نبدأ من حي كفر عقب المجاور لمخيم قلندية، شمال مدينة القدس، حيث يوجد عالمٌ مجنونٌ، سلطويٌ، أبويٌ، عالمٌ بلا نساءِ ولا جمالِ فيه، عالمٌ بأطفال مشوهي النفوس، ومرضى، وأُمهاتٍ مطلقات ومقهورات، ورجال قاهرين ومقهورين، وشباب عاطلين عن العمل. عالمٌ آسنٌ، غيرَ ٍمتحرك، غيرَ مبدع، غيرَ متمرد، لا منطقي، ولا خيالَ فيه. تصوروا لو أن الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا يمر به، ويرى البنايات الشاهقة والمتراصة، والأجواء َالمغبرة والكلاب الضالة والفئران المتراكضة في الأزقة، والقطط الجائعة، والصراصير المنتشرة، وأكوام النفايات هنا وهناك، ومستنقعات المجاري في الطرق والحفر في الشوارع. ويحس بالريح الباردة، ويسمع أصوات الجرافات المزعجة، والرافعات التي تغلق الأزقة، ممزوجة بأصوات الباعة.
تخيلوا أن كافكا يدخل الشقق الضيقة، ويستمع إلى أحاديث الناس عن مشاكل انقطاع المياه والكهرباء، لو يشاهد الاكتظاظ الشديد والعراك اليومي بين العائلات، سيعلم أنهم يتعاركون على أماكن وقوف السيارات، وعدم تسديد الديون والفواتير، سيسمع أيضا أصوات العيارات النارية كل ليلة، ويتساءل عن مصدرها، فيقول له العارفون: إن شباب التنظيم يستعرضون قوتهم في المخيم المجاور أمام المواطنين.
تُرك الحي وحده، بلا تنظيم ولا رعاية، بلا قانون، ليواجه مصيرا أسود، فتدخل رجال العشائر وتنظيم حركة فتح في شئون الناس، وغاب العدل وأصبحت الغلبة للأقوى.
ماذا سيكتب كافكا؟ هل سيكتب أن كفر عقب تحول إلى حي من الصناديق الحجرية المليئة بالصراصير والفئران؟
تخيلوا أن كافكا يسافر بسيارته باتجاه حاجز قلندية، ويشاهد هناك المشهد العبثي اليومي، وتأثيره النفسي العميق على الناس، ماذا سيكتب أيضا؟ هل سيقول إن الجيش الإسرائيلي يمنع الصراصير والفئران من الخروج من صناديقها. لكنني لست كافكا، ولن أدخل إلى عالمه، بل أرى أن سكانَ الحي بشرٌ يستحقون الحياة، وأكتب بعين صحفي فلسطيني، يعيش في القرن الحادي والعشرين. أكتب لا كواصف لواقع الحال فقط بل كباحث أيضا عن الحل.
كل يوم ومنذ ساعات الصباح الأولى، تزحف طوابير طويلة من السيارات القادمة من رام الله نحو حاجز قلندية، جنوب المدينة، وتتحرك السيارات والشاحنات على الطريق الممتد على طول عدة كيلومترات ببطء شديد لتقف أمام جنود وحراس شركات الحراسة المسلحين برشاشات اوتوماتيكية الذين يقومون بفحص هويات الداخلين إلى القدس، يحدث نفس الشيء على جميع الحواجز المحيطة بالمدينة من جهة الجنوب والشرق.
يعيش في كفر عقب أكثر من ٦٠ ألف مقدسي، وتتزايد أعدادهم باستمرار، لعدم قدرتهم على شراء أو استئجار شقق سكنية بالمدينة، أو بناء بيوت على أسطحة منازل أهاليهم في أحيائها الواقعة في نطاق الجدار العازل، هناك مئات الأطباء والمعلمين من الضفة الغربية الذين يعملون بالقدس شرقها وغربها، وآلاف العمال الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات. كلهم يمرون عبر حاجز قلندية. الاكتظاظ والتزاحم تجعل الوصول إلى المدينة رحلة شقاء يومية لهم.
المعلمون لا يصلون إلى مدارسهم في الوقت المحدد. يتأخر العمال عن ورشات العمل، لا يفتح التجار محلاتهم في ساعات الصباح، والموظفون والأطباء والمحامون والقائمة تطول…. يستنشق المسافرون الروائح الضارة المنبعثة من عوادم السيارات واحتكاك “الكلاتشات”. الوضع غير إنساني للمرضى والنساء الحوامل والأطفال وكبار السن، ولمن هم بحاجة لزيارة أقسام الطوارىء في المستشفيات الإسرائيلية.
في الوقت ذاته يمتد طابور طويل آخر من السيارات والشاحنات التي تحمل لوحات الضفة الغربية في الشارع نفسه زاحفا كالسلاحف من مدينة رام الله، مقر ما يسمى “دولة فلسطين” عبر طرق التفافية إلى مدن الضفة الغربية شمالها وجنوبها وشرقها.
الرحلة بين رام الله وبيت لحم تمر عبر طريق ملتو من أسفل الوادي إلى أعلى الجبل من خلال وادي النار وحاجز “الكونتينر”. يعبر هذا الشارع نحو ٢٢ ألف سيارة يوميا، وتستغرق الرحلة بين رام الله وبيت لحم ٤٥ دقيقة، عندما لا يفتش الجنود السيارات، وهي حالات نادرة، ولكن إذا قام الجنود بتفتيشها، تستغرق الرحلة بين رام الله وبيت لحم ثلاث ساعات على الأقل. ويمتد طابور السيارات المتوقفة أمام الحاجز أربعة أو خمسة كيلومترات.
الحواجز العسكرية الكبرى ونقاط التفتيش موجودة في أماكن ثابتة ومتحركة على مداخل المدن والقرى، ويتم تفعيلها في أي لحظة. هناك حاجز بيسان شمال منطقة الأغوار وهو حاجز صعب، حيث يجري تفتيش الأفراد والامتعة والسيارات، وتستخدم في التفتيش الكلاب البوليسية. (انظر قائمة الحواجز العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة من اصدار بيتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. آخر تحديث ٣٠ حزيران ٢٠١٨)
يقتحم الجيش الإسرائيلي مدن الضفة الغربية في أي وقت لاعتقال ناشطين، القوات الأمنية والبوليسية الفلسطينية تختفي من الشوارع عندما تصل الجيبات العسكرية الإسرائيلية إلى مناطق أ التي هي تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، حسب اتفاق اوسلو. في الوقت ذاته، تقوم قوات السلطة بحملات منظمة لاعتقال الناشطين.
تعتقل اسرائيل شبابا بتهم الانتماء لمنظمات فلسطينية ومنها حركة فتح ونوابا ووزراء، وتقدمهم لمحاكمات عسكرية، لكنها لا تمس آخرين في مواقع تنظيمية قيادية بسوء. تريد إسرائيل أن تكسر جيل الشباب وتهزمه، وتقتل روح التحدي فيه. والسلطة الفلسطينية تفعل نفس الشيء، فهي تقتل ابداعه، وتمنعه من التفكير الحر.
الضفة الغربية في قبضة إسرائيل الأمنية. والمشهد الاقتصادي والسياسي والإداري فيها “كافكاوي” بامتياز. هناك طبقة أصحاب الامتيازات الكبرى من السياسيين والتجار الكبار وأصحاب الشركات الاحتكارية، ويرزح الشعب الفلسطيني تحت خط الفقر، ويتألم من البطالة، وثقل القروض البنكية.
هناك تداخل عجيب في مناطق الضفة الغربية: مستوطنات وطرق التفافية وجدار عازل يمتد من الشمال إلى الجنوب، وقيود على الفلسطينيين في البناء والتوسع واستخراج المياه من الآبار الارتوازية. هناك قيود على السفر والتنقل، ونظام أمني يشدد قبضته على الفلسطينيين، وأجهزة أمنية فلسطينية همها قمع المواطن الفلسطيني، ومؤسسات فلسطينية يسمونها وزارات وادارات غير فاعلة. وسلطة بلا اقتصاد ولا انتاج وتعتمد على المعونات الخارجية وأموال الجباية من إسرائيل.
الجيش الإسرائيلي هو المسيطر على الضفة الغربية داخليا وخارجيا، ويسيطر على قطاع غزة من البحر والبر والجو، والإدارة المدنية الإسرائيلية هي التي تحكم الضفة الغربية، فهي التي تصدر التصاريح بمختلف أنواعها، وتتحكم بالأحوال الشخصية للفلسطينيين، ولم يختلف عملها عما كانت عليه قبل أوسلو سوى وجود سلطة متعاونة معها، سلطة لا تستطيع إحضار مواطن من الخارج دون موافقة إسرائيلية. في الوقت ذاته لم يتوقف الغول الاستيطاني عن ابتلاع مساحات شاسعة من مناطق (ج) و(ب) والقدس. ولا سبيل إلى وقفه، ورجال السلطة يعترفون أنه لا سلطة لهم، وأن دورهم محدود جدا، وعلاقة السلطة بالشعب الفلسطيني قائمة على عدم الثقة. وفي اليوم الذي تُزال السلطة عن الوجود سيفرح الفلسطينيون، لكن إسرائيل تدعمها وتريدها أن تبقى.
فمن البديهي هو ان السلطة هي الموظف الأكبر في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ يبلغ عدد موظفي السلطة حسب فريد غنام مدير عام الموازنة في وزارة المالية الفلسطينية ١٥٦٩٣٠ موظفا مدنيا وعسكريا، وذلك حتى نهاية عام ٢٠١٦. وأنفقت السلطة ما نسبته ٧٦ ٪ أي ٤.٨ مليار دولار من ميزانيتها المقدرة عام ٢٠١٨بـ ٥.٨ مليار دولار على المصاريف الجارية.
ولم تعرض الموازنة العامة على المجلس التشريعي لإقرارها، أو أي جهة أخرى رقابية، ووجه خبراء ماليون واقتصاديون انتقادات حادة للموازنة، وقالوا إن السلطة ارتكبت تجاوزات كبيرة لـ “قانون الموازنة”. فلم تنشر معلومات تفصيلية عنها بل اكتفت بنشر بيان بعد شهرين من الموعد المحدد يحتوي على أرقام صماء.
يتضح مما سبق أن السلطة هي مشروع استثماري لمجموعة محددة من القيادات وعدد من مساعديهم من مدراء عامين وموظفين كبار وقادة أجهزة أمنيه، تقدم السلطة خدمات أمنية لإسرائيل، مقابل سيطرتها على المشاريع والشركات الاحتكارية وتحكمها بأموال الدول المانحة واموال الجباية والجمارك والضرائب، وتمتلك السلطة القوة البوليسية والعسكرية والمخابرات والاستخبارات والأمن الوقائي، وأجهزة أخرى تعمل جميعا على إرغام الشعب الفلسطيني على قبول الأمر الواقع رغم تصريحات المسؤولين وصرخاتهم المستمرة ضد الاحتلال. السلطة جزء لا يتجزأ من الاحتلال، ومن يعتقد غير ذلك فهو على خطأ مبين.
الوضع غير طبيعي وغير محتمل، ولا يمكن أن يستمر للأبد.
يعزز هذا الوضع القائم الاستعلاء والعنصرية. سياسات الحكومة الإسرائيلية ووجود السلطة الفلسطينية يشكلان عائقا أمام تطوير هدف العيش المشترك بين الشعبين، في إطار دولة واحدة، في إطار دولة يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون كمواطنين أحرار، لا أفضلية لمواطن على آخر لاختلاف الدين والجنس والعرق والموقع السياسي والطبقي والاجتماعي. الحكومة الإسرائيلية قصيرة النظر، وهي لا تريد أن تحل المشكلة من جذورها، بل تسعى الحكومة والأحزاب الصهيونية إلى تكريس الاحتلال. ويتم ذلك عبر الوسطاء الأمنيين: السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة. وجود شريكين فلسطينيين لهما مصلحة مباشرة في إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه لا يمنع المؤسسة الإسرائيلية من ممارسة كل أنواع الحصار والخنق على 5 مليون فلسطيني أكثر من مليونين في غزة ونحو 3 ملايين في الضفة.
ماذا يقول الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ هناك حنين رومانسي لدى الكثيرين منهم لعودة الاحتلال، لكنه مجرد حنين غير واقعي. الناس لا تثق بالسلطة الفلسطينية، وهم يئنون تحت وطأة حركة حماس وحصار إسرائيل ومصر، ولا يمكنهم التمرد ضد حماس، لأن إسرائيل هي من تفرض الحصار والعقوبات الجماعية على الشعب الفلسطيني، لكن إسرائيل تريد أن يبقى الوضع الراهن على ما هو عليه، وحماس تريد أن تبقي غزة في قبضتها، هذا الوضع مفيد لإسرائيل، بعد أن تخلصت من أعباء إدارة شئون الضفة الغربية وقطاع غزة. لا تهتم إسرائيل إن كان الشعب راضيا عن السلطة وحركة حماس أو غير راض.
كيف نحول الوضع المجنون إلى وضع عقلاني؟ هذا هو السؤال المركزي الذي لم يجب عليه أحد. معظم الفلسطينيين يقولون أن على السلطة أن ترحل. “لسنا بحاجة إلى هؤلاء القيادات المستفيدة من مآسي الشعب الفلسطيني” – يقول المواطن العادي. رغم اننا لا نرى خروج المواطنين إلى الشوارع ضد السلطة واكتفاء المعارضة على الاحتجاج على الضمان الاجتماعي او أجور المعلمين الخ فمن الواضح ان هناك اجماع بان حل الدولتين انتهى مع فشل السلطة وانه من الضروري التقدم نحو حل شامل يكسر الجمود الفكري والسياسي.
الحل العقلاني الذي يجب ان يطرح بقوة يكمن ببساطة بالمعركة العملية لإنهاء الاحتلال بفروعه الثلاثة الإسرائيلي والفلسطيني والحمساوي ورفع الحصار والقيود المفروضة على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. يكمن الحل بفتح قنوات التعاون والحوار مع العالم ومع أطراف إسرائيلية ديمقراطية لتطوير شبكات سياسية واجتماعية واقتصادية مشتركة تساعد في تطوير الطاقات المحلية الفلسطينية دون التلويح بسيف “التطبيع” القاتل ضد الأفراد أو المجموعات الفلسطينية الراغبة في تأسيس وتطوير علاقات جديدة مع القوى الإسرائيلية التي تؤمن بالسلام على أساس الشراكة وحل الدولة الواحدة. من الواضح ان يفتح نهج من هذا القبيل فرصا جديدة للمبدعين الفلسطينيين في كافة المجالات لإيجاد الزملاء والشركاء بالبلاد وفي الخارج مما سيشجع المبادرات الاقتصادية والعلمية والفكرية والفنية بين الشعبين. يكمن الحل بتبني استراتيجيات جديدة لا تقوم على رفض الآخر وتدميره وحصاره. يكمن الحل بإضعاف قوى التطرف من الجانبين، يكمن الحل بالقضاء على الفساد. هذه قضايا وأمور لم يتم تجريبها أبداَ.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.