احتجت بعض الوقت لأدرك ما الذي أزعجني في المظاهرات التي جرى تنظيمها مؤخرا ضد العنف المستشري في مجتمعنا العربي. ليس في الطيرة وحدها بل في مدينتي يافا أيضا المنكوبة بقتل الشباب، جرى تنظيم اعتصام ضد الظاهرة الخطيرة.لا أنسى يوم تحلّقنا نحن الأخوة في بيتنا بحي العجمي، نحصي عدد القتلى منذ أول التسعينات فبلغ نحو 40، بعضهم عرفناهم، بعضهم من أهلنا وآخرون لعبنا معهم في الصغر. كان هذا قبل ست او سبع سنوات على الأقل. منذ ذلك الحين ارتفع العدد كثيرا، ولم يعد هناك من يجد قدرة نفسية على العدّ.
إنها بلا شك ظاهرة خطيرة تدل على فقدان السيطرة من جانب كل الأطراف على ما يحدث، وبكلام آخر هي دليل فراغ قيادي. ولكن ها هي القيادات تشمّر عن سواعد الجد وتنظم المظاهرات، فأين المشكلة؟ المشكلة هي في التهرب من المسؤولية الذاتية والاكتفاء بإلقاء اللائمة على الشرطة، واتهامها بأنها معنية بأن يصفّي بعضنا بعضنا الآخر حتى ينتهي العرب.
لست بصدد الدفاع عن الشرطة التي تنفذ سياسة تمييز عنصري بحق الشعب الفلسطيني في البلاد، وسجلُّ جرائمها بحق شبابنا لا يحتاج لتفصيل. ولكن هل نكذب على أنفسنا وندّعي أن المشكلة هي تقاعسها عن جمع السلاح، وأن الحل هو في جمع السلاح؟! كل ولد يقضي معظم وقته في الشوارع يدرك أن هذا ليس الحل. معروف أن الكلمة المرادفة للشرطة هي “حكومة”، لذا تسمع الناس يقولون: هل نشهد على أولاد حارتنا ونسلّمهم للحكومة، حتى وإن قتلوا أولاد حارتنا الآخرين، أبرياء كانوا أم تجار مخدرات أم “جنودًا” لتجار؟ والسؤال الأخطر الذي يتردد في النفوس التي رأت عيونها الجريمة: هل نثق بقدرة الشرطة على حمايتنا من الانتقام إذا سلّمنا القتلة، هل نخاطر بأن نُسمّى عملاء؟
لا يمكن ان تكون القيادات التي تعلّق آمالها على الشرطة جادّة في مطلبها جمع السلاح، لأنها تدرك انه منتشر بدرجة ستضطر الشرطة لتفتيش كل البيوت العربية “بيت بيت دار دار زنقة زنقة” بالفعل لتنظيفها من السلاح، وعندها ستزعق القيادات العربية ضدها: عنصرية!
لا يمكن معالجة قضية العنف بمعزل عن الظروف التي خلقته. فالعنف هو نتيجة التدهور في مستوى معيشة الجماهير العربية، الذي نزل الفقر ضيفا في أكثر من نصف بيوتها، وجوّع اثنين من كل ثلاثة أولاد فيها، تدني مستوى التعليم والتحصيل العلمي وبالتالي تضاؤل امكانيات الحصول على مهن ملائمة ذات دخل جيد، شح فرص العمل عموما وتدني اجورها.
أسباب العنف هذه، وغيرها لا يتسع المقام لشرحها، هي بحد ذاتها نتائج للقمع المزدوج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني داخل اسرائيل: من جهة السياسة العنصرية على اساس قومي التي تضيّق الخناق على العرب في المسطحات ورخص البناء وفرص العمل بالتساوي، ومن جهة اخرى السياسة الاقتصادية الرأسمالية المتطرفة التي قضت على ما تبقى من اماكن العمل وسبّبت غلاء الأسعار وخلقت لدى الشباب الاحساس بضياع المستقبل ومن هنا أوحت لهم بأن الحياة رخيصة. في هذه البيئة الخصبة تنمو الجريمة كبديل سهل لصنع المال السريع، وليس هذا فحسب، بل لقد أصبح السلاح رمزا للقوة والكرامة وإثبات الرجولة الزائفة والاحتكام لقاعدة “البقاء للأقوى” وقانون الغاب، في ظل غياب الأخلاق وتفكك أواصر التضامن الاجتماعي واللجوء للحلول الفردية.
ولكن هذه القضايا الاجتماعية الاقتصادية الخطيرة ليست على جدول أعمال القيادات العربية ولا برنامج لها لمواجهتها، مما يفسر فقدانها المصداقية للتأثير الفعلي على الجماهير. ومن هنا، فالمطالبة بجمع السلاح ليس حلا، بل تعبيرا عن افلاس القيادات العربية وعجزها عن مواجهة الواقع الذي خلقته بتخليها عن هذا الجمهور وإهمالها لقضاياه الحياتية لعقود طويلة واكتفائها عوضا عن ذلك بشعارات وطنية رنانة لا علاقة لها بالهموم الحقيقية للمواطنين.
بدل الاكتفاء بمظاهرات ضد العنف من الحري الخروج بمظاهرات ضد أسبابه، وبالأساس ضد الفقر وفقدان المستقبل والكرامة والثقة بالنفس لدى الشباب، وذلك يكون من خلال تنظيم مظاهرات مطلبية واضحة موجّهة ضد صناع القرار في إسرائيل. كما لا يجب الاكتفاء بالحوار مع الذات والانطواء على أنفسنا بفعاليات لا تجتاز حدود القرية أو المدينة العربية، والتي حتى وإن تمت تغطيتها في الإعلام العربي، إلا انها بالكاد قد تصل للإعلام المركزي والرأي العام الإسرائيلي القادر على التأثير على صنّاع القرار.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.