“ثورة، ثورة” هذا هو شعار الحركة الشعبية العارمة التي تجرف مدن لبنان والعراق تحت شعار “كلن يعني كلن” الذي اصبح شعار العالم العربي برمته. وإذا كان شعار الثورة المصرية ضد نظام مبارك “ارحل” والهتاف الذي تبناه العالم اجمع “الشعب يريد اسقاط النظام” فقد طوّر الشباب اللبناني والعراقي هذا الشعار بأكثر دقة عندما حددوا ضد من يوجهون الاحتجاج. فبدل المطالبة برحيل الزعيم الدكتاتور المكروه يشمل المطلب وبرنامج الحراك اليوم كل النخبة السياسية، ومن اجل منع أي سوء تفاهم المقصود في الشعار “كلن يعني كلن” هو كل الأطراف السياسية دون استثناء بما فيهم حزب الله.
بكلمات اخرى، الثورة اللبنانية لا تستثني احدًا من المسؤولية عما وصل اليه حال البلد من انهيار كامل في كل المجالات. لمن يريد ان يفهم بماذا يطالب الثوار فليستمع الى مئات بل الاف الاصوات في الفيديوهات التي تنتشر في شبكات التواصل الاجتماعي والتي تثبت ان الشعب وصل الى درجة عالية جدا من النضوج السياسي وقد استخلص العبر من تجارب الربيع العربي الماضية.
ان التجربتان اللتان كان لهما بالغ الاثر على الثورات الراهنة في العراق ولبنان هما دون شك ثورتي مصر وسوريا. هاتان التجربتان التان وصفهما البعض بمؤامرة إخوانية بدعم امريكي إنتهتا بكارثة وكل واحدة بنهاية مأساوية مختلفة. مصر مرت بالإنقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي المنتخب وسوريا انتهت بحرب دمرت البلد بأكمله بفضل التدخل الروسي والإيراني. وكانت الحرب على شعب سوريا وثورته الديمقراطية مثابة جريمة كبرى ضد الإنسانية تكبد السوريين جرائها نصف مليون قتيل واربعة ملايين من اللاجئين ونحو عشرة ملايين من المشردين داخل البلد. في مصر اطاح الثوار بنظام مبارك وفرضوا انتخابات نزيهة وديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلاد لكن فوز الاخوان المسلمين لم يلب طموحاتهم فانحازوا لصالح الجيش الذي قام بمساعدة سعودية إماراتية بالانقلاب والاستيلاء على الحكم وفرض نظاما استبداديا يفوق استبداده نظام مبارك. اما في سوريا فقد تسلحت المعارضة، وقضت على التنسيقيات الشبابية التي بادرت للمظاهرات السلمية، ومن ثمة انشقت الى الف مجموعة وكل واحدة أعلنت ولائها لطرف مختلف: امريكا، اسرائيل، السعودية، قطر، تركيا ومصر.
وكان انتصار الاسد على شعبه بفضل الدعم الايراني الروسي واستمرار السيسي في الحكم في مصر على مدار ست سنوات، مثابة النهاية التراجيدية للربيع العربي واثبات اخر للاعتقاد السائد على ان “الديمقراطية لا تصلح المجتمع العربي القبلي”. الا ان وعندما احتفل الطغاة بانتصاراتهم نهض طائر الفينيق من الرماد ليثبت للعالم كله ان الربيع العربي ليس صدفة تاريخية او مؤامرة كونية وان الخط المستقيم يمتد بين نقطتين وهذا هو الخط الذي يربط بين مصر ولبنان وبين تونس والعراق. ففي الجزائر ثار الشعب على نظام بوتفليقة وفي السودان ثار الشعب على نظام البشير محققا إنجازات ملموسة في الاتفاق على سلطة مؤقتة بعد ان استخلص العبر من التجربة السورية محافظا على سلمية المظاهرات رغم بطش الجيش السوداني وعصابات الجنجويد.
لا شك ان الخط المستقيم يمتد اليوم بين بيروت وبغداد والقاسم المشترك بل والعدو المشترك للثورتين العراقية واللبنانية هي ايران. اما فالربط السياسي الاساسي بين البلدين هو الدستور الذي قسّم السلطة على اساس طائفي، سنة، شيعة ومسيحيين في لبنان، والشيعة والسنة والاكراد في العراق، والنتيجة واحدة، نظام مبني على المحاصصة الطائفية، اختفاء الدولة ككيان والمواطنة كحق اساسي وانتشار الفساد ونهب موارد البلاد. ومن هنا فالمطلب الشعبي الذي يتمحور حوله الحراك في كلا البلدين هو بسيط: اسقاط الطائفية واستبدال الدستور الطائفي بدستور ديمقراطي، والغاء الاحزاب الطائفية بكل انواعها واشكالها. علم الثورة هو العلم الوطني وليست الاعلام الطائفية بكل الوانها واطيافها. انها ثورة ديمقراطية والتي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الثورات العربية كلها من المغرب الى المشرق دون استثناء.
ولا يخفى على احد ان الغول الذي يهدد الثورة الديمقراطية هو الميليشيات التابعة لإيران والتي استولت على الحكم في العراق ولبنان. هادي العامري قائد الحشد الشعبي ومنظمة بدر، وحسن نصر الله قائد حزب الله كلاهما يعملان وفق املاءات قائد الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني. وبعد ان دمر هادي العامري الموصل، وحسن نصر الله ذبح السوريين في القصير فلا شك بانهما وبأمر من المرشد الاعلى علي خامنئي يستعدان لذبح الشعبين العراقي واللبناني اذا هددا سلطانهم. الا ان ما يمنع تكرار مأساة الموصل والقصير هو ان الاحتجاج يعم البصرة، النجف، كربلاء وسائر مدن الجنوب العراقي وفي لبنان تمتد الثورة من طرابلس في الشمال الى بنت جبيل والنبطية في الجنوب، مما يعني انها ثورة الشيعة على إيران مما يصعب تصوير الثوار كدواعش. وفي الحقيقة فهذه الثورة هي فوق الطائفية اذ توحد الشيعة والسنة والمسيحية والعلمانيين، رجال ونساء وشباب على موقف واحد وشعار واحد.
وقد حاول النظام الايراني ان يرمي الثورة بنفس الاتهامات التي وجهها الى الربيع العربي وان يتهم امريكا واسرائيل والسفارات الاجنبية بدعم وتمويل الثورة ولكن لا يوجد من يستهلك هذه البدعة السخيفة والسبب بسيط، لا احد بما فيهم حزب الله، والحشد الشعبي، يمكنه انكار ما يقوله الشباب الثائر حول البطالة، انعدام الخدمات الصحية، نهب الموارد، نقص للكهرباء والماء الصالحة للشرب، اكتظاظ المدارس، التعيينات على اساس الانتماء الحزبي الطائفي، وفقدان للمستقبل. ومثلما يقول العراقيون، ضاعت 16 سنة من حياة البلد ولا احد حتى إيران ممكن ان ينفي هذه الحقيقة ولا يمكن لإيران واتباعها في العراق ولبنان ان يتهربوا من المسؤولية.
وقد دار الربيع العربي دائرة كاملة ولكنها غير متكاملة اذ قفز عن فلسطين. لقد تحدت ثورات الربيع الإخوان والسعودية وروسيا وامريكا وايران ولكنه لم تتحد حتى الان بشلك مباشر اسرائيل التي تنظر بدهشة وعدم يقين لما يحدث حولها دون ان تستوعب بعد تداعيات الحادث التاريخي الكبير. في الحقيقة تبقى اسرائيل غير قلقة إزاء ما يحدث حولها طالما انها تتمتع بحزام امني وسياسي ثابت من قبل السلطة الفلسطينية واتفاق اوسلو. تنظر حركتي حماس وفتح بذعر للأحداث في العراق ولبنان، فقد قمعت حماس وبقوة حركة الشباب التي تنظمت في الفيسبوك “بدنا نعيش” اما فتح فقد امرت باغلاق اكثر من 50 موقع الكتروني معارض للسلطة على الإنترنيت. فعندما يطرح ثوار لبنان والعراق مشاكل مثل الفساد وانعدام الخدامات وغياب سلطة القانون والقضاء المستقل وتتميز السلطتين هناك بالتعيينات على اساس الانتماء الفصائلي، فهذا بالضبط ما يحدث في الضفة الغربية وغزة ولكن بخلاف واحد وحيد، هذه السلطة وهذا الفساد ممول من قبل اسرائيل وقطر مقابل التنسيق الامني والهدنة مع الاحتلال.
واذا ما نظرنا الى داخل اسرائيل نفسها فقد وصل وضع المجتمع العربي الى الحضيض، من اغتيالات، الى الاقتتال العائلي، العنف احتل كل شارع والرعب يسيطر على الناس. اعضاء الكنيست العرب يلقون اللوم على الشرطة الإسرائيلية ويقيمون خيمة اعتصام امام مبنى الكنيست بينما في تل السبع وطرعان تتناحر الحمائل ويؤخذ الناس بالثأر وفي الوقت نفسه يتعرض رؤساء المجالس لإطلاق النار على خلفية خلافات حول نتائج الانتخابات. حان الوقت ليعترف المجتمع العربي في اسرائيل بالحقيقة بان العدو هو داخلي، العائلية هنا هي مثل الطائفية في لبنان مصدر العنف والفساد والتخلف ولا تنفع الشعارات الرنانة ضد الشرطة والحكومة طالما ليست هناك معركة ضد النظام العائلي. حان الوقت لنقول لا للعائلية، لا للفساد، لا للتعيينات حسب الانتماء العائلي، لا للجان الصلح والاعتماد على العادات والتقاليد بدل القانون والقضاء، لا لقمع النساء والتحريض على الكراهية في المساجد فكل هذه الظواهر تولد العنف المجتمعي الذي يحرق الاخضر واليابس في المجتمع العربي.
نريد ثورة شعبية عميقة لاجتثاث كل هذه الظواهر لكي نتمكن من القضاء على العنف. فلا الشرطة او الاحزاب العربية او الحكومة او رؤساء السلطات المحلية الذين انتخبوا على اساس عائلي بإمكانهم مواجهة الكارثة التي نعيشها. حان الوقت ليقول جيل الشباب هنا مثل ما يقول شباب لبنان وبصوت عالي “كلن يعني كلن” ولا احد احسن من غيره.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.