وقّعت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة هيلاري كلينتون ووزير خارجيّة مصر محمّد كامل عمرو على وثيقة اتّفاق وقف إطلاق نار بين حركتَي حماس والجهاد الإسلامي من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. وقد انتظر الطرفان يومين للحصول على موافقة الطرف الإسرائيليّ على الاقتراح الذي كان تلبية “لكلّ” ما طلبته حركة حماس: وقف العدوان على غزّة ووقف الاغتيالات وتسهيل الحركة في المعابر للناس والبضائع. انتظر خالد مشعل انتهاء المؤتمر الصحفيّ الذي عقده نتنياهو برفقة براك وليبرمان لكي يعلن رسميًّا عن نتائج لعبة القتل الأخيرة وعن فوز حماس الحاسم.
وقد تأمّل مشعل في وجوه القادة الإسرائيليّين قبل أن يعلن النصر، ووجد وجه نتنياهو “قاتمًا”، وقد وافقه في ذلك صحافيّ إسرائيليّ رأى في وجه القادة سحنة “حمضة”. كان تصريح نتنياهو جافًّا تباهى فيه بمفاجأة حماس واغتيال قائدها العسكريّ، ولكنّه لم يصرّح بأيّة إنجازات تذكر، وكلّ ما كان بوسعه فعله هو تقديم الشكر للعسكريّين وللمدنيّين، وخصّ بالشكر الرئيس أوباما، وهذا من أجل أن يوضّح للجميع أنّه رغم تأييده للمرشّح الجمهوريّ رومني، إلاّ أنّ أوباما لا يحمل أيّة ضغينة تجاهه ولن يردّ عليه بالمثل.
إذا تأمّلنا الإحصائيّات البحتة، فسنتوصّل إلى الاستنتاج المعاكس؛ فقد سقط خمسة قتلى إسرائيليّين مقابل 117 قتيلاً فلسطينيًّا من بينهم نساء وأطفال وعائلة الدلو بأكملها. أطلقت حماس أكثر من 1,000 صاروخ، أصابت منها 58 فقط أهدافًا مباشرة، في حين نفّذت إسرائيل 1,500 غارة جوّيّة على أهداف في غزّة وأصابتها بدقّة فائقة. لكنّ الإحصائيّات لا تعبّر عن الحقيقة ولا تستطيع أن تعبّر عن آلام الأمّهات الثكالى وعن مزاج الشعب الفلسطينيّ في غزّة. فخالد مشعل أبرز الورقة المصريّة الأمريكيّة ملوّحًا بانتصاره المزعوم، دون أن يولي اهتمامًا للكارثة الإنسانيّة التي تعيشها غزّة. وقد “بشّر” مشعل أهالي غزّة بأنّ هذه كانت فقط جولة من الجولات الكثيرة التي تنتظرهم.
بل وأكثر من ذلك، فقد عاد وأكّد مشعل من جديد أهمّيّة المقاومة، ودعا إلى الوحدة مع فتح مشترطًا بأن تكون على أساس المقاومة أوّلاً، التي ستؤدّي إلى التفاوض الدبلوماسيّ، مستشهدًا بما حدث في المعركة الأخيرة مع إسرائيل. فكتائب القسّام تقصف تل أبيب في الوقت الذي ينتزع مشعل الموافقة الإسرائيليّة على كلّ شروطه. وهنا يظهر للوهلة الأولى بأنّ مشعل قد عاد إلى معسكر الممانعة متناسيًا أنّ دمشق وطهران اتّهموه بالخيانة وأصبح شخصية غير مرغوب فيها في هذين البلدين. كان المشهد غريبًا، لأنّه وفي مطلع هذه السنة وفي اجتماع المصالحة مع فتح في القاهرة صرّح مشعل “أنّ حماس تعتزم تبنّي استراتيجيّة المقاومة الشعبيّة، كما انتشرت خلال السنة الأخيرة في الدول العربيّة المختلفة”، ممّا يعني التخلّي عن النضال المسلّح. تعرّض مشعل في أعقاب تصريحاته هذه لانتقادات شديدة. أمّا اليوم وبعد أن ترك معسكر الممانعة، عاد ليثني على الربيع العربيّ من ناحية وعلى المقاومة المسلّحة من ناحية أخرى، دون أن يعير اهتمامًا إلى التناقض الحادّ في أقواله وتصرّفاته.
وإذا أمعنّا النظر في الإنجازات التي يتباهى بها مشعل، فهي جاءت فقط لتكرّس سيطرة حماس على غزّة، دون أن يكون للضفّة الغربيّة أيّة علاقة بالموضوع. فحسب المعلّقين الإسرائيليّين، كان من مصلحة الحكومة الإسرائيليّة أن تمنح تسهيلات العبور في المعابر والسماح باستثمارات خارجيّة في غزّة من أجل تقوية اقتصادها وإضعاف حافز حماس لاستئناف قصفها الصاروخيّ. تنشد إسرائيل الهدوء في حدودها مع غزّة، ومستعدّة أن توقف الاغتيالات، ولا تبالي بأن تحظى حماس باعتراف دوليّ ودعم عربيّ رسميّ. فهذا يعزّز موقف إسرائيل وادّعاءها بعدم وجود شريك لها للسلام، وأنّ أبو مازن ضعيف ولا يمثّل الشعب الفلسطينيّ. شروط مشعل للوحدة مع فتح، التي تتلخّص في الاعتراف بدور حماس القياديّ وبانتهاج المقاومة كغاية للتحرير، هي بمثابة ذرّ الملح على جروح فتح. بكلمات أخرى، يريد مشعل الوحدة ولكن بشروطه، لأنّ مساعيه الحقيقيّة هي ترسيخ وجوده وسلطته في غزّة.
وفي الوقت الذي مدح فيه نتنياهو وشكر الرئيس أوباما، قام مشعل بالمبالغة في الثناء على الربيع العربيّ وتحويل ولائه من الوليّ الإيراني إلى الوليّ المصريّ، دون تردّد متجاهلاً موقفه السابق، الأمر الذي يُبرِز انتهازيّته. بالنسبة لمشعل، يجسّد محمّد مرسي الربيع العربيّ الذي يشمل كلّ العالم العربيّ من السودان إلى ليبيا وتونس مرورًا بمصر والأردن وسورية. أصبحت تركيا ومصر وقطر وصيّة على الربيع العربيّ الذي يتّسم باللون الأخضر الحماسيّ، ومن هنا يمكن التخلّي عن معسكر الممانعة وتبنّي الربيع الأخضر.
إلاّ أنّ الربيع العربيّ ليس أخضر، ومثله مثل معسكر الممانعة الذي لم يكن في الواقع سوى خدعة هدفها قمع الشعوب باسم المقاومة ضدّ إسرائيل. ليس صدفة أنّ وثيقة التفاهمات بين إسرائيل وحماس كانت من صنع أيدٍ مصريّة وأمريكيّة، وليس صدفة أنّ الرئيس أوباما كان على اتّصال مستمرّ مع محمّد مرسي وبنيامين نتنياهو إلى أن تمّ التوصّل إلى التفاهمات. وليس صدفة أنّه وبتزامن مع الإعلان عن وقف إطلاق النار، وقّعت مصر على اتّفاق مع صندوق النقد الدوليّ ستحصل من خلاله على 4,8 مليار دولار. وبموجب هذا الاتّفاق على الحكومة المصريّة أن تتبنّى خطّة تقشّف لتقليص العجز في الميزانيّة حسب معايير صندوق النقد الدوليّ، ممّا يعني تقليص الدعم للبنزين مثلاً، الأمر الذي سيؤدّي حتمًا إلى هبّة جماهيريّة ضدّ النظام.
فالإخوان المسلمون استبدلوا البرجوازيّة القديمة الفاسدة ببرجوازيّة جديدة، ورغم تمسّكهم بالشريعة الإسلاميّة، إلاّ أنّهم يتبنّون سياسة اقتصاديّة رأسماليّة، ولا يتوانون بالطبع عن الاقتراض بالربا. فالإسلام هو الحلّ كان شعارهم حين كانوا في المعارضة، أمّا وهم في الحكم فالحلّ بعيد عن الإسلام، وهو استمراريّة لنهج السوق الحرّة الكافرة. فما نراه في مصر هو صراع طبقيّ وسياسيّ حقيقيّ بين من يريد أن يكرّس الاقتصاد الرأسماليّ ونظام الاستغلال الذي تعاني منه الطبقة العاملة المصريّة من جهة وبين دولة دينيّة قمعيّة تكبح حرّية الرأي والإبداع، وحتّى حرّية الإيمان من جهة أخرى. كان صانعو ثورة 25 يناير الشباب الثوّار والعمّال الذين طالبوا “بالعيش والحريّة والدولة المدنيّة والعدالة الاجتماعيّة”، بينما تأخّر الإخوان المسلمون في الانضمام إلى الثورة، واليوم يريدون كعادتهم احتكار الثورة، كما تفعل حماس التي تحتكر النضال الفلسطينيّ وتمحو التاريخ النضاليّ الذي كان قبل ظهورها.
رغم وجه نتنياهو “القاتم”، فإنّ استجابته “لكلّ” شروط حماس ليست سوى استجابة لكلّ شروط حليفه أوباما وصديق أمريكا الجديد مرسي. والأمر الهامّ في وثيقة التهدئة ليس التنازلات لحماس بل الضمانات التي حصلت عليها إسرائيل من مصر وبرعاية أمريكيّة. مصر احتضنت حماس لكي تحتويها، وإسرائيل وبعد تجربة مريرة وفشلها في إيجاد حلّ لغزّة، لا بدّ أن تستسلم للوعود المصريّة بكبح حماس ومنعها من تجديد ضرب الصواريخ. فكما أنّ إسرائيل لا تريد أن تحتلّ غزّة من جديد، حماس أيضًا من جانبها لم يبقَ لديها حليف سوى مصر، وهذا ما أتاح التفاهم غير المباشر بين الطرفين.
العبرة من كلّ هذه الحرب بسيطة، حماس أصبحت لاعبًا مركزيًّا على الساحة، لأنّ أبو مازن أخفق تمامًا في نهج المفاوضات ولم يجنِ أيّة فائدة من علاقاته الأمنية مع إسرائيل. هذا الاتّفاق بين إسرائيل وحماس يضع السلطة الفلسطينيّة على كفّ عفريت. فالدلالة الحقيقيّة للاتّفاق هي أنّ حماس ستُحكِم سيطرتها على غزّة، ومن جهة أخرى سيرسّخ نتنياهو سيطرته على الضفّة الغربيّة. الانقسام الفلسطينيّ تَعمَّق رغم كلّ الأحاديث حول المصالحة والوحدة، ومن يدفع الثمن هو الشعب الفلسطينيّ دون أدنى شكّ.
تعيش غزّة في ظلّ الفقر والبطالة، وكذلك الضفّة الغربيّة. سيؤدّي هذا الوضع إلى انتفاضة فلسطينيّة جديدة، لكنّها هذه المرّة لن تكون ضدّ إسرائيل بل ضدّ السلطتين الحاكمتين في الضفّة الغربيّة وفي قطاع غزّة. إنّ الربيع الفلسطينيّ ليس ربيع فتح ولا حماس، بل ربيع الشباب والعمّال كما هو في مصر وسورية وتونس، فإذا لم يحدث ربيع فلسطينيّ لن تتحرّر فلسطين. إسرائيل لا تخشى حماس ولا فتح، لكنّها تخشى الشعب الأعزل الذي سينتفض بمقاومة سلميّة مطالبًا بالحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.