بعد اقل من شهر على اختطاف المستوطنين الثلاثة وأسبوعين على العثور على جثتهم، انفتحت جولة جديدة من الحرب بين إسرائيل وحماس. لا شك أن المسؤول الرئيسي عن نشوب هذه الحرب هو رئيس الحكومة الاسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الذي أراد استغلال هذا الظرف الدقيق لتنفيذ مآربه السياسية. بدل التركيز على البحث عن المخطوفين قرر نتانياهو اتهام الشعب الفلسطيني كله بالخطف، وشن على الضفة الغربية عملية “عودوا أيها الأخوة” بهدف تصفية وجود حماس هناك وإحباط المصالحة الفلسطينية.
ورغم يقين الحكومة الإسرائيلية في الساعات الأولى للعملية بأن المخطوفين الثلاثة ليسوا على قيد الحياة، إلا أنها خلقت حالة مشحونة من الترقب، وجنّدت وسائل الإعلام لتعبئة الرأي العام لدعم حكومة اليمين وإسكات كل الأصوات في الداخل والخارج التي دعت نتانياهو لقبول حكومة الوحدة الفلسطينية واستئناف المفاوضات.
خطة نتانياهو ضد حماس اعتمدت على نفس التوجه الذي عمل به الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر بحق الإخوان المسلمين. الحرب التي شنتها حكومة الانقلاب في مصر على الاخوان، إدراجهم على قائمة الإرهاب والأحكام التي صدرت بالجملة بإعدام قادتهم وكوادرهم، كلها شجّعت نتانياهو على القيام بعملية تصفية مماثلة تجاه حماس في الضفة الغربية.
وبينما اعتمد السيسي على حركة “تمرد” التي جندت الرأي العام المصري ضد نظام محمد مرسي، اعتمد نتانياهو على ضعف حماس التي اضطرت للتنازل عن الحكم وتسليم المفاتيح لرئيس السلطة الفلسطينية، نظرا للطوق المحكم الذي فرضته عليها مصر وإسرائيل. الإجراء الأساسي الذي وضع حماس في ضائقة كبيرة كان خرق اسرائيل لصفقة “شاليط”، واعتقالها محرَّري الصفقة من قادة حماس.
التحريض الإسرائيلي الذي رافق الضربة الأمنية في الضفة الغربية ونداء رئيس الحكومة نفسه بالانتقام، وجدا آذانا صاغية لدى عدد من الشباب الإسرائيلي الذين اقترفوا عملهم الإجرامي الوحشي ضد الشاب المقدسي محمد ابو خضير. بذلك، قلبت هذه العملية البربرية الأمور رأسا على عقب. فقد أدخلت اليمين الإسرائيلي إلى حالة من التراجع والدفاع عن النفس بعد ان انكشف مدى تغلغل الحقد والعنصرية والبربرية في المجتمع الاسرائيلي. وجاء رد فعل الشباب الفلسطيني في القدس المحتلة وداخل مناطق ال48 ليكشف بأن التطبيع مع الاحتلال أمر مستحيل، مما بدّد الوهم الذي بثّه اليمين الإسرائيلي بان حل القضية الفلسطينية مستحيل وأنه من الممكن العيش الطبيعي في ظل الاحتلال.
قد تكون هذه الهبة (المحدودة مقارنةً بهبة عام 2000) هي التي شجّعت حماس على المواجهة الحالية في محاولة للخروج من عنق الزجاجة. لا شك ان نتانياهو هو الذي بادر للهجوم، ولكن حماس هي التي قررت جرّ اسرائيل الى المواجهة الحالية في غزة، علما أن إسرائيل كانت مترددة في الدخول لمثل هذه المواجهة.
ترى حماس في المعركة الحالية عملية دفاع عن النفس، فهي قدمت كل التنازلات الممكنة وعلى رأسها حل الحكومة المقالة في غزة، بعد ان بقيت بلا ميزانية لتمويل نفقات الحكومة وبعد ان وصل الاقتصاد في غزة الى الحضيض. استجابت حماس لكل شروط ابو مازن، ووافقت على برنامجه السياسي، واضطرت ان “تبتلع” حتى التنسيق الأمني “المقدس” مع اسرائيل ونهج التفاوض معها، ورضخت لشروط البيت الابيض الذي اعترف بحكومة الوحدة الجديدة وأعلن استعداده للتعاون معها – ولكن كل هذا لم يسعف حماس.
لقد رفض ابو مازن صرف معاشات 45 الف موظف تابعين لحماس في غزة، وفي نفس الوقت استغل نتانياهو عملية الاختطاف لتصفية حماس في الضفة تحت أبصار وبالتعاون المطلق مع الجهاز الأمني الفلسطيني. فما بقي أمام حماس بعد أن حُشرت في الزاوية سوى الهجوم.
كل الأطراف في حالة من الافلاس السياسي وفقدان الحل الجذري للقضايا التي تواجههم. حملة نتانياهو ضد حماس سددت لها ضربة كبيرة، ولكنها سبّبت ضررا أكبر لأبي مازن الذي اتُّهم بالخيانة بسبب التنسيق مع الاحتلال. اما حماس فرغم كل محاولاتها لتمجيد المقاومة والصمود فقد سلّمت سياسيا بان الكفاح المسلح ضرره اكبر من نفعه، ولو لم يحشرها نتانياهو في الزاوية لما قصفت تل ابيب بصواريخ تم إسقاطها قبل الوصول إلى الهدف.
اما نتانياهو، فالخيارات أمامه ضئيلة: حماس تبقى بالنسبة له أهون الشرين، فهو لا يريد احتلال غزة من جديد، وفي نفس الوقت يخشى دخول “داعش” الى الفراغ في حال سقوط حماس. الخوف من هذا السيناريو يمنح في الوقت الحالي الحصانة لقيادة حماس، مما يوفر لها هامشا ضيقا ولكنه حيويا للمناورة.
وهنا لا بد من الاضطلاع بالداخل الاسرائيلي. فالجمهور العربي يعتبر الجمهور الاسرائيلي كتلة متجانسة تؤيد اليمين، وليست الأمور كذلك. فمنذ ان احبط نتانياهو مساعي وزير الخارجية الامريكي، جون كيري، للوصول لاتفاق مع السلطة الفلسطينية، تعالت الاصوات المعارضة من داخل وخارج الحكومة الاسرائيلية. كما تبين منذ عملية الاختطاف بان جزءا لا بأس به من الجمهور الإسرائيلي ينظر بعين الريبة لتحركات نتانياهو وينتقده على استغلاله لعملية الخطف لتحقيق أغراضه السياسية.
إشارة هامة قد تعبر عن الجو العام في تل أبيب تحديدا، هو عزوفه عن المظاهرة التي نظّمها اليمين تضامنا مع المخطوفين ولإبراز الوحدة بين سكان تل ابيب وبين المستوطنين. امتناع أهالي تل ابيب عن المشاركة في المظاهرة كان تعبيرا عن سخطهم على المستوطنين وعلى سلوك اليمين الفاشي. تشعر شريحة كبيرة ومؤثرة من الجمهور الاسرائيلي بان نتانياهو هو سبب الأحداث الدامية بسبب افتقاده البرنامج والرغبة لحل القضية الفلسطينية. ويعتبر هؤلاء ان الاحتلال هو مصدر الكوارث والاعمال البربرية التي تزعزع بين الفينة والاخرى الجمهور الاسرائيلي.
نهج الاحتجاج والمقاومة بكل انواعها ليس كافيا بل على القيادات الفلسطينية الانتقال لمرحلة المبادرة. بدل شطب المجتمع الاسرائيلي برمته لا بد من التمييز بين من هو ضد الاحتلال ويريد مجتمعا ديموقراطيا ويرى المستوطنين عدوا له، وبين من يؤيد اليمين وبرنامجه العنصري الاستيطاني. لا بد من العمل على توسيع هذه الهوة الكبيرة، لصالح القضية الفلسطينية.
ان التنسيق مع نتانياهو هو خطأ فادح يقوّي اليمين، ولكن شطب كل الشعب الاسرائيلي كما تفعل حماس ومعظم التيارات القومية، يقوي هو أيضا اليمين الفاشي الذي يدّعي عدم وجود شريك فلسطيني للسلام.
اذا كان نتانياهو يتدخل في الشؤون الداخلية للفلسطينيين ويعمل على تفكيك حكومتهم، فعلى الفلسطينيين أيضا العمل من أجل إسقاط حكومة اليمين، من خلال التواصل مع كل الاحزاب والتيارات التي تريد حلا سلميا على أساس إزالة الاحتلال والاستيطان.
ان إسقاط حكومة اليمين ليس حلا بحد ذاته، ولكنه بداية الحل، ومن لا يميّز بين يمين ويسار، بين عدوّ وحليف، يقوي اليمين الفاشي ويزيد حالة البؤس والضياع والانقسام الذي يسود اليوم الساحة الفلسطينية.