ليس موضوعياً اعتبار حكومة بينت-لابيد الجديدة، والتي انطلقت هذا الأسبوع، التي نجحت في إسقاط نتنياهو وحكوماته الممتدة طيلة 12 عاماً، بأنه نجاحاً مطلقاً في حال حافظ حكام إسرائيل الجدد على إرثه ونهجه. وقد شهدت إسرائيل الأسبوع الفائت صعود إئتلافي حكومي يضم تحالف من مجموعة أحزاب وقوى سياسية عديدة ومتباينة في تكتل، سمي بـ “كتلة التغيير”، وتنوعت مركباته ما بين أقصى اليمين والوسط واليسار الإسرائيلي، القاسم المشترك بينها هو معارضة نتنياهو ونهجه المتفرد بالحكم، مستفيدة من حالة الاستياء العام في الشارع الإسرائيلي من نتنياهو وطريقة إدارته شؤون البلاد.
في المقابل هزيمة نتنياهو أمام التحالف الواسع لا تعني أن الرجل فشل في المهمات الأساسية التي وضعها نصب عينيه، فقد نحج في إدارة أزمة وباء كورونا (كوفيد-19) عبر تنفيذ حملة تطعيم سريعة وناجعة لدرجة أن إسرائيل أصبحت أول دولة تلغي كل الإجراءات الصحية والقيود وعادت الحياة فيها إلى مجاريها الطبيعية قبل كافة دول العالم. ومن الناحية الاقتصادية تحولت إسرائيل إلى إحدى الدول القوية اقتصادياً نتيجة ازهار قطاع الهايتك (التكنولوجية الفائقة الدقة)، والذي يشكل 40% من الصادرات الإسرائيلية، كما نجحت إسرائيل في عهده في جلب استثمارات أجنبية وصلت عائداتها إلى مليارات الدولارات. أما على الجانب الدبلوماسي فقد استطاع نتنياهو إنجاز اتفاقات تطبيع مع أربع دول عربية، الامارات والبحرين والسودان والمغرب، وأثبت لكل منتقديه بالقول أن السلام ليس مشروطاً بـ “الأرض مقابل السلام” أو مرتبطاً بـ “حل القضية الفلسطينية” وإنما يمكن صنع “السلام مقابل السلام” على حد تعبيره ووفقاً لوجهة نظره.
لم يخطر على بال نتنياهو بعد كل هذه الإنجازات بأنه سيجد نفسه خارج مقر رئاسة الحكومة، وأن من سيخلفه هو نفتالي بينت، رئيس حزب “يمينا”، الذي لم يحصل سوى على سبع مقاعد في انتخابات آذار/مارس الماضي، رغم حصول نتنياهو على 30 مقعداً لحزبه الليكود. ومع ذلك وجد معارضوه الطريق لرص صفوفهم متخذين على عاتقهم مهمة إسقاطه، وشاهدنا، وللمفارقة العجيبة، كيف لعبت الحركة الإسلامية بقيادة منصور عباس دوراً محورياً في ضمان أغلبية 61 مقعداً، النسبة المطلوبة لإقرار الائتلاف الحكومي في الكنيست.
الشارع سئم نتنياهو
لقد سئمت شريحة كبيرة جداً من الجمهور الإسرائيلي من جولات الانتخابات المتتالية، حيث لم تحسم صناديق الاقتراع عبر أربع جولات في غضون عامين النتائج لصالح أحد الفريقين (اليمين بقيادة نتنياهو والمعارضة)، وكانت النتائج تنتهي في كل مرة بالتعادل بين المعسكرين بسبب رفض قادة أحزاب المعارضة التعامل مع نتنياهو من جهة، وبسبب خوفها من إشراك الكتل العربية في الائتلافات الحكومية من جهة أخرى. وقد رأينا كيف انشق بعض رموز اليمين عن تحالفهم التقليدي، وكانت أبرز الانشقاقات في الليكود حيث أنشأ جدعون ساعر حزباً جديداً بسبب تصرفات نتنياهو، كما بات هناك قطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي يرفض استمراره بالسلطة بسبب تهم الفساد التي تلاحقه وبسبب هجومه على السلطة القضائية واتهامه “الدولة العميقة” بالسعي لإطاحة به. هذه التصرفات، التي أغضبت الليبراليين، كانت ناجعة ولعبت دوراً في تجنيد قاعدته الانتخابية المشكّلة من اليهود الشرقيين، حيث أحاط نفسه بوزراء ينصاعون لأوامره بشكل أعمى.
وساهمت المظاهرات أمام منزل نتنياهو في القدس (بلفور)، والتي حشدت الآلاف على مدى شهور طويلة، في ازدياد حالة الاستياء الشعبي منه، بل وكان واضحاً الشرخ الاجتماعي العميق بين ما يسمى “إسرائيل الأولى” من الأوربيين الأصل (الإشكنازيم)، مقابل “إسرائيل الثانية” من اليهود ذوي الأصول العربية والمشرقية (السفارديم).
فمن ناحية، ترى الطبقة الوسطى والشرائح العليا من أصل أوروبي، والتي تسكن في وسط إسرائيل، نتنياهو “الغول” الذي يجب إسقاطه بأي ثمن، وفي المقابل تقف الطبقات الوسطى المتدنية والفقيرة من أصل شرقي، التي تقطن في مدن الهوامش، مع نتنياهو وتقدس شخصيته. إلا أن “إسرائيل الأولى” منقسمة أيديولوجياً على نفسها. حزب “يمينا” بقيادة بينت هو مزيج من النهج النيوليبرالي والمحافظ ومن الأفكار الدينية التبشيرية، التي تدعو إلى تغليب صفة “يهودية الدولة” على “الديمقراطية”. كما أن جزءاً أساسياً من هذه الشريحة (الإشكنازيم) تنتمي إلى حزبي العمل وميرتس، وهي شريحة ليبرالية ترى في الديمقراطية مبدأ أساسياً وتعارض ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل ونهجها الاجتماعي يدعو إلى دولة الرفاه. وعلى الرغم من التناقض العميق بين الفريقين انضمت قيادات أحزاب اليمين واليسار الاسرائيلي إلى الحكومة بعد أن اتفقوا على إبقاء الخلافات الأيديولوجية جانباً من أجل الحفاظ على تماسك الحكومة واستمرارها.
ازدواجية الحكومة: معارضة نتنياهو وقبول برنامجه
يكمن سر تشكيل الحكومة وبقائها في الاتفاق بين مركباتها على عدم الخوض في نقاشات إيديولوجية حول تشكيلة واسعة من القضايا المصيرية والجوهرية في السياسة العامة، على سبيل المثال القضية الفلسطينية -فصل الدين عن الدولة – تركيبة المحكمة العليا – العلاقة بين يهودية الدولة وصفتها الديمقراطية – العلاقة بين المجتمع العربي والسلطات الإسرائيلية – التشريعات الخاصة بمجتمع الميم، وغيرها من القضايا الجوهرية.
موقف المتحالفون، الذين نجحوا في تشكيل الحكومة الجديدة، يشير إلى قبولهم بالأمر الواقع الذي عجنه نتنياهو بيده على مدار 12 سنة من حكمه للبلاد. إن الاتفاق على إبقاء القضية الفلسطينية خارج البرنامج الحكومي يعني على أرض الواقع قبول نظرية نتنياهو بأن الفلسطينيين والاحتلال ليس موضوعاً محورياً، نظراً لأن غالبية الدول العربية باتت تطبع مع إسرائيل من دون شروط بموجب شعار “السلام مقابل السلام”، ما يعني بأن السلام الإقليمي يعوّض عن عدم وجود سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد تشكيل الحكومة، هذا المخلوق الحكومي الغريب والقائم على تفاهمات تتجاوز الجوهريات، يتبين أن في الكنيست الحالي 114 عضواً من أصل 120، يعتقدون بأنه ليست هناك حاجة ملحة لحل قضية خمسة مليون فلسطيني يعيشون دون الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية والمدنية.
بايدن: إما الديمقراطية أو الاستبداد
وتشير المعطيات إلى احتمال كبير في أن خطة لابيد وبينت، التي نجحت في التخلص من شخص نتنياهو وإبعاده عن كرسي رئاسة الوزراء فقط، وفي الوقت نفسه تحاول الإبقاء على معتقداته الأساسية وتحافظ على نهجه، سيكون مصيرها الفشل وذلك نظراً للعهد الجديد الذي يمر به العالم بعد صعود الديمقراطيين بقيادة بايدن الذي دحر حقبة الشعوبي ترامب.
وفي السياق الإسرائيلي يعتبر سقوط نتنياهو هو جزء من سقوط صديقه وحليفه الحميم دونالد ترامب، وناتج عن سقوطه، ومن الممكن التكهن بأنه لو فاز ترامب على بايدن لم يكن لأحد من خصوم نتنياهو وخاصة نفتالي بينت ليمتلك الجرأة في الانقلاب عليه أو “خيانة” معسكر اليمين. لذا فإن انتخاب بايدن رئيساً بدعم من حركات داعمة لقضايا السود والتغيير المناخي والمرأة إضافة إلى طيف واسع من الأقليات، شكّل تحوّلاً في السياسة الأمريكية وحمل أبعاداً جوهرية وعميقة على العالم برمته وعلى إسرائيل التي تربطها علاقات استراتيجية مع أمريكا.
وتعتبر مواقف إدارة بايدن ثورة على مبادئ سلفه ترامب، وبالتالي على نهج نتنياهو وتحديدا فيما يتعلق بسياساته الاقتصادية. فالرئيس الأمريكي الجديد يرى في أن النهج النيوليبرالي يمثل خطراً على النظام الديمقراطي الذي ترعرعت بداخله عناصر مثل ترامب وبوتين ونتنياهو نفسه. وقد وضع بايدن على سلم أولوياته قضايا عالمية تسعى لجعل الحياة على الكوكب أقل ضرراً، وهي: مكافحة الاحتباس الحراري – مكافحة الفقر – تصفية العنصرية الممنهجة واعتبار مبادئ حقوق الإنسان مقياساً في العلاقات الخارجية وتحديداً وضع العالم أمام خيارين لا ثلاث لهما “إما الاستبداد أو الدمقراطية”.
ومن هذا المنطلق يعتبر امتناع حكومة بينت – لابيد عن اتخاذ أي موقف إيديولوجي بمثابة رفض للمبادئ الأساسية التي تتبناها الإدارة الامريكية. فإسرائيل لا تبذل جهوداً في موضوع الاحتباس الحراري، بل تتجاهل المشكلة وعلى مستوى الاقتصادي لا تزال تصر على الاستمرار وفقاً للنهج الرأسمالي القديم. أما في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان فمعاملتها مع الفلسطينيين وفرض نظام “الابرتهايد” على الملايين منهم الذين يعيشون دون الحد الأدنى من الحقوق التي تنادي بها مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة، وحتى منعهم من حرية التنقل يشكل خرقاً سافراً للقانون الدولي الإنساني ولتوجهات التي ينادي بها بايدن. كما أن استمرار هذه الحكومة بالتمسك بقانون القومية الذي يميّز بين المواطن اليهودي والعربي يكرس العنصرية الممنهجة تجاه مواطنيها العرب ويضعها بالتالي في مواجهة مع البيت الأبيض وقيمه الديمقراطية ولا سيما أمام الجانب التقدمي في الحزب الديمقراطي. وبخصوص الثنائية التي ينادي بها بايدن “إما معسكر الديمقراطية أو الاستبداد” نرى أن الحكومة الإسرائيلية تريد الاستمرار في نفس العلاقات الحميمة مع نظام بوتين التي أسسها نتنياهو من أجل الاستمرار في القصف على قوات إيران وحزب الله داخل الأراضي السورية. إن الاستبداد كان وما يزال مسانداً أساسياً لإسرائيل والدليل على ذلك علاقاتها العلنية منها والخفية مع كثير من الديكتاتوريات في العالم بما فيها الأنظمة العربية الرجعية مثل الإمارات ومصر والأردن والمغرب وغيرها.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فقد اتضح بأن إدارة بايدن لا تنوي العودة إلى مفاوضات السلام، ولا تطرح على الطاولة من جديد مبدأ “حل الدولتين” مكتفيةً بموقف ينادي باحترام حقوق الإنسان في كل الإقليم الواقع ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط. ويتماشى هذا النهج الجديد مع سياسة بايدن الداخلية بعد أخذ العبر من فشل تجربة أوباما في المحاولة للوصول إلى اتفاق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
واليوم، هناك اعتراف ضمني دولي بأن الظروف السياسية الحالية تقف بوجه إمكانية إحراز اتفاق بين الاسرائيليين والفلسطينيين، إذ أن السلطة الفلسطينية تعتبر نظاماً فاشلاً وفاسداً وغير مؤهل لإدارة سليمة لدولة بالمعنى العصري للمصطلح السياسي. وفي الوقت نفسه ترفض حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة أي نوع من التفاوض مع إسرائيل وتستند إلى نهجها الإسلامي الأصولي. وفي المقابل يرى رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديدة نفتالي بينت الحكم الذاتي الفلسطيني تحت رعاية وسيطرة السيادة الإسرائيلية هو الحل العادل والدائم.
حزب دعم: نيو ديل أخضر إسرائيلي-فلسطيني
من هنا وأمام هذا الفراغ، طرح غلاف مجلة “إيكونيميست”، التي تصدر في بريطانيا، في عددها مطلع هذا الشهر السؤال: “دولة واحدة أم دولتان؟” وكان جواب المجلة البريطانية المخضرمة واضحاً حين كتب المحررون: كل ما حدث على أرض الواقع منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو بين عامي 1993-1995 إلى الآن حوّل إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة إلى ضرباً من ضروب المستحيل. ومن هنا وتماشياً مع سياسة بايدن والمعسكر الديمقراطي في العالم، يطرح حزب دعم شعار “غرين نيو ديل إسرائيلي فلسطيني” من أجل بناء مجتمع عادل يجمع الإسرائيليين والفلسطينيين ضمن دولة واحدة ديمقراطية من النهر إلى البحر، وتكون جزءاً من شرق أوسط ديمقراطي غير استبدادي وشريكة كاملة في النضال ضد الاحتباس الحراري.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.