لا أحد يعلم كيف ستنتهي الأزمة الحالية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بعد قرار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، التوقيع على 15 معاهدات دولية التابعة للأمم المتحدة بتحد مباشر لوزير الخارجية الامريكي الذي حذر الفلسطينيين من اتخاذ لمثل هذه الخطوة. جاء هذا التوقيع احتجاجا على رفض الحكومة الاسرائيلية الوفاء بالتزاماتها بشأن تحرير الدفعة الرابعة من الأسرى القابعين في السجون الإسرائيلية من الفترة السابقة لاتفاقات اوسلو، وضمنهم 14 أسيرا من عرب 48. يسهل التشكيك في مدى جدية أبو مازن في تنفيذ تهديده، وأيضا في جدية تهديدات نتانياهو بنسف المفاوضات، لأن هذا سيعني تقويض أركان السلطة الفلسطينية التي ضمنت لإسرائيل أمنها وكرّست الاستيطان والاحتلال.
الخيارات أمام السلطة الفلسطينية محدودة، ذلك لتعلّقها التام بالولايات المتحدة. توجه أبو مازن للأمم المتحدة سيدفع الكونغرس الامريكي لوقف المساعدات المالية مما سيقود لانهيار السلطة اقتصاديا. السلطة الفلسطينية قائمة بالأساس لاستلام الاموال التي يذهب جلّها لأجهزة الأمن، وهذه تعمل تحديدا على ملاحقة عناصر حماس. قد تعترف الأمم المتحدة بدولة فلسطين ولكن هذا سيعني بالنسبة للسلطة موتها، لأن وجودها مرهون بالمساعدات المالية الامريكية وبعائدات الجمارك التي تجبيها اسرائيل لصالحها.
امتداد عمر السلطة إلى عشرين عاما أنسى البعض وظيفتها الأصلية، فقد قامت لتكون جهازا مؤقتا هدفه التفاوض، والمفروض أن ينتهي وجودها بانتهاء المفاوضات وإقامة الدولة. أما الهدف من التمويل السخي الذي يصل السلطة فهو إنعاش العملية التفاوضية، ولكنه هو أيضا تمويل مؤقت. وها قد مضت 20 سنة، دون أن تلتزم إسرائيل بتنفيذ تعهداتها، بل بالعكس قامت بتوسيع المستوطنات وعرقلت بشكل منهجي إقامة الدولة الفلسطينية.
الخطأ الأكبر الذي ارتكبته القيادة الفلسطينية في مطلع التسعينات، كان نقل القضية الفلسطينية من المرجعية الدولية المتمثلة بالأمم المتحدة إلى مرجعية الولايات المتحدة رغم عدم اعترافها في حينه بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة ذات سيادة. موافقة الفلسطينيين على انشاء سلطة فلسطينية دون التزام اسرائيل بإزالة الاستيطان، قادت إلى نتائج وخيمة، أولاها توسيع الاستيطان الذي قطع أوصال الدولة الفلسطينية لدرجة جعلت من المستحيل قيامها؛ والنتيجة الثانية الانقسام العميق بين حركتي فتح وحماس، بسبب الإحباط الشعبي الكبير من السلطة الفلسطينية إضافة لتردي الأوضاع المعيشية في المناطق المحتلة. لقد أدى اتفاق اوسلو لخلق كيانين فلسطينيين منفردين واحد في الضفة الغربية والثاني في غزة. هذا الضعف الكبير في الجانب الفلسطيني يخدم مطامح اسرائيل في إدامة سيطرتها على الضفة الغربية.
عواقب اتفاق اوسلو لم تنته عند حد التسبب بالانقسام الفلسطيني المدمر، بل تعدّاه إلى إحكام سيطرة اليمين على الحكم في إسرائيل. فمنذ اغتيال رئيس الوزراء، إسحاق رابين، بدأ اليسار الاسرائيلي يتراجع امام اليمين، بسبب عدم استعداده لمواجهة المستوطنين. الاستيطان ليس حجر عثرة أمام الدولة الفلسطينية فحسب، بل هو القاعدة الايديولوجية والسياسية لليمين الاسرائيلي، وتوسع الاستيطان يتماشى مع تزايد نفوذ المستوطنين على الساحة السياسية المحلية على حساب اليسار. مع تراجع مكانة اليسار تراجع أيضا موقفه من الاحتلال، وبات يشكل جزءا من الإجماع حول القبول بما يسمى “الكتل الاستيطانية” بما في ذلك مستوطنة أريئيل والمناطق المحاذية للقدس. هذا الحال يعزز آمال المستوطنين المتشددين بضم البؤر الاستيطانية أيضا إلى قلب الإجماع، الأمر الذي سيعني فعليا تطبيق دولة إسرائيل الكبرى وإنهاء أي أمل بإقامة الدولة الفلسطينية.
الأزمة الحالية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي تعبير عن استنفاذ اتفاق اوسلو نفسه ونهاية الطريق. فبدل التفاوض مع إسرائيل على القضايا الجوهرية يتم التفاوض على أمور هامشية. بذلك تكرر السلطة أخطاء الماضي، عندما تنازلت عن التفاوض على المستوطنات كشرط لتوقيع معاهدة السلام، كما تنازلت عن قضية الأسرى الذين كان من الطبيعي أن يتم الإفراج عنهم تلقائيا مع توقيع الاتفاقية. واليوم، يتم ابتزاز السلطة واشتراط تحرير الأسرى مقابل الموافقة على تمديد فترة المفاوضات لسنة إضافية، بعد انقضاء الأشهر التسعة المحددة للوصول للحل النهائي.
قضية الأسرى ليست موضوعا للتفاوض بل هي خاضعة للقضية الأساسية، وهي الوصول لاتفاق حول الحدود، الاستيطان، القدس واللاجئين. وكان المفروض الإفراج عن كافة الأسرى بنهاية نيسان الحالي، مع التوقيع على معاهدة سلام تنهي النزاع بين الطرفين، ولكن مجرد إدراج قضية الأسرى كموضوع للتفاوض يدل على عدم ثقة الجانب الفلسطيني بان اتفاقا من هذا القبيل وارد أصلا، وذلك بسبب المواقف المتطرفة لحكومة نتانياهو.
إزاء هذا الطريق المسدود تعالت مؤخرا الأصوات المنادية بالتغيير، وذلك من عدة اتجاهات: التيار المركزي المعني باستمرار السلطة الفلسطينية والمستفيد منها يطالب بالتوجه للأمم المتحدة حفظا لماء الوجه في مواجهة الاستياء الشعبي من فشل السلطة؛ وهناك من يدعو لانتفاضة شعبية سلمية بصيغة انتفاضة “اطفال الحجارة” الأولى؛ وهناك من ينادي بالقفز عن مطلب الدولة المستقلة التي باتت ضربا من المستحيل ويدعو لتبني حل الدولة الواحدة للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني.
غير أن جميع هذه الخيارات ليست خيارات واقعية، وذلك لانعدام الظروف السياسية الملائمة. فالشعب الفلسطيني بات رهينة لقيادة منقسمة على نفسها وفاشلة في آن. لقد فشلت سلطة فتح في كل الميادين، في التفاوض وفي بناء أسس قانونية واقتصادية لصالح المواطن الفلسطيني. اما حماس فقد اخطأت في نهج المقاومة وفي تحالفاتها الإقليمية الأمر الذي أدى لحصار من قبل مصر واسرائيل معًا، يدفع الشعب ثمنه الأعظم.
وعليه، فأي اجتهاد يتجاوز الضرورة الملحة لبناء تيار سياسي ثالث، بديل عن الثنائي فتح وحماس، سينتهي بالفشل. ان التغيير السياسي في فلسطين هو شرط لا بد منه لإحداث تغيير سياسي داخل اسرائيل أيضا. فالتغلب على قيادتي فتح وحماس الفاشلتين، هو مدخل لهزيمة اليمين المتطرف الاسرائيلي.
الاستمرار في مفاوضات عبثية يصب في صالح المستوطنين والحكومة الاسرائيلية الحالية، ولا بد من إيقافها مما قد يمهد لانتهاء السلطة الفلسطينية. نعم، لقد تحولت السلطة الفلسطينية إلى عقبة أمام إقامة الدولة الفلسطينية، فاليمين الاسرائيلي يستخدمها مرتين ليبرر عدم وفائه بالتزاماته: مرة يتهمها برفض السلام والاعتراف بيهودية اسرائيل، ومرة لإقناع المواطن الإسرائيلي بان الاحتلال لم يعد مشكلة وجودية لان السلطة الفلسطينية تسيطر على الوضع الأمني وحماس محاصرة وضعيفة.
من غير الواضح كيف ستنتهي المحنة الحالية، ولكن المؤكد ان الطريق الحالي لا يقود إلا لمزيد من المعاناة والكوارث الإنسانية والانقسام. لا بد من البحث عن خيار ثالث لتوحيد الشعب وراء برنامج كفاحي بعيد عن التزامات اتفاق اوسلو وبناء قيادة جديدة قادرة على تجنيد الشعب من اجل دحر الاحتلال وانهاء الاستيطان.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.