أحيت مصر يوم الجمعة الماضي ذكرى مرور سنتين على ثورة 25 يناير، التي أدّت إلى إسقاط حسني مبارك وإلى إنهاء ستّين عامًا من الدكتاتوريّة. أنذرت الصراعات في السنتين الأخيرتين بصراع بين لاعبين مركزيّين: الإخوان المسلمين الذين تولّوا السلطة، والمعارضة التي توحّدت باسم “جبهة الإنقاذ”. في الوقت الذي امتنع فيه الإخوان المسلمون عن دعوة أعضائهم للخروج إلى الشوارع للوقوف إلى جانب السلطات، تحيّنت المعارضة الفرصة لإبراز قوّتها واحتلّت الميادين في المدن المصريّة رافعة شعار “الثورة مستمرّة” وبالدعوة إلى إسقاط النظام الجديد.
حادثة قتل أفراد من جمهور كرة القدم
منذئذ وقعت تصادمات كثيرة بين المعسكرين اللذين يحاربان من أجل صورة مصر المستقبليّة وسقط عدد كبير من الضحايا، لكنّ الأسبوع الأخير بيّن أنّ الفوضى هيمنت على الساحة. أحكام الإعدام التي أصدرتها المحكمة في بور سعيد ضدّ عدد من جمهور فريق كرة القدم “المصريّ” بتهمة قتل أفراد من جمهور النادي “الأهليّ” من القاهرة، في نهاية لعبة كرة القدم في شباط 2012، أشعلت فتيل الاحتجاجات في مدن قناة السويس: الإسماعيليّة والسويس وبور سعيد. أعداد غفيرة من المحتجّين هاجموا أقسام الشرطة والمؤسّسات العامّة، وأحرقوا مكاتب الإخوان المسلمين.
عدد القتلى في مدن القناة أخذ في التزايد، واتّخذت الشرطة كافّة الوسائل لصدّ الجماهير الغفيرة التي هاجمت أقسام الشرطة والسجون في محاولة لإطلاق سراح المعتقلين. في اللحظة التي أصدر فيها القاضي حكمه على مشجعي “المصريّ”، اقتحمت السجن عائلات مسلّحة، ونتيجة لذلك لاقى شرطيّان مصرعهما، وكذلك عدد كبير من المواطنين بين قتلى وجرحى. الغضب ضدّ الإخوان المسلمين والدعوة إلى إسقاط نظامهم تتزايد. ردّ فعل مرسي الفوريّ نمّ عن ارتباك كبير. فقد أعلن عن العمل بقوانين الطوارئ وعن منع تجوّل ليليّ في مدن القناة. لم يصمد هذا القرار، لأنّ المظاهرات الليليّة أخلّت بمنع التجوّل، ورفض الجيش تطبيق منع التجوّل، ممّا اضطرّ مرسي للتراجع عن قراره.
ما حدث في بور سعيد يوضّح الصورة بكاملها. حكم الإعدام لم يُعلَّل، والأدلّة لم تكن قاطعة، وضبّاط الشرطة الذين كانوا مسؤولين عن فرض الأمن في ملعب كرة القدم لم تطلهم يد القانون، والذي دفع الثمن كان جمهور “المصريّ”. في الجهة المقابلة وقف أفراد جمهور النادي “الأهليّ” الذين كانوا في الصفوف الأولى بين الثوريّين، وهدّدوا بإحراق القاهرة إذا لم تصدر المحكمة حكمها على المتّهمين. الأحكام الصادرة أدّت في الوقت نفسه إلى فرح عائلات القتلى السبعين في القاهرة، وغضب أهالي بور سعيد، بسبب استسلام السلطات لمشاعر انتقام جمهور “الأهليّ”، ولم تحرّك ساكنًا تجاه المسؤولين الحقيقيّين عن المذبحة.
لا ثقة بالإخوان المسلمين
في عهد مبارك، كانت الفجوة عميقة بين المواطن والسلطة. المواطن المصريّ لا يثق بالرئاسة والمحاكم وسائر مؤسّسات الحكم، التي كانت وما زالت فاسدة. المهمّة الأساسيّة التي تواجهها الأحزاب والحركات التي أدّت إلى إسقاط مبارك هي بناء أسس جديدة لنظام جديد. الجيش والشرطة والمحاكم والسلطات المختلفة يجب أن تمرّ بتغيير أساسيّ لخدمة المواطن وليس السلطة الحاكمة.
لكن منذ فاز الإخوان المسلمون بالرئاسة نلاحظ استمرارًا للنظام القديم برداء إسلاميّ جديد. يعتبر الإخوان المسلمون فوزهم بالرئاسة ترخيصًا يخوّلهم الاستيلاء على الدولة، ولذلك نراهم يسيرون في طريق مبارك، الذي عيّن المخلصين له في جميع المناصب العامّة. انتُخب مرسي للرئاسة بطريقة ديمقراطيّة، وبحسب تصوّر الإخوان المسلمين ينبغي عليهم ضمان استمرار حكمهم للستّين عامًا المقبلة.
هكذا تصف ذلك سماء سليمان في موقع “المصريّ البديل:”إلا أن ما رآها الشعب من السلطة السياسية الجديدة والتي كان من المفترض أنها سلطة لكل المصريين أنها سلطة لقطاع صغير جدا من الشعب وهم الإخوان، وقد ظهر هذا جليا في السعي الحثيث من قبل السلطة على أخونة كافة قطاعات الدولة بالفعل وخاصة في الصف الثاني استعدادا لوضع مسئول إخواني على رأس كل قطاع وبالتالي يتحكموا في اتخاذ القرارات التي تحقق مصالحهم وبقائهم في السلطة.”
الخطوات التي اتّخذها مرسي منذ تولّيه الرئاسة اقتصرت على تعزيز الشعور بأنّ الإخوان المسلمين يحاولون سرقة الثورة. القشّة التي قصمت ظهر البعير كانت الإعلان الرئاسيّ في نوڤمبر الماضي، الذي صادر فيه الرئيس لنفسه صلاحيّات دستوريّة مطلقة، والتصديق على الدستور خفية بخلاف إرادة المعارضة في ديسمبر.
حدث كلّ ذلك بعد اتّفاقيّة الهدنة بين حماس وإسرائيل بوساطة مصريّة، والاتّفاق بين مصر وصندوق النقد الدوليّ حول مساعدات ماليّة تبلغ 4.8 مليار دولار. كلّ ذلك جعل المعارضة تدّعي أنّ الانقلاب الدستوريّ قد تمّ بموافقة إسرائيليّة أمريكيّة، مقابل الهدوء الذي تحقّق لإسرائيل. زيارة أمير قطر ووعوده بتحويل مليارات الدولارات للاقتصاد المصريّ، زادت من التخوّف بأنّ قطر تموّل الإخوان المسلمين، وتحاول السيطرة على مصر. الفوضى تعمّ مصر والعنف يملأ شوارعها. الاستفتاء الشعبيّ الذي صادق على الدستور في ديسمبر لم يهدّئ الشارع، والانتخابات المقبلة للبرلمان تزيد من حدّة الجدل السياسيّ، الذي خرج من أستوديوهات التلفزيون المهذّبة إلى الميادين الصاخبة والغاضبة.
إخوان ومسلمون، لكنّهم نيوليبراليّون
قوّة المعارضة المصريّة، التي تضمّ في صفوفها جميع التيّارات التي تعارض الدولة الدينية؛ الليبراليّين والناصريّين والاشتراكيّين وحركات الشبيبة- تنبع من الوضع الاقتصاديّ الصعب الذي تعاني مصر منه، ومن السياسة الاقتصاديّة التي تنتهجها حكومة هشام قنديل. اتّضح أنّ الإخوان المسلمين يواصلون النهج الرأسماليّ النيوليبراليّ، ويخطّطون رفع الضرائب وإلغاء الدعم وخصخصة القطاع العامّ، وهذه المرّة لصالح الرأسماليّين المقرّبين إليهم. وهم يتّهمون العمّال بالمسؤوليّة عن الوضع الاقتصاديّ المتردّي، بسبب الإضرابات والمظاهرات التي تطالب بما وعدت به الثورة، العدالة الاجتماعيّة وكسب الرزق بكرامة.
تعاني مصر من صراع ثقافيّ وجغرافيّ كبير. يعتمد الإخوان المسلمون على الفلاّحين والملايين من الأمّيّين. بخلاف ذلك، مراكز المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندريّة، ومراكز العمّال الكبرى كالمحلّى، تؤيّد المعارضة المدنيّة. عدد أصوات الفلاّحين الكبير لا يعكس الوزن السياسيّ، وبالتالي حكم الإخوان المسلمين آخذ في الضعف. لذلك يضطرّ الجيش للدخول إلى اللعبة السياسيّة، على أثر تحذير رئيس الأركان المصريّ عبد الفتّاح السيسي بأنّ الدولة المصريّة على شفا الانهيار.
التحذير الذي وجّهه الجيش إلى جميع الأطراف يدلّ على أنّه لا يخضع لسلطة الرئيس، وإنّما يعتبر نفسه طرفًا ثالثًا ووسيطًا في المعادلة. هناك تطوّر مفاجئ آخر، يؤدّي إلى عزل مرسي بمدًى أكبر، وهو انضمام حزب “النور” السلفيّ إلى معسكر المعارضة. في البرلمان الذي تمّ حلّه، تمتّع مرسي بأكثريّة مستقرّة، بعد أن حاز التحالف بين السلفيّين والإخوان المسلمين على ثلثَي الأصوات. انضمام السلفيّين إلى المعارضة يهدّد إمكانيّة الإخوان المسلمين بتحقيق أكثريّة في البرلمان. يبدو أنّ مساعي قطر للسيطرة على مصر من خلال الإخوان المسلمين قد أثارت غضب السعوديّة. السعوديّة تعتبر الإخوان المسلمين تهديدًا على حكمها، ممّا أدّى بها إلى دفع الحركة السلفيّة، التي تدعمها، إلى الانتقال إلى معسكر المعارضة.
خطر الحرب الأهليّة
على ضوء هذه التطوّرات السياسيّة، قام محمّد البرادعي، أحد قادة “جبهة الإنقاذ”، بالدعوة إلى مفاوضات مصالحة بين الرئيس والمعارضة لوضع حدّ للفوضى السائدة في مصر. في الوقت الذي يقوم فيه شباب فوضويّون بلباسهم الأسود، “البلاك بلوك”، بحرق المباني العامّة والشغب يملأ الشوارع، من الواضح أنّ على الطرفين التعقّل قبل أن تتدهور الثورة نحو حرب أهليّة. المشكلة هي أنّ الإخوان المسلمين يجدون صعوبة في قبول مطالب المعارضة: تعديل الدستور وتعيين نائب عامّ جديد وتغيير قانون الانتخابات وتشكيل حكومة مصالحة وطنيّة مكان الحكومة الحاليّة. كما وتطالب المعارضة بأن يكون الجيش طرفًا في المفاوضات وضامنًا لتنفيذ الاتّفاقات.
في هذه الأثناء، يرفض مرسي تشكيل حكومة جديدة وإشراك الجيش في المفاوضات، الأمر الذي يزيد من حدّة الصراع. دعت المعارضة إلى مظاهرة غفيرة اليوم (الجمعة) شعارها إسقاط الإخوان المسلمين، الذين بدورهم يتّهمون المعارضة بالعمالة مع رجال مبارك والبلطجيّة الذين يفرضون الإرهاب على المواطنين المصريّين. مع ذلك، بعد سنتين من الثورة، يبدو أنّ جميع الأطراف، الإخوان المسلمين والجيش والمعارضة المدنيّة، تعلّموا محدوديّة القوّة.
لم تنجح الثورة حتّى الآن في خلق إجماع وطنيّ حول مسألة ما هي الديمقراطيّة وما هي قواعد اللعبة الديمقراطيّة. تعلّم الإخوان المسلمون بالطريقة الصعبة أنّ مصر ليست إيران، وعلى المعارضة أن تتعلّم التعايش مع حركة لم تولد بالأمس، وستبقى في مصر طالما ساد فيها التخلّف والجهل.
من يدّعي أنّ الربيع العربيّ قد فشل، سيعرف خطأه في المستقبل. الثورات الكبرى كانت دائمًا مليئة بالصراعات الأيديولوجيّة الصعبة، التي وصلت أحيانًا إلى حدّ الحرب الأهليّة، كما حدث في الولايات المتّحدة وروسيا وفرنسا. هذه هي طبيعة التاريخ، هذه هي طبيعة الثورات الكبرى. نشبت في مصر ثورة هائلة، جعلت الشعب كلّه سياسيًّا ومشاركًا ويناضل من أجل صورة مصر المستقبليّة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.