عملية تل أبيب وأبطالها الثلاثة

العملية التي وقعت في تل أبيب، خلّفت وراءها صدمة كبيرة، فرحة من جانب واحد وحزن عميق من الجانب الآخر. للوهلة الأولى يمكننا أن نخمن من يفرح ومن يحزن، حسب الرواية العادية فقد وزعوا الحلويات في غزة، وفي تل أبيب ذاقوا المرارة. إلّا أنه وبعد قرابة 50 عاماً على الاحتلال فالواقع  ليس اسوداً أو أبيض، هو قوس قزح من الألوان. مثلما لا يوجد رأي فلسطيني واحد حول طبيعة العملية ومبرراتها ففي الجانب الإسرائيلي يوجد للمفارقة من عبّر عن فرحته نتيجة للعملية. وقد فرح اليمين المتطرف لأنها استهدفت تل أبيب التي تعتبر معقل اليسار الإسرائيلي الذي يحقد على المستوطنين وحكومة اليمين ويتعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. “اليساريون ليسوا يهوداً” كتب في الفيسبوك واحد من هؤلاء  المنتمين الكثر إلى اليمين العنصري والذين شمتوا من وقوع ضحايا في تل أبيب الأمر الذي يكشف عن عمق الكراهية بين اليمين المتطرف والجمهور الليبرالي الإسرائيلي.

ولكن أبطال التراجيدية الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ زمن بعيد يكشفون أمامنا عن الواقع الحقيقي الذي يبعد عن كل ما يتم تناوله في وسائل الإعلام العبرية والعربية والتي تلجأ للأبيض والأسود في تعاملها مع الأحداث. أبطالنا الثلاثة في مسرح الحياة هذا هم منفذ العملية خالد مخامرة من يطا قضاء الخليل، وحنين حسين النادلة في المقهى المستهدف من العملية وهي من إحدى قرى الجليل، والضحية الدكتور مخائيل فيغه أستاذ في جامعة بن غوريون. من خلال قصتهم الشخصية حسبما تناولتها الصحف الإسرائيلية من الممكن أن نتعلم جزءً ولو بسيطاً عن “التعايش” الغير مألوف بين فلسطينيين وإسرائيليين في ظل نزاع دموي يفرض نفسه على الشعبين دون أن يعرف أحدهما كيف يمكن التغلب عليه.

حسب رواية الصحفية عميرة هس في جريدة “هارتس” خالد مخارمة كان في الصف الثالث عندما قام جيش الاحتلال بهدم بيته في الأول من سبتمبر 2003، كعقاب على عملية قام بها عمه “طالب” وحكم عليه سبعة مؤبدات. خالد كان طالباً في الجامعة الأردنية وكان من المفروض أن يكمل دراسته ولكنه اختار أن يتجه غرباً ليقوم بعملية مسلحة في قلب تل أبيب. خالد كان يعرف أنه إذا أراد أن يموه نفسه ليتمكن من التسلل إلى أحد مقاهي تل أبيب عليه أن يظهر كأحد من سكان تل أبيب العاديين فلبس بدلة سوداء، قميصاً أبيض وربطة عنق، حمل حقيبة جيمس بوند خبأ فيها سلاحه وأصبح رجل أعمال كالآلاف الذين يسيرون في شوارع تل أبيب المفتوحة أمام الجميع.

وعندما حدّد خالد المقهى الذي يريد أن ينفذ عمليته فيه، جلس مع رفيقه وانتظر النادل، إلّا أن من تقدم ليتسلم الطلب لم يكن رجلاً يهودياً بل فتاة عربية هي حنين حسين. فقد توجهت حنين إلى الزبونين الذين أمسكا في أيديهم “المنيو” المكتوب باللغة الإنجليزية وعندما انتبهت إلى أنهم لا يفهمون الإنجليزية سألتهم بأي لغة يتكلمون فأجابوا: العربية، فقالت لهم بأنها تتكلم العربية أيضا، فسألوها من أين أنت؟ ردّت: من الشمال وأنتم؟ بدون تردد أجابوا: “من الخليل”، وبعد أن أخذت طلباتهم بدقائق سمعت صوت الرصاص. وهنا يبقى السؤال: لماذا لم يخش الشابان من يطا كشف حقيقة أنهم من المناطق المحتلة؟ لأنه لا غرابة بأن رجال أعمال من الخليل يزورون تل أبيب لغرض “بيزنس”. أما حنين، فهي واحدة من عشرات الألوف من الشباب والشابات العرب الذين يتعلمون ويعملون في تل أبيب في شتى المجالات.

أما البطل الثالث في هذه التراجيدية فهو الأستاذ ميخائيل المحبوب من قبل تلاميذه الكثر من إسرائيليين وفلسطينيين الذين علمهم في جامعة بن غوريون في بئر السبع والذين عبّروا عن حزنهم العميق لفقدانه. ميخائيل كان إنساناً قريباً من حركة “سلام الآن” التي تُتهم من قبل اليمين بالخيانة لأنها تتابع وتكشف أمام المؤسسات الدولية عن العمليات الإستيطانية. وقد ألّف ميخائيل فيغة كتاباً بعنوان “خريطتين للضفة الغربية” وهو بحث يقارن البرنامج والأيدلوجيا لحركتي “غوش إيمونين” اليمينية الإستيطانية وحركة “سلام الآن” التي تعارض الاحتلال والاستيطان. لو كان ميخائل يلتقي مع خالد في ظروف أخرى لكان يعبر له حزنه على ما حدث معه وهو وَلد في يطا من هدم بيته وكل محتوياته، أما إذا كان على خالد أن يختار ضحاياه فلن يكون ميخائيل من بينهم كونه بريء من كل تهمة بدعم من قريب أو بعيد لما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي.

في هذه القصة الحزينة الكثير من العبر. الأولى منها هو عبثية الاحتلال ورؤية اليمين في إسرائيل بأنه إذا منحنا للفلسطينيين قليلاً من الرفاه الاقتصادي سيتحول الاحتلال إلى حالة عادية. ولكن من الناحية الثانية من يصور إسرائيل كقلعة منيعة للعنصرية، واليهود ككتلة واحدة تبرر القتل لمواطنيها دون تمييز فهو يضر في مصلحة الشعب الفلسطيني نفسه ويشوه قضيته العادلة. وقد علمنا الربيع العربي بأن العروبة أصبحت حجّة لمجازر رهيبة بحق الشعوب العربية نفسها أما وباسم الإسلام تنفذ عمليات ضد “الكفار”، عرباً كانوا او عجما، والتي تهز مشاعر الإنسان في الكون كله. خالد قام ضد من يحتل أرضه وهدم بينه دون مبرر، أما حنين فقد توافق مع حق خالد في المقاومة ولكنها لا تتفق معه على أسلوبه رغم كونها فلسطينية. أما ميخائيل فقد عمل من أجل تغيير سياسي في إسرائيل بهدف وضع حد لهذه المأساة التي أصبح هو نفسه ضحيتها.

 إن العبرة السياسية من وراء هذه القصة واضحة المعالم: خالد قام بعملية فرضية وأخذ بالثأر ممن قاموا بهدم بيته والتنكيل بعائلته. هو لا ينتمي إلى فصيل وليس في يده برنامج سياسي، إسلامي كان أو وطني، هو قام بهذه العملية لأنه فقد الأمل في إمكانية إنهاء الاحتلال إما من خلال مفاوضات أو من خلال انتفاضة مسلحة. هذه العملية بمثابة إصبع اتهام موجهة نحو القيادات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية التي لا تهتم بشعبها بل فقط في وجود سلطتها وامتيازاتها.

أما وفاة ميخائيل بهذه الطريقة فهو يدل أيضا على وهن اليسار الإسرائيلي الذي ورغم معارضته الشديدة لكل أشكال العنصرية وممارسات الاحتلال يبقى في وضع من السلبية واليأس بإمكانية دحر اليمين المتطرف وإحداث تغيير سياسي داخل إسرائيل. المثل يقول بأن “يداً واحدة لا تصفق”، لا يمكن لليسار الإسرائيلي أن يتغلب على اليمين من غير وجود شريك فلسطيني له، ومن ناحية ثانية فمقاطعة كل ما هو إسرائيلي من قبل الطرف الفلسطيني يلعب إلى أيدي اليمين أيضا. إذا كان علينا أن نعيد كتابة الرواية من أولها لكُنا نُنهي هذه الرواية المأساوية بنهاية متفائلة:  خالد لم يحمل السلاح بل يلتقي مع ميخائيل في نفس المقهى ليحلما معاً في مستقبل مشترك. في مستقبلهم لا مجال للعنصرية في أشكالها المختلفة يهودية كانت أو إسلامية، لا مجال فيها للاحتلال أو التمييز على أساس عرق، دين، قوم أو لون. هو مستقبل يتمتع فيه كل إنسان بحقه في العيش بكرامة وحرية. لربما هذا الحلم لا يقتصر على خالد وميخائل فقط بل يشمل ملايين من الشباب في العالم العربي كله الذي ثاروا من أجل هذا الحلم والذي لم يتحقق بعد.

عن