تحول تنظيم “عرين الأسود” في نابلس بين ليلة وضحاها إلى “مغنطيس” يجذب الشعب الفلسطيني الذي فقد الأمل بإمكانية التخلص من الاحتلال الإسرائيلي نتيجة فقدان ثقته بالسلطة والفصائل الفلسطينية الغارقة بالفساد والشلل السياسي.
وقد تبنت السلطة وكل الفصائل الفلسطينية العمليات المسلحة التي قامت بها هذه المجموعة ضد الجيش الإسرائيلي في محاولة من السلطة لإستعادة شعبيتها وتحسين صورتها وسمعتها المتردية كأجير للاحتلال. ووصلت السلطة الفلسطينية وسلطة حماس بغزة إلى طريق مسدود، فلا حل سياسي في الأفق، لا عن طريق المفاوضات ولا عبر النضال المسلح، ومن هنا يفهم الكل بأن ظاهرة “عرين الأسود” ستنتهي مثلما انتهت كل المحاولات السابقة نظراً للمخاطرة التي يجازف بها .شبان نابلس باستخدام النشاط المسلح أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تتمتع بقدرات تكنولوجيا كبيرة وتستخدم قوتها وتفوقها العسكري لفرض الاحتلال.
وتعكس ظاهرة “عرين الأسود” الواقع السياسي المخيب للآمال فلسطينياً، من جهة فأن القضية الفلسطينية غائبة عن النقاش السياسي في إسرائيل لدرجة أنه خلال الدورات الانتخابية الخمسة التي جرت خلال أقل من أربع سنوات، لم يتم التطرق إلى القضية الفلسطينية التي تعتبر مشكلة هامشية لاسيما بعد التوقيع على اتفاقيات التطبيع مع دول الخليج والمغرب. ومن جهة أخرى فإن إدارة الرئيس جو بايدن تقف إلى جانب إسرائيل وحتى عندما التزمت بحل الدولتين إلا أنها لم تقم بأي خطوة عملية بهذا الشأن.
أبو مازن ينحاز إلى معسكر بوتين وترامب
أمام هذا الواقع، قرر أبو مازن ومعه الفصائل الفلسطينية كلها من دون استثناء تغيير علاقته تجاه الولايات المتحدة واسرائيل، فهو يحتضن بيده الأولى “عرين الأسود” تعبيرا عن استيائه من إسرائيل وفي يده الأخرى يحتضن روسيا المنهمكة بحرب مصيرية ضد جارتها أوكرانيا ومن خلفها واشنطن وحلف الناتو.
مؤخراً، التقى محمود عباس ببوتين في أستانا عاصمة كازاخستان وصرح “إنّه لم يعد لديه ثقة في واشنطن كوسيط للسلام في الشرق الأوسط”. وقد جاء هذا اللقاء تماشياً مع الرؤية والطموح الفلسطيني في أن الحرب في أوكرانيا قد تخلط الأوراق في حال نجح بوتين في تحقيق تطلعاته لإعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية.
كما أن هناك وهمٌ فلسطيني نابع من الحنين إلى الحقبة السوفياتية والحلم بالعودة إلى فترة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وأيام الحرب الباردة التي منحت لمنظمة التحرير الفلسطينية حيزاً كبيراً للمناورة بين القطبين. ولكن هذا المخطط الإمبريالي الروسي قد اصطدم مع الواقع عندما فشل الجيش الروسي في احتلال العاصمة الأوكرانية كييف وإسقاط حكومة زيلينسكي. هذا وقد تزامن لقاء أبو مازن مع بوتين في الوقت الذي مني الجيش الروسي بهزيمة نكراء في شرق أوكرانيا وجنوبها وأصبح بوتين شخصية منبوذة على النطاق العالمي.
والمفارقة، هي أن الصداقة مع بوتين تجمع أيضاً بيبي نتنياهو الذي عمل بوتين كل ما بوسعه لإنجاحه في الانتخابات في إسرائيل في الدورات السابقة، مثلما فعل مع دونالد ترامب الذي طلب مساعدته للفوز على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
بدوره، رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد زار موسكو وانضم إلى القافلة وكذلك فعل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي تحالف مع بوتين في القرار القاضي بتقليص كمية إنتاج النفط، الأمر الذي يعتبر صفعة مباشرة لبايدن قبل الانتخابات النصفية الشهر المقبل.
ما يميز هذه التيار وما يوحدها هو العداوة تجاه بايدن والصداقة الحميمة مع ترامب. وما يثير الاستغراب هو أن أبا مازن نفسه ينضم إلى معسكر ترامب الذي عمل جاهدا على تهميش القضية الفلسطينية من خلال اتفاقيات إبراهيم ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
“عدو عدوي صديقي”: منطق أعوج
إن التبرير الفلسطيني الرائج هو أن العالم يتضامن مع أوكرانيا ضد الاحتلال الروسي وفي نفس الوقت يتجاهل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ونكاية في ازدواجية المجتمع الدولي ونفاقه يجب على الفلسطينيين الوقوف مع روسيا. إن هذا الموقف الغريب يسحب البساط من تحت أقدام الفلسطينيين ويضر في قضيتهم، لاسيما وأن الفلسطينيين يستمدون قوتهم من الشرعية الدولية للنضال من أجل حقوقهم، إلا أن الشريعة الدولية لا تعترف، بل وتدين ضم روسيا للمحافظات الأربع في شرق أوكرانيا وجنوبها، وقد صوّتت 143 دولة ضد روسيا في الأمم المتحدة باستثناء دول مثل سوريا وإيران وفنزويلا ونيكاراغوا وكوريا الشمالية، ومن هنا يجب طرح السؤال هل تريد فلسطين الانضمام إلى هذه القائمة المنبوذة؟ على ضوء ذلك يجب أن نرى زيارة وفد حماس إلى دمشق والمصالحة مع بشار الأسد كإعلان واضح لانحياز الحركة إلى محور الممانعة الإيراني المتحالف مع بوتين.
ويبرر داعمو بوتين ومؤيديه غزوه لأوكرانيا أن من بادر بالحرب هو حلف الناتو بينما بوتين كل ما فعله كان استباق للأحداث عبر شن عملية عسكرية، ولكن سلوك بوتين مع جيرانه في تجارب عسكرية سابقة تدحض ادعاء هؤلاء وقولهم بأن أهداف غزو أوكرانيا كانت دفاعية.
وينسى هؤلاء ما حدث في جورجيا في سنة 2008 عندما احتل الجيش الروسي أبخازيا وأوسيتيا واعترفت روسيا باستقلالهما عن جورجيا، ومن ثمة عندما ضمت نصف جزيرة القرم سنة 2014 وغزت منطقة دونباس شرقي أوكرانيا. وقد وصلت الأمور ذروتها عندما تدخل بوتين في سوريا سنة 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد وساهم في تدمير سوريا وتهجير سكانها وقتل 500 ألف مواطن سوري بما يعرف كأبشع جريمة ضد الإنسانية في القرن الـ 21، كل هذا كان تحت سمع العالم وبصره، ومع ذلك تعامل العالم مع بوتين كحبيب الغرب إذ أصبحت أوروبا وخاصة ألمانيا مدمنة للغاز والنفط الروسي الرخيص. فما يحدث في أوكرانيا لم يكن إلا امتداداً للمذبحة السورية.
الرئيس بايدن يغير وجه أمريكا
إن الحرب في أوكرانيا ليس امتداداً للكارثة السورية فحسب، وإنما امتداد للصراع الداخلي في الولايات المتحدة بين المعسكر الديمقراطي بقيادة جو بايدن وبين المعسكر الفاشي العنصري بقيادة دونالد ترامب. وإن التدخل الروسي في السياسة الداخلية الأمريكية ودعم بوتين لترامب وضع النظام الديمقراطي في أمريكا ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الأمريكية قبل 240 سنة في خطر وجودي مما دفع بإدارة بايدن إلى إعادة كل حساباتها وقررت الوقوف بوجه بوتين وعنجهيته بالمرصاد.
أخطأ بوتين مثله مثل عديد من السياسيين في العالم وبينهم القيادة الإسرائيلية باعتقادها بعدم جدية بايدن وأنه سيتصرف مثل أوباما الذي ترك لبوتين حرية التصرف الأمر الذي سهل الطريق أمام صعود ترامب. ومن هنا ليس مستقبل أوكرانيا وأوروبا كلها في خطر بل أمريكا نفسها تشعر أنها مهددة من قبل التيار الفاشي العنصري الذي نمى في داخل الولايات المتحدة خلال فترة ولاية ترامب.
إن اختيار القيادة الفلسطينية بمكوناتها المختلفة، فتح وحماس، الانضمام إلى معسكر بوتين الاستبدادي الفاشي يعني ربط القضية الفلسطينية بمصير تيار عالمي عنصري يشمل الأسد وإيران والمجر وبولندا وإيطاليا وقوى معارضة كبيرة في فرنسا وألمانيا والسويد التي تعادي الليبرالية وتنادي بإنقاذ العرق الأبيض من خطر المهاجرين المسلمين والسود.
مستقبل القضية الفلسطينية مع أحرار العالم
الانحياز إلى هذا المحور يعتبر خطأ تاريخياً يهمش القضية الفلسطينية العادلة، ويخدم إسرائيل ويبعد عن فلسطين وقضيتها كل الأحرار في العالم الذين يقفون إلى جانب أوكرانيا وضد الفاشية الروسية. واليوم تكمن المأساة الفلسطينية في غياب تيار ديمقراطي ليبرالي يشكل بديلاً عن الفصائل الفلسطينية التي شكلت سلطة استبدادية فاسدة، مثلها مثل الأنظمة التي تدعمها.
إذا أراد الشعب الفلسطيني أن يحظى بتضامن ودعم العالم الحر لقضيته العادلة عليه أن يقف مع كل الشعوب المضطهدة وفي مقدمتها الشعب السوري. إن زج بايدن مع ترامب، أو الأحزاب الليبرالية في أوروبا مع الأحزاب الفاشية والادعاء أنها تشكل وجهين لعملة واحدة هو خطأ فادح. كما يعكس وضع كافة الإسرائيليين بوتقة واحدة بغض النظر عن وجهة نظرهم عن الاحتلال أو مواقفهم من اليمين الإسرائيلي وسعيهم للعيش في نظام ليبرالي ديمقراطي يعدّ موقفاً غير مبرر ومضر.
صحيح أن الفلسطينيين يواجهون في الوقت الحالي عزلة دولية وعربية، لكن في حال ظهور قيادات شابة جديدة تنضم إلى المعسكر الديمقراطي ضد معسكر الاستبداد، وتعلن انحيازها الواضح إلى شباب الربيع العربي على امتداد العالم العربي وإلى الأحزاب الديمقراطية التي تناضل ضد الفاشية في أوروبا والوقوف إلى جانب الحزب الديمقراطي في أمريكا لكان من الممكن أيضاً فتح قنوات مع قوى المعارضة في إسرائيل وتطوير أدوات ووسائل جديدة لضمان حرية الشعب الفلسطيني.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.