لا داعي للقلق، الاضطرابات في المناطق الفلسطينية هدأت، كما أنّ الانتفاضة الفلسطينية الثالثة لم تحدث في أيلول 2012. قبل سنة بالضبط كان من المفروض أن تنشب انتفاضة في المناطق الفلسطينية على أثر توجّه أبو مازن إلى مجلس الأمن بهدف الحصول على اعتراف بفلسطين كدولة مستقلّة. قبل سنة أخطأت المخابرات الإسرائيلية وضلّلتنا، وهذه المرّة في حين انشغل الإسرائيليون في التفكير في طريقة للاحتفال بالأعياد بسلام، لم تتوقّع المخابرات كعادتها، حدوث الاحتجاج الفلسطيني، الذي نشب على أثر ارتفاع أسعار الوقود نتيجة لقرار الحكومة الإسرائيلية التي تحاول سدّ العجز في ميزانيتها. بعد أن أصاب الإعياء متظاهري شارع روتشيلد في تل ابيب، انتقلت راية الاحتجاج إلى الفلسطينيين، الذين عانوا الأمرّين من غلاء المعيشة. وما الغرابة في ذلك؟ فهم أيضًا تعوّدوا بعد أربعين عامًا على أكل اللبن الاسرائيلي!كان الردّ الفلسطيني سريعًا للغاية، وأقلّ تهذيبًا من احتجاج روتشيلد. صرخ الفلسطينيون بأعلى صوتهم متوجّهين إلى رئيس حكومتهم: “ارحل!”. لم يضطرّ نتنياهو لإقامة لجنة لإرضاء المتظاهرين، وكلّ ما فعله هو تحويل سلفة بمبلغ 250 مليون دولار من أموال الضرائب التي يجبيها لصالح السلطة الفلسطينية، لتتمكّن هذه الأخيرة من دفع جزء من رواتب شهر آب لمستخدميها. سلام فيّاض أيضًا اضطرّ للإعلان عن إلغاء الارتفاع الذي في أسعار الوقود وعن خفض نسبة ضريبة القيمة المضافة من %17 (النسبة في إسرائيل) إلى %15.
اقتصاد الاحتلال
الاحتجاج الفلسطيني، كسائر الاحتجاجات العربية، ليس موجّهًا إلى إسرائيل، وهذا ما يقلق نتنياهو. الكراهية ليست موجّهة إلى اليهود، وإنّما إلى من يخدمهم. يدرك الفلسطينيون الذين يتظاهرون جيّدًا أنّ المظاهرات ضدّ الحواجز تخدم رؤساء السلطة الفلسطينية، الذين يروقهم اتّهام الاحتلال بكلّ مساوئ المجتمع الفلسطيني، والتنصّل من أيّة مسؤولية. إلاّ أنّ الاحتلال الإسرائيلي، منذ توقيع اتّفاقيات أوسلو، يرتدي زيًّا جديدًا. قامت إسرائيل بنقل السيطرة على السكّان الفلسطينيين إلى “تعاقد خارجي” عن طريق “مقاول خدمات” المتمثّل بالسلطة الفلسطينية، الأمر الذي من المفترض أن يحافظ على الأمن وأن يوفّر الخدمات التي يحتاجها السكّان، بتمويل الدول المانحة التي تشمل الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة والدول العربية الغنيّة.
وككلّ المقاولين، تجني السلطة الفلسطينية أرباحًا هائلة على حساب العمّال، وأموال المساعدات تزيد من ثراء قادة السلطة الفلسطينية ورجال الأعمال المقرّبين والموظّفين والشرطيين الذين يقومون بوظائف غير واضحة المعالم. تحت هذه الطبقة الصغيرة يتواجد معظم أفراد الشعب الذين يعانون من نسبة بطالة تبلغ %30، في حين يبلغ الأجر اليومي للعامل 50 شيقل فقط. إلاّ أنّ هذا النهج لا يمكنه أن يستمرّ إلى الأبد، ولا بدّ أن يثور الفلسطينيون ضدّه بين الفينة والأخرى. هذا هو الواقع الذي أدّى إلى نشوب الانتفاضة الثانية وإلى تولّي حماس السلطة، وهو الذي يخلق الظروف المواتية لنشوب انتفاضة ثالثة، التي ستكون هذه المرّة ضدّ “المقاول”، من أجل التخلّص من الوهم الذي يدعى دولة فلسطينية.
من الناحية الاقتصادية، نعيش جميعًا في دولة ثنائية القومية، بحيث السيادة في هذه الدولة هي للحكومة الإسرائيلية في جميع المجالات الاقتصادية: بنك إسرائيل، من خلال العملة (الشيقل)، يحدّد السياسة النقدية في السلطة الفلسطينية، في حين يقرّر وزير المالية السياسة المالية من خلال “الإطار الجمركي” المشترك للكيانين. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ السيطرة الاقتصادية لا تلزم إسرائيل، لأنّ القانون الإسرائيلي لا يسري على السلطة الفلسطينية. لذلك قوانين العمل والتأمين الوطني وجميع الخدمات العامّة القائمة في إسرائيل لا تسري على سكّان السلطة الفلسطينية.
النتيجة الحتمية لكلّ ذلك هي مأساة اجتماعية صعبة: الأسعار هي أسعار إسرائيلية، في حين أنّ الخدمات والأجور هي كتلك التي في الدول المجاورة. الفقر يستشري ومعه الغضب من رؤساء السلطة الفلسطينية ومقرّبيها، الذين يجنون فائدة من هذا النظام الحاكم السيّئ. الوضع الاقتصادي يشبه جدًّا الوضع في سورية ومصر والأردن، ولذلك الربيع الفلسطيني الذي يسير بخطوات بطيئة، يمكنه أن ينفجر في أيّة لحظة.
ساهمت الأزمة الاقتصادية في أوروبا والولايات المتّحدة هي أيضًا في نشوب الاحتجاجات. الدول المانحة تراجعت عن تمويل السلطة الفلسطينية. الربيع العربي أتاح لها فرصًا جديدة في ليبيا وفي مصر، في حين أنّ الأموال التي تحصل عليها السلطة الفلسطينية لبناء اقتصاد منيع، لا تبني الاقتصاد، وإنّما تموّل الطبقة الوسطى الفلسطينية التي تستهلك ولا تنتج. الرفض الإسرائيلي للتوصّل لحلّ سلمي وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة يمنح إحساسًا بصرف أموال سويّة من أجل هدف غير سويّ. فإذا كانت الدولة الفلسطينية مجرّد حلم لن يتحقّق، فلا حاجة لتبذير الأموال على هذا الحلم.
من جهة أخرى، ساهمت أموال المساعدات في خلق وهم استهلاكي كبير. العجز الناجم عن الفجوة بين أجر الموظّفين وبين الارتفاع الدائم في غلاء المعيشة، تمّ تسديده بواسطة قروض سخيّة من البنوك، التي انتشرت في السنوات الأخيرة كالنار في الهشيم. والآن عندما نرى تراجع الدول المانحة عن تقديم المساعدات المالية وتفاقم العجز في موازنة السلطة الفلسطينية، من الواضح للجميع أنّ “الاحتفال” على وشك الانتهاء. كما يحدث دائمًا، الطبقة الوسطى المتعلّمة التي يستند إليها النظام الحاكم، هي التي تملك القوّة والقدرة على التظاهر. إذا كانت الطبقة الوسطى قد جنت في الماضي ثمار اتّفاقيات أوسلو واقتنت السيّارات واقترضت قروض الإسكان، فإنّها اليوم عاجزة عن تسديد هذه القروض، وتشعر بأنّ الأرض تهتزّ تحت أقدامها. عدم دفع الرواتب وارتفاع أسعار الوقود ونسبة ضريبة القيمة المضافة، أخرجت أبناء الطبقة الوسطى إلى التظاهر. كما حدث في الدول العربية، أتاح احتجاج الطبقة الوسطى ظهور احتجاج الفقراء، الذي سيكون بطبيعة الحال عنيفًا وغاضبًا.
السلطة الفلسطينية على وشك الإفلاس
كما يحدث في اليونان وإسبانيا وإيرلندا، السلطة الفلسطينية أيضًا على وشك الإفلاس. إلاّ أنّه لا توجد هنا في المنطقة ألمانيا أو بنك أوروبي أو يورو، بل توجد إسرائيل وبنك إسرائيل والشيقل مكانها. من المستحيل أن يقرّر بنك إسرائيل تقديم مساعدات لإنقاذ السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي لا يستطيع فيه مساعدة مليون فقير في إسرائيل. “الأقربون أولى بالمعروف”، وعلى فقراء الحكم الذاتي التدبّر بمفردهم.
إلاّ أنّ إفلاس “المقاول” المتمثّل بالسلطة الفلسطينية يترك “المستخدِم” أمام خيار صعب. القانون الجديد الذي يلقي بمسؤولية توفير شروط عمل عمّال المقاول على عاتق المستخدِم، يمكنه أن يسري في هذه الحالة أيضًا. سقوط السلطة الفلسطينية يجعل إسرائيل المسؤولة الوحيدة عن الأراضي المحتلّة، وكلّما اتّسع نطاق سيطرتها ونطاق المستوطنات، ازدادت مسؤوليتها تجاه الفلسطينيين المسجونين خلف جدار الفصل العازل.
يطالب المتظاهرون الفلسطينيون بإلغاء اتّفاقيات باريس، التي توطّد ارتباطهم بالاقتصاد الإسرائيلي، آملين بأنّ هذا الإلغاء سيضع أساسًا اقتصاديًّا لإقامة دولة مستقلّة. إلاّ أنّ ذلك مثال “السمّ في الدسم”؛ فالاستقلال لا يعني فقط التحكّم بالنقد وبالسياسة المالية، بل أوّلاً وقبل كلّ شيء تحديد المنطقة الجغرافية التي تسري عليها القوانين والاقتصاد الفلسطيني، وهذه المسألة، كما نعلم جميعًا، ترفض إسرائيل التفاوض فيها، وبناء المستوطنات يجعلها غير قابلة للحلّ. لهذا السبب المطالبة بإلغاء اتّفاقيات باريس هي مثال “الذين حضّروا المذاود قبل حضور البقر”. الطريقة التي من الممكن التحرّر بها من إسرائيل اقتصاديًّا هي أوّلاً وقبل كلّ شيء التحرّر سياسيًّا، أي إلغاء اتّفاقيات أوسلو التي كانت أكثر فائدة لإسرائيل ومسّت بالفلسطينيين بشدّة، وبذلك تفقد اتّفاقيات باريس مفعولها.
يدير نتنياهو حملة واسعة النطاق في وسائل الإعلام في المسألة الإيرانية، ولا يتردّد في التفكير في إرسال طائرات حربية إلى بُعد 3000 كم لإنقاذ إسرائيل من كارثة وجودية وهمية، في حين تهتزّ الأرض على مقربة من بيته، والفلسطينيون يزجّون بأنفسهم مرّة أخرى وبمدًى أكبر في الأجندة الإسرائيلية. سياسة نتنياهو الاقتصادية وفقدان بصيرته السياسية ينذران بجولة عنف جديدة.
رغم جميع محاولات تجاهل المشاكل، لا بدّ أن يأتي يوم الحسم. تقترب اللحظة التي ينبغي على إسرائيل فيها الاختيار بين العودة إلى الحكم العسكري والمدني الكامل في الأراضي المحتلّة، وبين الانسحاب وهدم المستوطنات، لإتاحة الإمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة. بما أنّنا لا نرى حلاًّ سياسيًّا يلوح في الأفق، يبقى نشوب الربيع الفلسطيني الخيار الوحيد. نتنياهو كحال الأسد، يستطيع إرسال جنوده لقمع مظاهرات الفلسطينيين الفقراء والعاطلين عن العمل. نتنياهو كحال الأسد، سيفقد شرعيّته والدولة التي يترأّسها.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.