوانين التنظيم النقابي في إسرائيل تسهل كثير موضوع  التنظيم النقابي. طالما يبقى العامل الفلسطيني الذي يريد الدخول إلى للعمل في إسرائيل تحت رحمة منح التصريح من قبل رب العمل الأمر الذي يقيّد حريته بالتنقل الحر واختيار مكان عمله من جراء ذلك يفقد العامل الشعور بالأمان ويخفف حماسه لكي يبادر إلى التنظيم النقابي.

هناك ما يقارب 150 ألف عامل فلسطيني من سكان الضفة الغربية يعملون حاليا في إسرائيل والمستوطنات وهؤلاء يمرون يومياً إلى الطرف الآخر من جدار الفصل لكسب رزقهم. ويتوجه هؤلاء العمال الذين يشتغلون في ورشات البناء والزراعة والمصانع داخل إسرائيل وفي المستوطنات، يومياً في ساعات الصباح المبكرة إلى الحواجز وينتظرون هناك ساعات طويلة في الطوابير المزدحمة وفي أجواء من القلق ويتعرضون بشكل متكرر لإهانات الجنود والحراس وأحياناً يضطرون للسفر مسافات طويلة إلى مكان العمل والعودة إلى بيوتهم في المساء.

إلى جانب هذه المعاناة اليومية، تضاف مشكلة “سماسرة التصاريح” التي تورق كاهل عشرات الآلاف من العمال، حيث يعمل السماسرة على اصطياد العمال الباحثين عمن يبيعهم “التصاريح” ولو بآلاف الشواكل شهريا[i]. كما يتعرض العمال بين الحين والأخر إلى أوامر المنع التعسفية التي تؤدي إلى حرمانهم من الذهاب إلى العمل وبالتالي من مصدر رزقهم من دون سبب واضح ومن دون عنوان واضح أو هيئة معنية لتقديم الاعتراض لديها.

وفي ظل هذه الظروف تتضح بشكل أكبر الصعوبات الكبرى التي تقف بوجه عملية تنظيم العمال نقابياً وضمان حقوقهم. وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع معدلات البطالة وتدني الأجور في مناطق السلطة الفلسطينية (الحد الأدنى للأجور في إسرائيل والمستوطنات هو 5300 شيكل شهريا بينما في مناطق السلطة 1450 شيكل بالشهر فقط) أمرٌ يخلق منافسة غير مضبوطة على فرص العمل داخل إسرائيل ما يجعل العمال يعيشون في حالة من الخوف الدائم من فقدان مصدر رزقهم والهبوط إلى تحت الصفر، إذ أن العمال الفلسطينيين لا يحصلون على أي نوع من التأمين الاجتماعي أو التقاعدي في سن الشيخوخة أو في حالات المرض أو العجز.

الأمن ذريعة لفرض السيطرة  

المبرر الرسمي لنظام التصاريح ووجود الحواجز هو الحفاظ على الأمن العام في إسرائيل مما يقتضي حسب الرواية الرسمية فرض السيطرة المُحكمة على العمال وحرمانهم من حقهم الطبيعي في التنقل الحر واختيار مصدر رزقهم أو من تطوير علاقات تجارية أو اجتماعية مع من يشاؤون.

في الواقع هناك ادعاء زائف ومبالغ فيه في التذرع بحجة الحفاظ على الأمن. والادعاء بأن العمال الفلسطينيون يشكلون خطراً على الأمن العام ليس له أساس لا من قريب ولا من بعيد، كما أنه وبعد 50 عام على قرار الحكومة الإسرائيلية في عام 1970 الذي شرع تشغيل العمالة الفلسطينية من الضفة والقطاع في إسرائيل بات واضحاً بأن نظام التصاريح المعمول به حالياً ليس أكثر من أسلوب مباشر يهدف إلى السيطرة والقمع الممنهج.

وقد جاء إعلان السلطات الإسرائيلية في شهر كانون الأول/ديسمبر 2020 عن إجراء الاصلاح الشامل في نظام التصاريح لعمال البناء الفلسطينيين بمثابة الاعتراف الرسمي بالمشكلة وبفشل النظام القديم. وراحت إسرائيل تباشر في اتخاذ إجراءات القصد منها تسهيل وسائل التشغيل للعمال بعد أن اكتشفت أن النظام القديم الذي كان مبنياً على التعاقد المباشر بين صاحب العمل الإسرائيلي والعامل الفلسطيني تم تفريغه من مضمونه، أي أنه اغلبية العمال يعملون لدى أصحاب عمل موسميين وغير رسميين بما يعني ان مبرر الرقابة المباشرة من طرف صاحب العمل للعامل تم تفريغه من مضمونه. وفي لغة الأرقام إذا كان هناك 40 أو 50 ألف عامل من الذين يدخلون يومياً إلى إسرائيل عبر الفجوات في الجدار من دون تصريح إضافة إلى نحو 30 ألف عامل من الذين يعملون بتصاريح اشتروها من السماسرة أي أننا أمام نتيجة هي بأن أغلب العمال الفلسطينيين ليس لهم صاحب عمل مباشر مسؤول عنهم يمكنه اخبار السلطات عن وجودهم في مكان العمل.

كما يجب أن نضيف أن المبالغ الخيالية التي يجنيها سماسرة بيع التصاريح -سواء كانوا إسرائيليين أو فلسطينيين- من العمال (وبحسب تقديرات الباحثين في بنك إسرائيل المبلغ الذي دفعه العمال خلال عام 2019 مقابل التصاريح كان 480 مليون  شيكل) تسحب البساط من تحت أقدام سياسة التشغيل الإسرائيلية للعمال الفلسطينيين التي وضعت منذ البداية ليس حباً بالعمال، بل بسبب الاعتقاد بأن أجور هؤلاء العمال من شأنها أن تخفف من معاناتهم وبالتالي منع تدهور شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني إلى الفقر واليأس.

هناك اجماع بين الباحثين المختصين في وضع العلاقة بين إسرائيل والسكان وخاصة بما يخص العمال، بأن نظام التصاريح ليس له علاقة بمسألة الأمن العام وإنما هدفه الأساس فرض السيطرة وتسيير السكان المحليين حسب إرادة وحاجات السلطات المحتلة. وتشرح الدكتورة ياعيل بردة، في كتاب نشرته باللغة الإنجليزية حول نظام التصاريح[ii]، بأن نظام التصاريح والحواجز هو وسيلة معروفة يتبعها أي نظام استعماري يسعى إلى فرض سيطرته وحكمه على المواطنين الذين يعيشون تحت سيطرته. وتشير الباحثة في كتابها إلى التساهل المكشوف من قبل السلطات مع سماسرة التصاريح رغم أن نشاطهم ليس مخالف القانون فحسب، وإنما يساعد العمال على التهرب من السيطرة المباشرة لأرباب العمل أيضاً. وتسأل الباحثة، إذا كانت هذه الظاهرة تتعارض مع القانون وتسمح بدخول عشرات آلاف الأشخاص إلى إسرائيل بتصاريح غير صحيحة، كيف يمكن تفسير امتناع السلطات القضائية الإسرائيلية عن ملاحقة السماسرة وسجنهم؟

في مداخلته في ندوة جمعية”عنوان للعامل” (كاف لعوفيد) في 31/3 عن الإصلاح في نظام التصاريح أشار الباحث وليد حباس من القدس الى انه حسب النظام الجديد شتتعزز سيطرة الإدارة المدنية الاسرائيلية (وهي في الواقع سلطة الاحتلال) على العمال وارتباطهم المطلق بها.   

ضرورة تغيير المعادلة رأساً على عقب

كشفت أزمة وباء كورونا بشكل لا يقبل التأويل مدى التعامل الفظ من قبل السلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين واستهتارها بحقوق الإنسان الأساسية للسكان. وفي حين وصلت نسبة الأشخاص الذين حصلوا على تطعيم ضد وباء كورونا في المجتمع الإسرائيلي إلى أكثر من 60% ما أدى إلى انخفاض عدد المصابين بالوباء إلى بضعة مئات، نرى في مناطق الضفة الغربية وغزة انتشاراً خطيراً للفيروس في ظل غياب شبه كامل لأجهزة طبية أو للتطعيمات (نسبة الحاصلين على التطعيم في منطقة السلطة الفلسطينية هي 3.3% فقط)[iii].

رغم ذلك ترفض السلطات الإسرائيلية توفير التطعيمات الموجودة بحوزتها للسلطة الفلسطينية من دون سبب مقنع وواضح، وذلك في وقت يحذر به الخبراء بأن عدم تقديم المساعدة للفلسطينيين قد تكون نتيجته نمو طفرة خطيرة جديدة للوباء لن يقتصر خطرها على أهالي الضفة أو القطاع وإنما على الإسرائيليين أيضاً.

ومع وجود هذه المعادلة غير المتساوية بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين، وحالة الخضوع التام للسكان والعمال الفلسطينيين لقرارات السلطات الإسرائيلية، لا بد من الادراك بأننا أمام عنكبوت متعدد الأذرع لا يمكن محاربته بواسطة إصلاح جزئي أو عبر إجراء تغيير طفيف لبعض ملامحه[iv]

اننا نرفع اليوم راية المعركة ضد نظام التصاريح الظالم مستلهمون بذلك بالإصلاحات الجذرية التي تبنتها الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، وسيما دعمها لمطالب العمال والسكان السود وتركيزها على بناء اقتصاد اخضر للجميع ونرى بذلك رافعة لحملاتنا في المعركة ضد نظام الفصل العنصري ومن أجل حقوق العمال الفلسطينيين.


[i] تقرير قسم الأبحاث في بنك إسرائيل من عام 2019 يشير الى حجم الظاهرة الكبير والخطير https://www.boi.org.il/en/NewsAndPublications/PressReleases/Pages/25-9-2019.aspx

[ii] كتاب الباحثة الإسرائيلية المحامية د. ياعيل بردة الذي صدر عام 2018 يعتبر مرجعية هامة لفهم طبيعة نظام التصاريح   Yael Berda‘s Living Emergency: Israel’s Permit Regime in the Occupied West Bank

https://www.sup.org/books/title/?id=25698

[iii] انظروا الى مقال روني ليندر “دي مركر” 27/4 (المقال في اللغة العبرية)

[iv] نلفت النظر هنا الى تقرير هيومان رايتس ووتش الدولية (Human Rights Watch) في نيسان/أبريل الجاري الذي وصل النظام الإسرائيلي المسيطر على الفلسطينيين بانه نظام الابارتهايد https://www.hrw.org/news/2021/04/27/abusive-israeli-policies-constitute-crimes-apartheid-persecution

عن اساف اديب