نقلا عن صحيفة كل العرب
عودة المظاهرات المليونية لميدان التحرير في القاهرة احتجاجا على الإعلان الدستوري الأخير للرئيس محمد مرسي، تشير إلى أن نبض الثورة لم يهدأ. ادعاءات الكثير من المثقفين والمفكرين العرب وغير العرب بأن الربيع العربي هو عمليا خريف عربي، بسبب فوز الإخوان المسلمين في تولي الحكم، تُظهر قصر نظر هؤلاء المفكرين وتسرّعهم في الحكم على الأمور، وأكثر من ذلك انما يدل على عدم إدراك مدى عمق الثورة العربية.
الإعلان الدستوري اشتمل على توسيع صلاحيات الرئيس على نحو يتيح له فصل النائب العام وتعيين آخر مكانه، تحصين الجمعية التأسيسية التي من المفترض ان تسن الدستور ومنع اية امكانية لحلها من قبل القضاء. الادعاء ان الموضوع هو مؤقت لمدة شهرين تقريبا الى حين سن الدستور وانتخاب البرلمان، والادعاء بان فصل النائب العام جاء لانه تهرب من محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير، لا يقنعان القوى الثورية التي تجزم بأن مرسي ينسب لنفسه صلاحيات لم يتمتع بها حتى مبارك نفسه.
القوى الثورية جميعها توحدت لصد الإعلان، معتبرة الاعلان محاولة من مرسي لضرب خصومه السياسيين، علما ان ربع اعضاء الجمعية التأسيسية من ليبراليين انسحبوا من الجمعية على خلفية خلاف حاد حول طبيعة الدولة، هل تكون مدنية ام دينية، هل تكون “الشريعة” ام “مبادئ الشريعة” هي المرجع الاساسي للتشريع. ويأتي الاعلان الدستوري في محاولة من مرسي لقطع الطريق امام امكانية قيام القضاء بإلغاء الجمعية التأسيسية، التي يتمتع الاخوان والقوى السلفية بأغلبية ساحقة فيها.
اختلال التوازن داخل الجمعية التأسيسية يشير الى ان الاخوان يتصرفون بالجمعية التأسيسية وبمستقبل البلاد ككل من منطلق المصلحة الفئوية الحزبية والطائفية المحضة، يحاولون التفرد في القرار، ولا يأخذون في الاعتبار أهمية إفساح حيز لمختلف القوى السياسية والاجتماعية التي تشكل المجتمع المصري.
واليوم، وإزاء الخطوة المغامرة التي قام بها مرسي، يهدد الاخوان بجر البلاد الى حرب اهلية لا تحمد عقباها، وكل ذلك من اجل خدمة أجندة حزبية بينما المطلوب هو الوصول الى دستور يعبر عن كل اطياف المجتمع للمدى البعيد. القوى الثورية تتهم مرسي انه في حال انجرار البلد الى هذا الموقع الخطير فسيكون هو من يتحمل المسؤولية عن هذا المآل.
ما الذي جعل مرسي يقوم بهذه الفعلة، علما انها ليست المحاولة الاولى التي يقوم فيها بفصل النائب العام ذاته؟ السر هو في التوقيت. قبل قليل كان مرسي راعي اتفاق وقف اطلاق النار في غزة، وقد استعادت مصر من خلاله دورها المحوري في المنطقة، وحصل بالمقابل على شكر الرئيس الامريكي اوباما ورئيس الحكومة الاسرائيلي نتانياهو وقادة حماس. ويبدو ان مرسي انتشى من “الانتصار” الذي جاء على دماء الغزازوة لدرجة جعلته يخطئ فهم “المصاروة”، فقد ظن انه يستطيع ان يتحول الى فرعون جديد دون ان يلتفت الى ان الشعب المصري لا تغره هذه البطولات، بل هو يريد عدالة اجتماعية وحلولا فورية للكوارث الاجتماعية والاقتصادية التي لم تعد تطيق الاحتمال. فكان الرد سريعا في الميدان. وعادت نفس الوجوه تملأ الساحات ونفس الطاقات تذكر مرسي بسبب وصوله الى الحكم، وبأنهم هم المرجعية الحقيقية لحكمه.
والواقع ان الاضرابات والاعتصامات مستمرة بلا هوادة، ويشارك فيها اطباء ومعلمون وعمال وعاملون في المواصلات العامة وغيرهم، وهو ما لا يجعل حياة مرسي سهلة.
كل هذا الحراك الاحتجاجي يشير الى ان البلد تنبض بالحياة، وهناك ديمقراطية حقيقية تبنى في الميدان، الناس مرت عملية تسييس مكثّفة، وصارت تتحدث سياسة في البيوت، الأمر الذي كان ممنوعا منعا باتا قبل الثورة لان “الحيطان لها ودان”، كما يقول المثل السائر.
ولماذا اقول قولي هذا؟ اقوله لأنه إذا كانت مصر بكل همومها التي تفوق همومنا بكثير قد خرجت عن بكرة ابيها لتحمي ثورتها، فما الذي ينقصنا لنخرج نحن ايضا نطالب لأنفسنا بحقوق لنا؟ نحن كمجتمع يرزح تحت القمع والقهر والعنف والفقر، ونعاني التمييز العنصري والاضطهاد، لنا ايضا طاقات اجتماعية شبابية نسائية وعمالية هائلة، لا تزال مكبوتة لم تعبر عن نفسها.
المشكلة الأساسية التي تعترض طريقنا هي تحول ابناء المجتمع الى افراد كل منهم منهمك بذاته، بتطوير نفسه بمعزل عن مجتمعه، حتى العائلة نفسها تعمل المستحيل لتبعده عن السياسة والنشاط الاجتماعي كي يتخرج طبيبا او محاميا ولكنه يكون معزولا عن قضايا مجتمعه. اننا نربّي أفرادا ولا نربّي مجتمعا. الكثيرون يفرّون من البلدة ويتركونها نهبا للتخلف والعجز ويبحثون عن أمل وحرية زائفين في المدن الكبرى. ولكن الأمل لا يتحقق إلا بإعادة رص الصفوف والتضامن الاجتماعي، لأنه شرط أساسي لإحداث التغيير. لا يمكن البقاء في موقع الضحية والبكاء على مصيرنا وتعاستنا، فهناك من هم اتعس منا وقاموا، كذلك نستطيع نحن ان نقوم، ومن موقع القوة ان نجد لنا شركاء تقدميين يهود ايضا ممن خرجوا الى شوارع الاحتجاج وهتفوا معنا “تغيير، حرية عدالة اجتماعية”، بالعبرية والعربية.
ما أجمل ثورتك يا مصر ما أقوى تضحياتك يا سورية، ما أحقنا نحن أيضا بحراك اجتماعي وسياسي يضع قضايانا ويضعنا نحن ايضا في الصف الامامي مع شعوبنا العربية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.