ترامب يربّع الدائرة

لم يترك ترامب إسرائيل متوجهاً إلى الفاتيكان، حتى بدأ التحالف العربي والإسلامي ضد الإرهاب يتبدد شيئاً فشيئا. وقد ترك الرئيس الأمريكي بيته الأبيض هارباً من الكونغرس، الصحافة والرأي العام الأمريكي الذي يلاحقه يومياً رغم كل محاولاته لنفض الاتهامات الموجهة إليه بالتنسيق مع بوتين إبّان حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وكان استقباله في الرياض بمثابة تبرئة له من كل التهم وكأن الملك سلمان بن عبد العزير قال له “لا يهمك، فنحن لا نتدخل بتاتاً في شأنك الداخلي” وترامب ردّ له الجميل قائلاً “لسنا هنا لنملي على الآخرين كيفية عيش حياتهم” يأتي هذا في تناقض حاد مع سابقه أوباما الذي اشترط التحول نحو الديمقراطية لاجتثاث الإرهاب الجهادي مما أغضب المملكة السعودية. وإذا تمحورت سياسة أوباما على مهادنة طهران فما قام به ترامب من تحول نحو السعودية كركيزة أساسية في المنطقة قد أدى إلى رد فعل عكسي وانفجار داخل مجلس التعاون الخليجي ذاته بعد أن تم نشر التصريحات النارية لأمير قطر دفاعاً عن حماس وعن إيران وهو يعبر عن تحفظه من ترامب وشخصيته.

وقد لاقت سياسة ترامب الجديدة انتقادات من كل جانب وصوب، فافتتاحية صحيفة “نيويورك تايمز” تصف سياسته الشرق أوسطية بأنها مليئة بالتناقضات وتتحفظ على الربط بين مكافحة الإرهاب وبين مواجهة إيران، وكأن ترامب قد أخضع السياسة الأمريكية إلى المصلحة السعودية الإقليمية مقابل صفقة بقيمة 400 مليار دولار. قد يغض ترامب الطرف عن دور السعودية في نشر التطرف الإسلامي في أنحاء العالم وفي سورية تحديداً، فتشكيلات مثل جيش الإسلام، وأحرار الشام، وفيلق الرحمن ليست سوى ميليشيات سورية بالشكل وسعودية في المضمون وهي التي قامت بتصفية القوى الديمقراطية التي بادرت للثورة في سوريا أصلاً. إن سمعة السعودية في المنطقة وتورطها في كل الانقلابات ضد الربيع العربي بداية من مصر لا تبقي مجالاً للشك بأنها مصدر للإرهاب وعدو للديمقراطية.

إلّا أن اليسار الصهيوني متمثلاً بحزبي العمل وميريتس يرون بهذا التحالف المتخلف الجديد فرصة ذهبية من أجل التطبيع بين إسرائيل والمحور السني في مواجهة إيران. إن اليسار الصهيوني لا يهتم كثيراً بإيران وله تحفظاته على شخصية ترامب ومواقفه العنصرية وعدائه للديمقراطية غير أن همّه الرئيسي هو التخلص من الفلسطينيين بكل ثمن ويعتقد بأن التطبيع مع السعودية يفترض التفاوض مع الفلسطينيين على أساس مبدأ الدولتين. أكثر من ذلك، إن المؤتمر الإقليمي المفترض لغرض التطبيع بين إسرائيل والمحور السني أصبح بالنسبة لحزب العمل حجة للانضمام إلى حكومة نتانياهو على حساب حزب “البيت اليهودي” المتطرف الذي يدعو إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل. بالنسبة لهؤلاء أصبح ترامب اليميني المتطرف، المتقلب والصديق الحميم لليمين الإسرائيلي، بين ليلة وضحاها، المنقذ الذي سيجلب السلام المنشود.

أما اليمين الإسرائيلي فإنه في حالة من الريبة والارتباك، فترامب صديق لنتانياهو وكل المسؤولين الذين قام بتعيينهم لإدارة ملف الشرق الأوسط من زوج ابنته جاريد كوشنير، ومندوبه الخاص جفري غرينبلات والسفير لدى إسرائيل دافيد فريدمان، جميعهم يهود متدينين صهيونيين ورغم ذلك فإن جاذبية البترودولارات تغلب كما يبدو على الأيديولوجيا الصهيونية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن ريكس تيلرسون الذي كان مدير عام شركة النفط العملاقة “اكسون موبيل” وهي من أكبر المستثمرين في مجال النفط السعودي هو وزير ترامب للخارجية. السؤال الذي يطرحه اليمين الإسرائيلي على نفسه بسيط للغاية: هل سيدفع نتانياهو ثمن الاستضافة الباذخة التي قدمها سلمان لدونالد؟ وإذا كان على نتانياهو أن يدفع فما هو الثمن الحقيقي؟. من خطابات ترامب وسلوكه وهو يزور حائط البراق ويخطب في متحف إسرائيل لا دليل على وجود أي طلب من إسرائيل، فهو يؤكد مراراً وتكراراً حق إسرائيل في الأمن ودورها الإيجابي في المنطقة دون ذكر لمصطلح الاستيطان أو الدولة الفلسطينية.

أما الفلسطينيون فإنهم يفهمون اللعبة، فباسم مكافحة إيران يطلب ترامب من الدول العربية أن تطبّع علاقاتها مع إسرائيل قبل الوصول إلى حل مع الفلسطينيين، أما وبعد أن تم إدخال حماس في قائمة الإرهاب فعلى أبو مازن أن يبرهن عن حسن نيّته وأن يقوم بمحاربة “الإرهاب” في بيته مثلما يقوم بذلك الجنرال سيسي في مصر ضد الإخوان المسلمين، وأن يوقف الدعم المالي إلى عائلات الأسرى والشهداء وأن يتفهّم مصالح إسرائيل الأمنية. ومع ذلك فإن أبو مازن يعبر عن ارتياحه من زيارة ترامب إلى بيت لحم كونه لا خيار أفضل له حسبما كتب طلال عوكل في موقع “الأيام”: “قد لا يكون أمام السلطة الفلسطينية خيارات فالاستمرار في السعي نحو المفاوضات وتحقيق السلام، في ضوء انحياز أميركي مطلق لسياسة إسرائيلية ترفض أية حلول على أساس رؤية الدولتين، هذا الاستمرار ينطوي على مخاطرة، ولكن رفض هذا الخيار ومواجهته هو خيار ينطوي على مخاطرة. لذلك ليس أمام السلطة سوى أن تكون جزءً من الموقف والتحرك العربي والإسلامي، عسى أن ينتج عن ذلك إرادة عربية، وصمود عربي وإسلامي، لتطبيق مبادرة السلام العربية، وفق المفهوم والآليات التي يتبناها العرب”.

إن أبو مازن يتكلم في كل مناسبة عن إصراره على الدولة الفلسطينية، ولكن ما يهمه بالفعل هو ضمان وجود السلطة الفلسطينية لا غير. إن الصراع الأساسي لا يجري مع إسرائيل بل ضد حماس والهدف من مشاركته في قمة الرياض والزيارات المتبادلة إلى واشنطن وبيت لحم ليست أكثر من محاولة إثبات وجوده. فوجود السلطة الفلسطينية أصبح الحل الأمثل لأنه يحافظ على وهم قيام دولة فلسطينية حياً دون أن يلتزم به أحد في أمريكا أو العالم العربي أو في إسرائيل بهذا البرنامج.

في هذه الأيام تحتفل إسرائيل بذكرى مرور 50 سنة على “تحرير” القدس واليسار الصهيوني يدعو إلى مظاهرة في تل أبيب من أجل حل الدولتين، ولا توجد أيّة آلية فعلية لتحقيق هذا المطلب. إن وجود السلطة الفلسطينية هي مصلحة إسرائيلية قبل أن تكون فلسطينية، هي تساعد اليمين الإسرائيلي على عدم حسم الموضوع بين الضم أو الانسحاب وهي تضمن لإسرائيل الأمن واستمرار الانشقاق بين ضفة الغربية وغزة.

وقد جاء ترامب لكي يطمئن أصدقاءه، الملك سلمان، ونتانياهو وأبو مازن، وكل واحد منهم يرى في هذه الزيارة  شيئاً إيجابياً، فالسعودية وضعت إيران في زاوية الإرهاب، إسرائيل تحررت من كل ضغط في موضوع الاستيطان ومخاوف أبو مازن من ترامب تبددت بعد أن اكتفى بزيارة حائط البراق ولكنه قرر ألّا ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس. أما الشعب الفلسطيني فسيبقى يعيش في ظل انقسام، فساد واحتلال دون أي أفق للحل. وقد يضع الكاتب طلال عوكل آماله في صمود الأنظمة العربية دون أن يدرك أن الأمل الحقيقي الوحيد للشعب الفلسطيني هو بسقوط هذه الأنظمة وعلى رأسها السعودية. إن مستقبل الشعب الفلسطيني وإمكانية التحرر من الاحتلال مرتبط بمصير الشعوب العربية وإمكانية تحررها من الأنظمة الحاكمة الظالمة. دون أن يسود النظام الديمقراطي في العالم العربي وطالما أن بشار الأسد، عبد الفتاح السيسي، حيدر العبادي ونوري الملكي، علي خامنئي والملك سلمان يتحكمون بمصير شعوب المنطقة فإن إسرائيل ستتمكن من الإبقاء على سلطتها الاحتلالية دون عائق حقيقي وبدعم من دول أوروبا وأمريكا. لا يمكن دحر الاحتلال دون أن يحدث تغيير جذري في المنطقة ككل. حرية الشعب الفلسطيني مرهونة بعودة الربيع العربي إلى مراكز القوة. إن الربيع العربي قد وضع الإطار العام لحل القضية الفلسطينية ضمن تغيير سياسي، اجتماعي واقتصادي شامل يعزل الاحتلال ويضع إسرائيل والعالم أمام واقع عربي جديد.

عن